«مسك» لإسماعيل فهد إسماعيل

مسك» لإسماعيل فهد إسماعيل
        

التقليلية كمحاولة تجريبية ما بعد حداثية

          عندما انتهيت من قراءة نص «مسك»، بل وفي أثناء القراءة، لاحظت تنبه حواسي للاختزال الشديد في النص، وهو ما استدعى لديَّ ظاهرة فنية تجلت خلال ستينيات القرن الماضي في مجالي الفن التشكيلي والموسيقى، تمثلت في تقليل عناصر اللوحة التشكيلية أو القطعة الموسيقية من حيث الآلات أو النوتة الخاصة بكل آلة، وتحولت إلى صرعة حداثية عرفت بالمينيماليزم، Minimalism، ظهرت لمناهضة بعض الاتجاهات العبثية في الفن سرعان ما أصبحت جسرا بين الحداثة وما بعد الحداثة، خصوصا بعد أن انتقلت لاحقا إلى مجالات فنية أخرى مثل الفنون البصرية، ووصولا إلى التصميم الداخلي المستلهم من الفلسفة اليابانية، وخاصة من أسلوب «الفينج شوي».

          وبفضل هذه المفاهيم الحداثية الجديدة سادت أعمال فنية تشكيلية عدة، اشتهرت بوجود عناصر قليلة جدا، لكنها تحفز المتلقي على التقاط الكثير من العناصر المختزلة والتي لا تكشف عنها محتويات اللوحة، قدر ما تلهمها بها العناصر الأخرى الموجودة بها.

          في نص «ِمسكْ» يعتمد إسماعيل فهد إسماعيل هذه النظرية الفنية ببراعة، إذ إنه يعمد إلى تقليل عناصر الرواية إلى أقل حد ممكن، سواء على مستوى الحيز المكاني الذي لا يزيد على مساحة طائرة ضيقة، ثم ردهة انتظار ضيقة في أحد المطارات الأوربية، أو على مستوى الزمن؛ حيث لا يتجاوز زمن الرواية الأساسي مسافة الرحلة من الكويت إلى أثينا ومنها إلى برلين، أو مستوى الشخصيات؛ حيث لا نرى في الرواية سوى الراوي وثلاثة نماذج أخرى ممن تعرضوا للاشتباه في مطار أثينا من سلطات المطار، في إطار فوبيا الإسلام والعرب التي أصابت الغرب عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي مازالت آثارها ماثلة حولنا حتى هذه اللحظة.

          أما الزمن الاعتباري للرواية فيمتد إلى عشرين عاما تحملها ذاكرة الراوي وتختزلها في واقعة حضوره لليونان مع حبيبته وزوجته السابقة إيمان قبل عشرين عاما إلى أثينا لقضاء شهر العسل.

          وتتقاطع وقائع قصة الحب الزواج - الطلاق، مع قصة الرحلة التي يتعرض فيها الراوي؛ الديبلوماسي الكويتي، للتحقيق من قبل سلطات مذعورة، تشتبه في كل شخص؛ لمجرد أنه عربي، وتخفق، رغم كل احتياطاتها، من تمرير شخصيات الإرهابيين إلى طائرة أخرى متجهة إلى برلين، تصادف كونها الطائرة نفسها التي يتوجه فيها الراوي إلى جهة سفره.

          وهكذا يضغط الكاتب المكان والزمن والحدث والشخصيات، ويستخدم لغة مكثفة مختزلة تتناسب مع هذا التقليل في كل عناصر السرد.

          ومن المهم هنا التأكيد على أن «المينيماليزم» لا يعني التبسيط، بل الاختزال، وإعادة التركيب بالتركيز على عناصر أساسية، وإضاءتها بحيث تكشف ما يتعلق بها من تفاصيل، دون اللجوء إلى وصفها بتفاصيلها المركبة، وكأنها محاولة لتفكيك الحدث المركب، وإعادة تنظيم عناصره.

          بهذه العناصر المحدودة جدا ،يصيغ إسماعيل فهد إسماعيل روايته التي تثير العديد من القضايا بدءا من الإسلاموفوبيا، كمصطلح جديد يتداوله الغرب مقابلا لحالة الرهاب العام، النفسي والذهني والفكري، التي أصابت المجتمعات الغربية تجاه كل ما يمس العرب أو الإسلام، أشخاصا وأفكارا.

          كما تناقش الرواية قضية التطرف والإرهاب، وتَعْبُر على فكرة حقوق المواطنة، في الإطار التقليدي لحدود الوطن، وتحولها إلى عبث محض في مجتمع دولي يمنح فكرة الأمن الشخصي للفرد الغربي أولوية أولى على أي قيمة أخرى لا تخصه، بحيث لا يصبح هناك شخص مستبعد من كونه إرهابيا محتملا. فالمحقق المتوتر، لا يستطيع التفريق بين زنجي هولندي من أصل إفريقي وبين ديبلوماسي كويتي هو بطل العمل، يحمل جوازا ديبلوماسيا، أو رجل عسكري كويتي، وبين ملتح متدين، فالكل، رغم البون الشاسع بين كل منهم، بالنسبة للمحقق الغربي سواء. وهي واحدة من القضايا الأساسية التي يلتفت إليها هذا النص، مشيرا إلى فكرة عولمة الإرهاب ودورها في طمس الاختلافات بين الهويات المختلفة مادامت تنتمي لعالم يعرفه الغرب بأنه عالم الإرهاب.

          وقد نجح الكاتب هنا في اختيار حيز مكاني مناسب لحالة ميوعة الهوية هذه باستخدام أماكن لا يتمتع فيها الفرد بأي خصوصية في الهوية، ففي الطائرة يصبح الفرد مجرد رقم يضاف لعدد المسافرين على متن الطائرة، وفي المطار أيضا لا يمثل سوى رقم يضاف لعدد العابرين من مدينة إلى أخرى، بلا أي خصوصية لهويته يمكن التوقف عندها.

          وبالرغم من المرور العابر للنص على قضية المرأة فإن التحولات التي مرت في حياة البطلة إيمان تختزل وضع المرأة العربية التي تربط وجودها بفكرة الإنجاب كما يطالبها المجتمع، بوصفه الدور الوحيد الذي يمكن أن تقوم به، وأن تمارسه في حياتها، وهو ما يجعلها تقرر بنفسها أن تتوقف عن الحب بطلب الطلاق من زوجها، واختفائها في عالم العزلة الاختياري بلا صوت أو وجود حقيقي.

          تتلمس الرواية إذاً قضية التغيرات التي أصابت العالم العربي والغرب خلال العقدين الأخيرين، وانعكاسها على وضع المرأة العربية التي تبدو وكأنها تنتكس تحت ضغوط اجتماعية تقليدية محافظة تسعى إلى تحويلها لمجرد كومة من اللحم المثير للشهوة، بلا خصوصية، أو قيمة فردية، لا إنسانا كامل الأهلية يتمتع بجميع حقوقه الإنسانية.

          وفوق هذا كله تتأمل الرواية فكرة تجاور الفرد العقلاني المستنير مع الأصولي الرجعي والمحافظ التقليدي، واعتبارهما، لدى الغربي، مجرد رقمين مختلفين لهوية واحدة

اللغة بطلا من أبطال النص

          تلعب اللغة في هذا العمل دورا بطوليا في تأكيد التناول الفني لظاهرة المينيماليزم، أو التقليلية كما تترجمها بعض المعاجم، وصحيح أنها سمة عامة من سمات أعمال إسماعيل فهد، لكنها هنا تبدو مختزلة إلى أبعد حد ممكن، بحيث تبدو أحيانا كأنها مجرد دلالات مشفرة لمعاني قد تحتاج إلى العديد من الصفحات لوصفها.

          ولا يتوقف الأمر في اللغة المشفرة على السرد، والمونولوج الداخلي الذي يتفجر بين آن وآخر بجملة مكثفة كاشفة ودالة، بل ويتجاوز ذلك للحوار الذي يأتي مقتضبا في الحوارات الخاصة بمرحلة التحقيق مع المشتبه فيهم، أو بين الراوي وحبيبته.

          وهنا، على نحو خاص، يلعب إسماعيل فهد، بالأسلوب لعبة أخرى، أظنها جديدة وغير مطروقة في حدود ما قرأت، باستخدام ضمير الغائب بدلا من ضمير المتكلم في الحوارات التي تخص الراوي مع حبيبته، كأنه، بذلك، يؤكد جملة الراوي في بداية الرواية حين يقول «حوار الذات في الزمن المُغـْفَل ينغلق الواحد إلى اثنين أو أكثر»، أو كأنه يؤكد طبيعة التحول الذي يطرأ على الشخص، بحيث لم يعد هو الشخص ذاته الذي كانه قبل عشرين عاما.

          وقد يكون لذلك دلالة أخرى تشير إلى شعور الراوي بأن سلطته على أحداث الماضي قد أصبحت خارج نطاق سيطرته، مما يجعله يستخدم ضمير الغائب وهو يتحدث عن نفسه. خصوصا وأنه يستخدم ضمير المتكلم في سرده للوقائع الراهنة التي يمر بها في زمن الرحلة.

          وهي سمة فنية تنجح في لفت الانتباه، بشكل مستمر للحوار، بسبب جدة هذا الأسلوب الذي غالبا ما يلفت انتباه القاريء إلى هذا الشذوذ عن قاعدة الحوار التي عادة ما يتم فيها حوار بين طرفين يستخدمان ضمير المتكلم ولا وجود فيها لضمير الغائب. وتؤكد باستمرار فكرة تعدد هوية الفرد المعاصر، وتشظيها في المجتمع المعاصر.

          تلعب اللغة دورا أساسيا في تأكيد الجانب ما بعد الحداثي لهذا النص، من جهة، بالإضافة إلى أنها تؤكد، من جهة أخرى، الطابع التجريبي للنص.

          كما تلعب دورا آخر يتمثل في إسباغ حالة من التوتر على الأحداث، بفضل طبيعتها، سواء في الجانب الدرامي الخاص باستعادة الراوي لذكريات قصة حبه المغدورة، والتحول الدرامي لإيمان بعد انفصالها عنه حيث إنها ترى في فقدان قدرتها على الإنجاب لونا من ألوان العدم، الذي يجعلها تقرر أن تعيش حياتها بعيدا عن الشخص الذي تحبه بأي ثمن.

          ويأتي مسرح سرد وقائع تعرض الراوي للتحقيق، في أجواء الترقب والقلق والتوتر والخوف، ثم تعرض الطائرة التي تقله لاحقا إلى عمل إرهابي حقيقي، كمساحة مثالية للغة المتوترة التي تتناسب تماما مع هذه الأجواء.

          وهي لغة قريبة جدا من اللغة التي استعملها الكاتب في قصة «بوغريب مع التحية» من مجموعة «ما لا يراه نائم»، ربما لأن لها أجواء قريبة الشبه من أجواء هذه الرواية بشكل أو بآخر.

          هذا التوتر الذي يقع الراوي أسيرا له، حين تختلط أحداث الحاضر بالماضي، وتجعله على يقين بأن كل ما لم يكن واردا أصبح قابلا للتحقق، كالعملية الإرهابية التي شهد الراوي جزءا من تفاصيلها قبل أن يتم السيطرة على منفذيها، ومعرفته بتنقب حبيبته الذي جعله للحظة يشك في كل امرأة منقبة، في وجود محتمل لها، مع الإشارة الضمنية هنا لما في الفكرة من طمس لهوية وخصوصية وفردية الأنثى.

          بالتالي تؤدي اللغة هنا دورا أساسيا في تحقيق الطابع الدرامي للحدث من خلال دراميتها هي، وتنقلها في هرم الدراما صعودا وخفوتا وفقا للزمن الذي تعبر عنه أو الحالة التي يسردها الراوي أو يستدعيها عبر الذاكرة.

الشكل والمضمون

          لكن التقليلية هنا لم تنجح في التعامل مع نموذج الإرهابي كما ينبغي لعمل أدبي أن يفعل، فقد ظهر كنموذج نمطي كلاشيهي لشخص منعزل، تفوح منه رائحة المسك، التي تستدعي لذاكرة الراوي مشاهد من شعائر دفن الموتى، في إحالة واضحة على الربط بين فكرة المتطرف وفكرة الموت، وبكل الإحالات التي يستدعيها مثل هذا التشبيه، يتمتم بالأدعية، ويتمسك بما يظنه صوابا، ويصبح هدفا لجهات التحقيقات، من جهة أو منفذا للعملية الإرهابية، في الرحلة اللاحقة.

          وقد يبدو اختزال هذا النمط في هذا الإطار الكلاشيهي، والكاريكاتيري ربما، مقبولا بوصفه النمط الذي يتصوره عقل الراوي عن هكذا شخصية، لا يرى أن هناك ما يمكن أن يجمع بينهما.

          لكن هذا النمط، على مستوى النص ككل، يعمل في الاتجاه نفسه الذي تعمل فيه العقلية الغربية نفسها التي بدا أن النص كان حريصا على انتقاد تشككها في كل ما له علاقة بالعرب والإسلام، بينما يسهم، من جهة أخرى في تكريس النموذج ذاته، دون محاولة لتعميق الفكرة من حيث الدوافع التي تجعل شخصا ينتقل من العقلانية إلى الدوجما، أو الأسباب والمبررات الذهنية التي تجعله يتحيز للموت على حساب الحياة. والكشف عن الرقعة الواسعة او الأطياف المختلفة للشخصية العربية وفقا لاختلاف البيئة الثقافية التي تنتمي إليها، بما يتضمنه ذلك من غزو الفكر الريفي للمدن العربية بدلا من التطور الطبيعي للانتقال العكسي للمدنية.

          هنا يبدو النص منحازا للشكل، والإيجاز، والتقليل، والتجريب على حساب المضمون، وخصوصا في هذا الجانب الذي يعتبر من صلب أبرز ما يثيره النص من إشكالات كان من الممكن أن يمنح النص قدرا أكبر من العمق، ليس في تقديم الإجابات بل حتى في توسيع مساحات السؤال حول الذهنية الأحادية في المجتمعات العربية وأسباب تكريسها في هذه المجتمعات، خصوصا وأن السرد يقدم نموذجا شكليا للظاهرة عبر اعتماد صوت رئيس واحد هو صوت السارد.

          لكن الكاتب في النهاية بدا منحازا للتجريب، ولطرح الأسئلة، ولاختبار التكثيف في حده الأقصى، وتقديم تجربة شكلية أظن أنها حققت فرادتها، أكثر من الانحياز لتقديم الإجابات، تاركا الفراغات والفجوات لوعي القارئ.

 

 

إبراهيم فرغلي