جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

قلب بلا حب
للشاعر صالح علي الشرنوبي

بين 1924 و1951 عاش الشاعر المصري صالح على الشرنوبي. وحين غادر الحياة وهو في سن السابعة والعشرين كان قد أنجز في عمره القصير إبداعا شعريا متميزا، ولغة شعرية شديدة التفرد، ونغما له عذوبته الخاصة الأسرة، في وتر الشعر العربي المعاصر.

في مدينة بلطيم المطلة على بحيرة "البرلس" من ناحية والبحر الأبيض المتوسط من ناحية أخرى وبحر تيرة من ناحية ثالثة- وهي إحدى مدن محافظة كفر الشيخ الآن- حيث تطل البيوت والمساكن على ربوات عالية، ويطل آهلوها على الماء والمزارع الممتدة الممتلئة بأشجار النخيل والفاكهة- في هذه المدينة ولد شاعرنا وعاش. وأتيح له أن يحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وأن يوجهه أبوه إلى الالتحاق بمعهد القاهرة الديني- أحد معاهد الأزهر الشريف- حيث أتم المرحلة الابتدائية وجزءا من المرحلة الثانوية قبل أن يلتحق بمعهد طنطا الديني، وفي مدينة طنطا تفتحت موهبته الشعرية، وبدأ اتصاله بالمنتديات الأدبية والعلمية، وتهيأ بعد إنهاء دراسته الثانوية لدخول كلية دار العلوم حيث تركزت أمنيته في إتمام تعليمه الجامعي منشدا: إلى دار العلوم شددت رحلي! لكنه يفشل في تحقيق أمنيته بعد أن رسب في الاختبار الشفهي بسبب عدم حفظه للقرآن الكريم.

وقصيدة الشرنوبي "قلب بلا حب" تصور- كما تحكي مقدمة ديوانه- الذي حققه الدكتور عبدالحي دياب وراجعه الدكتور أحمد كمال زكي- واحد من المواقف الأليمة التي كان لها أثر عميق في وجدانه أدى به إلى التشاؤم والمزاج السوداوي انتهاء بالتصوف والهيام والشرود. فقد شد الرحال لخطبة إحدى قريباته التي تعلق بها قلبه، لكن أسرتها استقبلته استقبالا مهـينا، وجعلت من رغبته مادة للمزاح والتندر. وتتزلزل نفس الشاعر، وينفجر بركان غضبه وثورته، ويظل الجرح يحز وينزف في داخله وهو يتخيل إنسانة تحبه وتعطف عليه، فيهدي قصيدته إلى "حواء أوهامي" التي يقول في مستهلها:

تعالي يا ابنة الأحلام يا مجهولة الذات
تعالي يا ضياءً لم يُنَور أفق ليلاتي
تعالي يا رحيقا لم يزل يروي خيالاتي
تعالي يا غراما تاه في دنيا الصبابات

وفي القصيدة روح الأداء الرومانسي في الشعر، الذي تجلت ملامحه وقسماته في شعر إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وصالح- جودت ومحمد عبدالمعطي الهمشري، وقد عرفهم شاعرنا عن قرب وحين كان يخطو خطراته الأولى كانت أسماؤهم تملا الأسماع، ودواوينهم بين أيدي الناس، باعتبارهم من أبرز الأصوات الشعرية في جماعة "أبوللو" التي مثلت موجة شعرية بارزة في حركات التجديد الشعري، وكان شعرها- في مجمله- إرهاصا وتأكيدا لمزاج شعري جديد، وحساسية جديدة، ولغة مختارة منتقاة، وخيال شعري جامح، وثورات في مفهوم التجربة الشعرية المنطلقة دوما من دائرة الذات، التي يرى من خلالها العالم، وتستشعر أصداء الكون، ويموج الوجود كله مصطبغا بحالتهـا الشعورية، وألوانها المزاجية، وإيقاعها الموسيقي الداخلي.

في قصيدة الشرنوبي قدرة فذة على التصوير، وتجسيد المعنويات، وتشخيص الجمادات، وإنطاق عناصر الكون ومفرداته، والامتزاج بما في الطبيعة من لوحات ومشاهد وآثار وتخوم، وقدرة على التحليق إلى عالم أسمى، تسبح فيه القيم العليا والمثاليات الرفيعة، وصور النقاء والتطهر، والحرص على المعنى الإنساني تعبيرا عن حقيقة الإنسان.

وفي القصيدة هذا النداء الضارع المستمر الذي تجسده كلمة: تعالي، وهو نداء يذكرنا بنداءات مثله في قصائد الشابي والهمشري وعلي محمود طه، كما يذكرنا بترجمات عدة لعدد من الشعراء الرومانسيين الإنجليز والفرنسيين، ترجمت قصائدهم إلى العربية، وكان لأنغامهم تأثيرها السريع والفعال في قصائد شعراء جماعة أبوللو، الظماء لأصداء شعرية جديدة تجيئهم من الشمال عبر البحر، من هنا كانت لهفتهم على استقبال شعر كيتس وشيللى وبايرون ووردزورث ولامارتين وألفرد دي موسيه وألفرد دي فيني وغيرهم، وكان اهتمامهم العميق بشعر الطبيعة، والتأمل، وتجارب الوحدة، والانعزال، وشيوع حالات الاغتراب والكآبة والتشاؤم في العديد من قصائدهم وتجاربهم الشعورية.

من هنا، تشيع في قصيدة الشرنوبي- وفي سائر شعره - مفردات البيئة التي عاش فيها وتأثر وانفعل، ويسطع نجمه الشعري بمفردات الطبيعة المصرية في تلك المنطقة الساحلية المتاخمة للبحر والبحيرات وأشجار الفاكهة والنخيل. تطالعنا من بين مفردات هذا المعجم صورة "الربيع الطلق" و"العطر الندي" والربى "المنضورة" و"الكرمة" الظمياء الأزاهير، والحارس اليقظان الموهوب المزامير والكرمة التي هام بها الحارس، ومعجم التوحد والعزلة والوحشة "وحدي.. غريب القلب والدار" "طريد مثل أيامي شريد مثل أفكاري" "نروي ظمأ الدنيا بما يوحي به القلب" "تركناه بلا ري وفينا المنهل العذب".

ويقول محقق ديوان صالح علي الشرنوبي وجامعة إنه يشتمل على إحدى عشرة كراسة جعل لكل منها عنوانا ومن بينها: أصداف الشاطئ، الأمواج، نسمات وأعاصير، في موكب الحرمان، وطنيات، أقاصيص في الحب والحياة، أشعار ورسوم، ظلال وألوان، مع الريح.

وفي عام 1952 نشرت للشرنوبي مجموعة شعرية صغيرة تحمل عنوان "نشيد الرصفاء" جمعها الشعراء صالح جودت وحسن عبدالوهاب وأحمد خميس أصدقاء الشاعر ورفاقه - واعتبروا نشر هذه المجموعة جهد المقل لأنهم لم يتمكنوا من نشر جمعي قصائده.

وفي السطور التي قدم بها الدكتور أحمد كمال زكي لديوان الشرنوبي، يقول:

عندما يؤرخ للشعر العربي المعاصر سيوضع صالح على الشرنوبي في مقدمة مرتاديه، ولن يكون صغر سنه بين الرواد ألا دليلا على صدقة موهبته.

لقد عاش لا يربط نفسه الطموح بأثقال حياة معينة، لكنه كان مؤمنا بالشعر من حيث هو رسالة، ومن حيث هو أداة تفريج عن كرب طالما لاحقته، وما من عمل اضطر إلى توليه- بحكم الظروف- إلا وجعله على الهامش من مسئولياته المعيشية.

كان إنسانا فذا.

وكان فنانا لا يشغل نفسه بأكثر من أنه يريد أن يقول، وسيقول برغم كل شيء وسيسمع الناس منه اليوم أو غدا، ولما مات بكاه معارفه، وقال بعض النقاد: إنه لو عاش لبذّ أعلام الشعر المعاصر قاطبة.

والآن مع صالح على الشرنوبي في قصيدته "قلب بلا حب"..

قلب بلا حب

"إلى حواء أوهامي"

تعالي يا ابنة الأحلام يا مجهولة الذات
تعالي يا ضياء لم ينور أفق ليلاتي
تعالي يا رحيقا لم يزل يروي خيالاتي
تعالي نجمع الماضي الذي راح إلى الآتي
تعالي يا غراما تاه في دنيا الصبابات

***

تعالي فالدم الفوار يغلي في شراييني
تعالي فالهوى الثرثار مازال يناديني
جموحا ثائر النزوة مشبوب الأرانين
وهاتيك أغر يدي أغنيها فتبكيني
وأحلام الصبا المحروم أطويها وتطويني

***

تعالي من وراء الغيب كالتهويمة النشوى
كوحي دافق الأنوار... كالإلهام... كالنجوى
كسرٍّ في سماء الله لا ندري له فحوى
تعالي... لم يعد في الكأس نسيان ولا سلوى
تعالي ... لم يعد في الكأس إلا المر والشكوى

***

تعالي كالربيع الطلق ضحيا الأسارير
نَدِيَّ العطر منضور الرُّبَا... نشوان بالنور
تعالي فهنا الكرمة ظمياء الأزاهير
وهذا الحارس اليقظان موهوب المزامير
وفي أنغامه تخفق أشباح الأساطير..!

***

تعالي فهنا الحارس قد هامت به الكرمة
سقاها الحب من كفيه ناي ساحر النغمة
سقاها الحب ... فانداحت أغانيها من النسمة
تُحيِّي موكب العشاق منسابين في الظلمة
وفي كل يد خصر وفي كل فم بسمة

***

تعالي طَهِّري بالحُبِّ آثامي وأوزاري
تعالي فأنا وحدي غريب القلب والدار
طريد مثل أيامي شريد مثل أفكاري
تعالي واسكبي سرك في أعماق أسراري
فقد تبعث أنفاسك ما يطويه قيثاري

***

تعالي نخلق الحب فقد يخلقنا الحب
لنروي ظمأ الدنيا بما يوحي به القلب
فقد يخنقنا التراب ولم نعشق ولم نصب
وننسى أننا "كنا" وفي أيامنا جدب
تركناه بلا ري وفينا المنهل العذب

***

تعالي ... فالرَّدَى الجبار لا يحنو ولا يرحم
وهذا سيفه المخضوب لا يَبْلى ولا يُثْلَم
يُريني ومْضُه ما لا يريني ظِلُّه الأقتم
تعالَيْ فالغدُ المرهوبُ.. غيمان السَّنَا مُبْهَم
ويا ضيعةَ دُنْيانا إذا وَلَّى ولم نعلَمْ.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات