أكبر تظاهرة حضارية عربية في باريس.. "سورية ، ذاكرة وحضارة" صالح الأشمر

أكبر تظاهرة حضارية عربية في باريس.. "سورية ، ذاكرة وحضارة"

في معرض أثري يمتد إلى مليون سنة

لم يكن معرضا أثريا عاديا هذا الذي أقيم في معهد العالم العربي في باريس تحت عنوان "سورية، ذاكرة وحضارة" ولكنه تظاهرة حضارية ثقافية كبرى لم يسبق لمعرض آخر عن سورية أن كان بمثل هذا الشمول والتناسق والغنى في القطع المعروضة على مدى زمني هائل يمتد من مليون عام حتى القرن الماضي.

احتوى ذلك المعرض لا على ذاكرة بلاد الشام فقط ولكنها شملت أيضا ذاكرة بلاد ما بين النهرين في إطار الدائرة الحضارية الكبرى للمشرق العربي القديم، دائرة تفاعلت فيها إبداعات شعوبها القديمة الأصيلة والشعوب الوافدة العابرة منها والمتأصلة، وما أنشأوا من ممالك وأسسوا من عمران، وابتكروا من معارف وخاضوا من حروب: سومريون وحوريون وحتبون وأكديون وآشوريون وآراميون وعرب، بل هي الحضارة المؤسسة لكل حضارات البحر المتوسط، وذاكرة الصراع والتفاعل بين الشرق والغرب منذ انتصار الإسكندر المقدوني على الفرس في موقعة إيزوس عام 333 قبل الميلاد، وما تلا ذلك من عهود إغريقية ورومانية وبيزنطية حتى قيام الإسلام وتأسيس الدولة العربية معيدة لسورية والشرق العربي كله هويته الأصيلة لتبدأ دورة حضارية جديدة في الاتجاه المعاكس من الشرق إلى الغرب حيث بلغ التفاعل الحضاري أوجه في الأندلس العربية وما تلا ذلك من عهود إسلامية حتى أواخر العهد العثماني.

إذن، هي ذاكرة الشرق والغرب معا ينعشها في هذه لأيام معرض سورية الأثري، هذا الذي يوجز رئيس معهد العالم العربي انطباعه عنه، إذ يقول للعربي بعد جولة تفقدية على المعرض سبقت افتتاحه رسميا مساء لثالث عشر من أيلول/ سبتمبر 1993 ويستمر حتى نهاية الشهر الجاري في حضور وزيرة الثقافة السورية الدكتور نجاح العطار ونظيرها الفرنسي جاك توبون: "أول ما يستوقفني في هذا المعرض ويدعوني للتأمل هو معنى الزمن في استمراريته، فها هنا حجر عمره مليون عام قطعته يد الإنسان وأحسنت نحته وصقله، فجاء جميلا متقنا، ومذ ذاك ما انفكت تتوالى آثار عمل الإنسان في أرض سورية بلا انقطاع، هناك نشأت المدن، واخترعت الأبجدية، وتبدت الحضارات المتعاقبة في حوض البحر المتوسط، ونراها  هنا تنبثق كترسبات من طبقات متتالية حتى أحدث العصور".

مسار هذه الرحلة الحضارية الفذة يقتفيه على نحو مثير للإعجاب مصمم المعرض فيليب كوفمان أحد أبرز مهندسي المعارض والمتاحف الفرنسيين معتمدا هندسة داخلية وتوزيعا للقطع على أحقابها في إنارة متميزة تتناغم وأجواء كل مرحلة حضارية، فالمعرض يبدأ برواق ظليل ينساب متلويا كأنما يحكي بزوغ فجر الإنسانية وتقدمها المتعثر على درب التقدم الطويل، وعلى جوانب هذا الرواق تتوزع نماذج من أولى الأدوات التي صنعها الإنسان القديم في سورية متدرجة تنوعا وإحكام صنعة، ومع كل نموذج من هذه الأدوات التي لا يبعد أحدها عن الآخر بأكثر من خطوة مسافة زمنية تعد بآلاف السنين.

ولا تلبث وتيرة تقدم المهارة الإنسانية وتنوع حاجاتها أن تتسارع مع اقتراب الألف العاشر قبل الميلاد لتبدأ مرحلة التحول الحاسم من حياة القنص والالتقاط والتنقل إلى الاستقرار في بيوت من صنع الإنسان لا تلبث أن تشكل قرى تجمع إلى الصيد والالتقاط ممارسة الزراعة وتربية الحيوان مقدمة لنشوء المدن، وتمثل هذه المرحلة مجموعة من القطع الأثرية التي عثر عليها في العديد من المواقع السورية، وبخاصة في موقع "مريبط " تلك القرية التي نشأت على الفرات الأوسط منذ ما يقرب من عشرة آلاف سنة وكانت من أقدم الأماكن التي عرفت الزراعة وتربية الحيوان في العالم ما يجعل سورية وبلاد الرافدين مركز انتشار هذين الابتكارين الحاسمين نحو الشرق والغرب حتى أوربا.

بعد ذلك يفضي المعرض إلى القاعة المركزية التي تحتوي على تحف ونقوش وتماثيل تعود إلى عهد ازدهار المدن السورية القديمة، في الألف الثالث قبل الميلاد مثل ماري وإبلة وأوغاريت وإمار وغيرها من المدن التي كان لاكتشافها تأثير كبير في مجال معرفة تاريخ سورية وبلاد الرافدين كشف عن جوانب كثيرة كانت لا تزال غامضة منه، وحرر تاريخ سورية القديم من مجرد التبعية لما بين النهرين إلى كيان سياسي حضاري متميز وإن لم يخرج عن الإطار الجامع بين كل التعبيرات الحضارية التي شهدتها المنطقة في تلك العهود السحيقة، وقد تم ذلك عن طريق الوثائق التي عثر عليها في كل من ماري وإبلة على شكل رقم منقوش عليها بالمسمارية، وباللغات السومرية والأوغاريتية والآرامية معلومات اقتصادية وسياسية ودينية على جانب كبير من الأهمية، ونرى نماذج من هذه الرقم في هذه القاعة التي يجثم عند ركني عتبتها أسدا ماري اللذان كانا يحرسان أحد معابدها قبل دمارها ونهبها على يد حمورابي عام 1761 قبل الميلاد، وهما يلتقيان هنا للمرة الأولى منذ اكتشافهما عام 1937 في موقع تل حريري ونقل أحدهما إلى متحف اللوفر، والثاني إلى متحف حلب.

وتلي ذلك آثار إغريقية ورومانية، أهمها رأس تمثال فيليب العربي ابن مدينة شهبا في حوران الذي أصبح إمبراطور روما بين عامي 244 و 249 بعد الميلاد والذي اشتهر برد هجمات البرابرة على نهر الدانوب واحتفاله بالذكرى الألفية الأولى لإنشاء روما وتميز بتشجيعه الآثار المعمارية والفنية الرومانية- الشرقية وكانت مأثرته في سورية إقامة المدينة المعروفة باسمه "فيليبو بولس " في مسقط رأسه الشهبا، ورأس التمثال مدهش في ملامحه السورية العريقة وبالإكليل الذي يتوج رأسه على شكل عمامة.

وتنفرد آثار مملكة تدمر النبطية العربية بمكانة متميزة في المعرض، تلك العاصمة التي قيض لها أن تلعب دورا خطيرا بقيادة ملكتها زنوبيا "أو زينب " الصحراوية، في تاريخ المنطقة ومحاولتها تأسيس إمبراطورية عربية بسطت سلطتها على سورية ومصر وآسيا الوسطى قبل أن تحشد لها روما جيوشها بقيادة الإمبراطور أورليان الذي هزمها عام 272 قبل الميلاد  وقادها أسيرة إلى روما، وتتميز آثار تدمر بأسلوبها الفني البديع في فن النحت الذي نجد في المعرض نماذج منه بالغة الجمال والقوة التعبيرية.

وتتوزع الآثار البيزنطية على رواق أو ممرضا المعرض كمرحلة انتقالية إلى سورية الإسلامية، ويفضي هذا الرواق إلى القاعة الكبرى الخاصة بالآثار العائدة إلى العصور الإسلامية، وهناك نرى العديد من التحف والخزفيات والأواني الزجاجية والأدوات الطبية والفلكية ومخطوطات قرآنية وكتبا علمية تمثل عهودا إسلامية عدة، وتتميز بوجود قطع نادرة من العصر الأموي أبرزها تمثال فقدت بعض أجزائه يعتقد أنه للخليفة هشام بن عبدالملك وقد عثر عليه في قصر الحير الغربي.

ولإلقاء مزيد من الأضواء على هذا الحدث التقت العربي الدكتور عدنان البني المفوض العام للمعرض مدير التنقيب والدراسات الأثرية، وعضو مجلس الآثار في سورية، وكانت فاتحة الحديث ما يمتاز به هذا المعرض عن المعرض الذي أقيم منذ عشر سنوات في القصر الصغير "بيتي باليه " في باريس تحت عنوان "في بلاد بعل وعشتار"، فقال:

"ما يميز المعرض الحالي غناه بالمكتشفات الأثرية الجديدة التي تمت منذ عام 1983، وزيادة كبيرة في القطع المعروضة التي لم يخرج معظمها من سورية قبل الآن، واستعارة قطع من بعض المتاحف الأوربية والأمريكية لا لنقص في متاحفنا الوطنية ولكن توخيا لحسن التمثيل وبخاصة للفن الإسلامي الذي يحتل في هذا المعرض مكانة كبيرة علاوة على أسلوب العرض المتطور من حيث البساطة في توزيع القطع وعدم اكتظاظها والإنارة الصحيحة التي تبرز جمال المعروضات في أقسام المعرض عبر تسلسل زمني منطقي ومترابط، وقد عنينا بتقديم النوعية على الكمية فلم نقصد إلى تقديم الضخم من القطع ولكن ما يمتاز منها بالمستوى الفني الرفيع وبالمغزى التاريخي، كما توخينا إبراز الدور الحضاري السوري في مختلف  أبعاده وأزمنته، وأقصد بالسوري بلاد الشام من حيث إنها وحدة حضارية متكاملة، كذلك يرافق المعرض كثير من الفعاليات الثقافية والعلمية والفنية السورية ما يجعله تظاهرة ضخمة لها مغزى عميق في هذه الظروف من حيث العودة إلى التعريف بدور العرب الحضاري وبخاصة في سورية ماضيا وحاضرا".

ومن عديد القطع التي تخرج من سورية للمرة الأولى لتقديمها في هذا المعرض يذكر الدكتور عدنان البني التمثال الذي ينتسب عادة إلى هشام بن عبدالملك مشيرا إلى أن ثمة نقاشا فيما إذا كان صاحب التمثال هو هشام فعلا لكنه على أي حال يبدو تمثالا لرجل عربي أموي من المرجح أن يكون خليفة وبخاصة أن على رأسه تاجا على عمامة، وهناك تمثال آخر ملك لمدينة سيكانة في الجزيرة السورية واسمه حدد - يسعي وهو يحمل نصين بالآرامية والمسمارية ويمثل طراز الفن السوري في الألف الأول قبل الميلاد، وتمثال ملك إبلة ولعله أقدم تمثال عثر عليه في الشام حتى الآن، وتمثال إشتوب- ايلوم ملك ماري من الألف الثانية قبل الميلاد وكان قبل زمري ليم آخر ملوكها، ورأس فيليب العربي ابن مدينة شهبا الذي أصبح إمبراطور روما وبنى المدينة المسماة باسمه فيليبو بوليس في مسقط رأسه على الطراز الروماني وبالغ في بنائها وهندستها وفاء منه لبلاده وإعلاء من شأنها. ويتوقف الدكتور البني طويلا عند الإسهامات السورية الكبيرة في الدولة الرومانية والشخصيات العديدة التي لعبت فيها أدوارا مهمة من مهندسين ورسامين وحقوقيين وفلاسفة، فضلا عن خروج عدد آخر من الأباطرة منها وأولهم سيفروس وكان نصفه ليبيا وتزوج سورية اسمها جوليا دوما كما تزوجت أخوات لها وقريبات من أباطرة وأنجبن أباطرة وكن يسمين "سيدات الجنس البشري ".

ويذكر شخصية سورية مهمة أخرى هي إيلا غابان كاهن معبدالشمس في حمص الذي نقل المعتقدات السورية إلى روما، وأبولودور الدمشقي الذي كان بمثابة وزير للأشغال العامة في عهد الإمبراطور تراجان الذي اشتهر ببنائه العمود التراجاني والعديد من المباني في روما، وقد ألف الدكتور عدنان البني كتابا عن أبولودور يروي فيه سيرته ومنجزاته، ويخلص من ذلك إلى التأكيد على أن سورية لم تكن مجرد مستعمرة لروما ولكنها لعبت دورا كبيرا في الحياة السياسية والفكرية والعمرانية وهو ما أراد منظمو المعرض التركيز عليه من خلال القطع المختارة من العهد الروماني.

آثار تدمر

وتحتل الآثار التدمرية مكانة مميزة في المعرض، والحديث عنها مع العلماء والخبراء السوريين متعة في ذاته لفرط الاعتزاز بهذه العاصمة العربية الصحراوية التي تحدت روما وأوشكت أن تطيح بسلطانها في سورية والمشرق، وحين يتطرق الحديث إلى مميزات الفن التدمري مع المدير العام للآثار والمتاحف في سورية الدكتور سلطان محيسن، يقول: "تدمر عربية في جوهرها وفي شكلها وهي امتصت جميع التأثيرات الفارسية والرومانية لتسكبها في طابعها المحلي الأصيل الذي يشكل مدرسة تدمرية فنية معترفا بها، بحيث يمكن التعرف على أسلوبها من النظرة الأولى، وتدمر محطة القوافل الكبرى تميزت بمنحوتاتها التي جسدت الولائم الجنائزية خاصة، وكذلك المنحوتات التي تمثل القوافل، وكذا النائحات والباكيات والقبور التدمرية تحت الأرض وعلى وجهها والقبور البرجية، كل ذلك تدمري أصيل غير معروف في أي مكان آخر ".

ويصف الدكتور عدنان البني الفن التدمري بأنه فن الواقع، فن الصحراء السورية وفن القوافل، تأثر من الجهة الغربية بالفنون اليونانية والرومانية، ومن الشرق بفنون فارس والهند وقندهار لكنه حافظ على خصائصه المتميزة التي تتجلى في القسمات الشرقية الواضحة والوضع الجبهوي للمنحوتات والعناية بالتفاصيل والزخارف والتأكيد على البعد الروحي أكثر من  الحضور الجسدي. ونعود مع العالم الفرنسي جان كلود مارغرون مدير البعثة الأثرية في موقع مدينة ماري إلى استطلاع حقبة أساسية في تاريخ سورية وحضارتها منذ الألف الثالثة حتى النصف الأول من القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وقد أدى اكتشاف مدينة ماري في "تل حريري " عام 1933 إلى إحداث ثورة في المعلومات عن ماضي سورية وبلاد الرافدين، وذلك بفضل أرشيف هذه المدينة الذي احتوى على أكثر من عشرين ألف رقم أو لوح دونت عليها بالمسمارية لغة سامية هي البابلية القريبة من العربية، وهي الثورة التي أكملها فيما بعد اكتشاف مدينة رباسة وأرشيفها الملكي الذي يرقى إلى الألف الثالثة.

ويوجز مارغرون تاريخ ماري في الألف الثالثة بناء على المعلومات التي وفرتها وثائق إبلة ليقول إن ماري التي هاجمها سرجون الأكدي " 2340- 2284 ق. م " وأحرق قصرها "كما هاجم غيرها من المدن السورية القوية آنذاك " عرفت عهودا أقل قوة فيما بعد ولكنها استمرت مركزا مهما حتى عهد آخر ملوكها زمري ليم " 1775- 1761 ق. م " قبل أن يدمرها وينهبها حمورابي البابلي.

وينوه مارغرون أولا بالنتائج الباهرة التي توصلت إليها البعثات السابقة التي قادها منذ عام 1933 إلى عام 1978 العالم الأثري الفرنسي أندريه بارو قبل أن يخلفه في إدارة البعثة، ويقدم تفاصيل عن استمرار أعمال التنقيب وبخاصة إعادة إظهار عدد من مباني ماري ولا سيما القصر الملكي والمعابد والبيوت والشوارع والقنوات والدراسات المستمرة لمعرفة المزيد من المعلومات عن مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والعمرانية والدينية في ماري وسورية في تلك الحقبة مما لا يتسع المجال لإيراده في هذه المناسبة، بإيجاز ما احتوت عليه وثائق ماري من هذه المعلومات وما يستخلص منها ومن نتائج عمل البعثة في المنطقة. والإسهام التاريخي الكبير الذي تمثل في اكتشاف ماري والعثور على أرشيفها توّج بين عامي 1974 و 1976 باكتشاف الوثائق الملكية لمدينة إبلة التي أضاءت حقبة متقدمة نحو ألف عام من تاريخ سورية وبلاد الرافدين لتعطي الأولى دورا أساسيا ومتميزا في الحياة السياسية والثقافية والعمرانية للمنطقة كلها، وتبين أن إبلة كانت تقيم علاقات وثيقة مع ماري نحو سنة 2400 قبل الميلاد، وكانت نموذجا للمدينة- الدولة التي تبسط سلطتها على مناطق واسعة، وكانت لمملكة إبلة آنذاك أرجعية على مملكة ماري، وتتمتع بنفوذ سياسي وتجاري يمتد حتى أسفل بلاد ما بين النهرين.

وهذه الوثائق التي بقيت على الرغم من حريق القصر الملكي على يد سرجون الأكدي تزيد على عشرة آلاف رقم أو لوح تمثل مجموعة مذهلة من الرموز المسمارية بما يعتبر أقدم مجموعة وثائقية معروفة في تاريخ العالم، وهي تقدم للمرة الأولى أقدم لغة سامية استعملت في الشمال السوري وهي تنتمي إلى مجموعة اللغات السامية القديمة مثل الأكادية وإن كانت هذه  أحدث منها، وتزخر الوثائق بالمعلومات السياسية والتجارية والإدارية في ذلك العصر، كما تشهد على التطور الذي عرفته على صعيد التنظيم السياسي والمعرفي، بدليل ابتكار كتبة إبلة لأول قاموس في التاريخ يتمثل في تلك الألواح التي تتضمن مطابقات بين لغة إبلة واللغة السومرية، مع قائمة مماثلة تتضمن أسماء نحو 248 مدينة أو موقعا.

ويقول الدكتور سلطان محيسن إن وثائق إبلة غيرت المعطيات السابقة على اكتشافها فيما يتعلق بدور سورية القديم في المنطقة حين كان ينظر إليها على أنها مسرح للتأثير السومري والبابلي فجاءت وثائقها الملكية لتدل على دورها المتميز من حيث كونها دولة قوية ذات نفوذ سياسي وتجاري وحضاري كبير.

حضارة إبلة

ويقول الدكتور عدنان البني إن مكتشفات إبلة أكدت للمرة الأولى وجود سلالة سورية فيما كان تاريخ سورية يعرف من خلال تاريخ الرافدين ومصر، والآن تبين أن لبلاد الشام دورا بارزا ومهما جدا في الحضارة القديمة، وكانت إبلة مملكة ضخمة وحضارة متطورة من صناعة وزراعة وصياغة وفنون، كما كانت لها علاقات دولية واسعة لا تقل عن مثيلتها في مصر التي كانت لها علاقات مع ملوكها، كما أن سورية كانت تقوم بدور أساسي في نقل التيارات الحضارية بين الرافدين وعالم المتوسط منذ الألف الثالث قبل الميلاد.

ويضيف الدكتور البني إن السنوات الأخيرة شهدت اكتشاف مدائن سورية أخرى في أهمية إبلة وربما أكثر، ومن ذلك مثلا موقع "تل كيلان " حيث تبين أنه ظهر في الجزيرة السورية مدينة من مطلع الألف الثاني تدل على وجود دولة منظمة ولها وثائق ومحفوظات وتمتد على مسافة تصل إلى الفرات الأوسط.

وكذلك قامت في جهات حلب دولة قوية أحد ملوكها يسمى شمسي - حدد وهو من أصل آرامي وعرف بسيطرته على مدينة ماري.

وفي هذا السياق أطرح مع العالم السوري موضوع الدراسة التي وضعها فريق من علماء الآثار والبيئة والجيولوجيا على رأسهم الأمريكي هارفي وايس والفرنسية ماري انياس كورتي بنتيجة البحوث التي أجريت في "تل ليلان " باعتباره موقع مدينة "شحنة" التي كانت من المدن التي سيطر عليها سرجون الأكادي مؤسس الإمبراطورية الأكدية التي غطت على جميع المدن والدول في بلاد الرافدين وسورية ومنطقة الخليج وفارس حتى الهند، واستمرت حتى عام 2200 قبل الميلاد، لتزول من دون معرفة الأسباب الحقيقية لزوالها المفاجئ، وإن كان البعض يعزوه إلى الاضطرابات والفتن التي اجتاحتها وتخلص الدراسة إلى نتيجة مفادها أن العوامل الطبيعية وأهمها الجفاف المتواصل مدة 300 سنة هي التي قهرت أول إمبراطورية في التاريخ قامت في المشرق العربي.

ويرد الدكتور عدنان البني بالقول إنه ليس هناك سبب وحيد لبوار المدن، والناس لا تهجر المدينة العامرة نهائيا إلا لتضافر عوامل عدة أهمها انقطاع موارد الرزق، نعم الجفاف والحروب تلعب دورا حاسما، ولكن إذا استمرت مدة كافية ومتواصلة بحيث تمر أجيال عليها، ويضرب أمثلة من الواقع المعاصر ليقول إن بيروت مثلا لم يهجرها أهلها على الرغم من سنوات الحرب الطويلة، وفي المقابل فإن الفلاحين السوريين من حوران إبان سنوات الجفاف كانوا يعملون في لبنان في قطاع البناء خاصة، والبدو عندما يتجولون في الصحاري يتحولون إلى مناطق أخرى، ولكن تبدل المناخ وانقطاع الجفاف يقود إلى العودة لتلك الديار التي هجرت فترة، وإذن، المدن لا تزول إلا لسبب دائم ومتكرر يمنع معه الإنتاج الاقتصادي والزلازل نفسها ليس عاملا لزوال المدن، فهناك العديد من المدن التي دمرتها الزلازل أو الحروب وأعيد بناؤها، وكذا البراكين تثور فتدمر مدينة ثم تهدأ فتعمر من جديد ما دامت تؤمن الموارد الاقتصادية الكافية، لكن إذا استمرت البراكين ظاهرة لسنوات عديدة فالمسألة مختلفة، وأما عن الإمبراطورية الأكدية نفسها، فبين تأسيس سرجون لها وسقوطها نحو 400 أو 500 سنة، وهذه مدة كافية لزوال إمبراطورية، وقد رأينا إمبراطوريات زالت وغيرها سيزول، وهذه سنة الحياة، لأن الدولة عندما تعطى الجهد الأعظم ويصبح لديها القوة الأعظم فلا بدان تبدأ بالانهيار، لكن الدول التي تستطيع أن تسير الأمور على نحو منطقي ومتوازن وتتوافر لها مقومات الاستمرار بصورة معقولة تعيش أكثر من غيرها فهناك إمبراطوريات وحضارات سادت ثم بادت من دون أن تستمر.

ويبدي جان كلود مارغرون تحفظا واضحا عن نظرية الجفاف التي تقترحها الدراسة منوها في الوقت نفسه بالجهود التي بذلها الفريق المعني، ويدعو في حديثه إلى العربي لمزيد من التروي في استخلاص نتائج أو أسباب لا تلبث المكتشفات الجديدة أن تظهر مدى التسرع في تبنيها، ويضيف أن أعمال التنقيب الأثرية في سورية لا تزال في أوجها وأن ثمة آمالا كبيرة في اكتشاف كثير من المعطيات التي ترد بوضوح وبإثباتات لا تقبل الجدل على كثير من المسائل التي لا تزال غامضة أو ملتبسة أو حتى مجهولة من تاريخ هذه البلاد العريقة.

جسور الثقافة

ويقول الدكتور سلطان محيسن في سياق حديثه عن المكتشفات الأثرية الجديدة ومعطياتها التاريخية الحضارية:

"لقد درس تاريخنا القديم في شكل متجزئ أو مقطع الأوصال إذا أردت، ونحن نركز من خلال المكتشفات الجديدة على ما نسميه بالأرضية الحضارية الواحدة منذ آلاف السنين، لقد بدأنا نتلمس تشابها ليس في الجانب المادي للحضارات القديمة فقط ولكن بجانبها الروحي أيضا، فالمشرق العربي القديم بدأ يتكشف عن كتلة حضارية واحدة تفاعلت وتشابهت أكثر مما ظن في الماضي، وبتنا لا ندرس تاريخ سورية والمشرق العربي من موقع الهيمنة المبالغ فيها للنفوذ الحضاري الغربي، ولكننا نجد أنه على الرغم من وجود سيطرة سياسية غربية أحيانا فالهيمنة الحضارية للمشرق العربي بقيت هي السائدة، ويمكننا الكلام بثقة عن إطار أو بوتقة حضارية واحدة للمشرق العربي القديم من النيل إلى الفرات ومن العقبة إلى طوروس، مع وجود دوائر حضارية صغرى بحسب مراكز الاحتكاك، وهي تتميز فيما بينها كما يتميز الآن بلد عن بلد أو منطقة عن منطقة".

بقي أن هذا المعرض كان ثمرة جهود استغرقت نحو عام وساهم فيها عدد كبير من العلماء والمختصين والمسئولين في مجال الآثار والمتاحف، وقد أعربت وزيرة الثقافة السورية نجاح العطار عن أهمية هذا الحديث بقولها للعربي:

"اهتماما منا بدور الثقافة الراهن في هذا العالم المضطرب أردنا أن نبني جسورا معرفية للتواصل وأن نحقق ذاتنا عبر إبراز الوجه الحضاري لأمتنا العربية، وفي اعتقادي أننا تمكنا في هذا المعرض الذي هيئ له طويلا وتم اختيار قطعه بعناية أن نقدم صورة واثقة لما صنعه الأجداد في زمن بدأ الناس فيه لا يؤمنون كثيرا بهذا الماضي العظيم الذي نعتز به كل اعتزاز دون أن يحول هذا بيننا وبين أن نقدم في الحاضر وفي المستقبل ما قدمه الأجداد في الماضي، نعتقد أن جذورنا راسخة في الأرض، وأن غصوننا تسمق وتسمو، وأننا سنحقق في هذه المرحلة الكثير الكثير إيمانا منا بالطاقات الكامنة لدى شعبنا العربي وبقدرتنا على حوار العالم بمنظور ثقافي إبداعي نستطيع من خلاله أن نحقق أهدافنا التي نسعى إليها وقيمنا التي نريد أن نسمو بها وتسمو بنا"

... وكلمة أخيرة قالها رئيس معهد العالم العربي إدغار بيزاني للعربي من وحي المناسبة: "هناك، في مكان من العالم، عند ملتقى ثلاث قارات، إفريقيا وآسيا وأوربا، بقعة من الأرض ولدت عليها الأديان التوحيدية الثلاثة، وتعاقبت فيها كل الحضارات التي أسست العالم الحديث، تلك الأديان والحضارات تصارعت فيما بينها، واستمرت، أما آن الأوان لكي تلتقي لبناء المستقبل؟! ".

 

صالح الأشمر 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




تمثال ملك سيكانة حدد- يسعى- الألف الأول ق.م





ازدحام عند مدخل المعرض ويبدو المتحف الضخم الذي يحمل صورة تمثال ملك سيكانة





مشهد في المعرض يتوسطه تمثال اشلاتوب- ايلوم ملك مأرب -الألف الثالث- وعند الركنين اسدا ماري





أثناء افتتاح المعرض، الوزراء يتأملون تمثال ماري مستمعين إلى شرح الخبيرة الفرنسية





فسيفساء جدارية تمثل مشهدا طقسيا - الألف الثالث





الدكتور عدنان البني يتحدث إلى العربي





تمثال بعل من البرونز ورأسه من ذهب أوغاريت- الألف الثاني





نسر له رأس أسد من ذهب ماري - الألف الثالث





جان كلود مارغرون مع أسدي ماري قبل نقلهما إلى موضعيهما في المعرض





فيليب العربي -شهبا 249-244 بعد الميلاد





منحوتة جنائزية سيدة مزينة بالحلي - تدمر القرن الثاني





منحوتة جنائزية سيدة تحمل على كتفها طفلا - تدمر القرن الثاني





الدكتور سلطان محيس





تمثال هشام بن عبدالملك - قصر الحير الغربي





موسيقى يعزف على الناي- أوروبوس- القرن الثالث





الزميل صالح الأشمر مع تمثال ايشتوب- إيلوم والفارق الزمني خمسة آلاف سنة





رأس تدمري- القرن الثاني





قنديل مسجد- نحو 1337م





قدح- نحو 1300م





قارورة- نحو 1300م