قصص على الهواء

قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
-------------------------------------------

          يتراوح المستوى الفني لمجموع القصص التي قرأتها، لكن بينها عددًا من القصص اللافتة إما بالتيمة أو الموضوع المختار، أو بامتلاك ناصية السرد واللغة، أو باستخدام أسلوب قصصي لافت، وهي غالبًا الأسباب التي لفتتني إلى القصص الخمس التي اخترتها هنا:

  • قصة لقاء

          أعجبتني بساطة الفكرة والطرح الهادئ.

          القصة تصف لحظة ترقب للقاء حب قديم في الشارع، اللحظات تمر على بطل القصة مشحونة ولكن اللقاء لا يكون حارًا كما يتوقعه ويصبح الزمن والظروف أقوى من الذكرى، يعود البطل بخيبة أمل لبيته وواقعه وتستلزمه الصدمة بعض الوقت لاستدراك الحقيقة. للوعي بأن البشر يتغيرون، يغيرهم الواقع، وتتغير شخصياتهم، ويصبح ما كانوه يومًا ماضيًا. قصة جيدة وأسلوب الكاتب سلس ومشوق، مفردات القصة جميلة ومؤثرة.

  • قصة الراوي

          الكاتب يملك موهبة واعدة في السرد والوصف، يمكن أن يجرب كتابة رواية قصيرة لأنه يملك الحس، مع قليل من القراءة والخبرة ستصبح مفرداته أكثر قوة وتأثيرًا. الفكرة مسلية تثير الانتباه وبها وصف جميل لليل ولحظات السكون، القصة لمجموعة من الصيادين الهواة، لا يهتمون بالصيد بقدر الدعة والسكون، يقلق كسلهم قارب برجل غامض يثير شكوكهم ويحثهم على النظر لعمق البحيرة الساكن ولكنهم يرفضون التغيير ويعودون لحياة الهدوء والسكون، بها تورية لأفكار كثيرة ويمكن أن يراها القارئ وصفًا لحياته التي لا يريد أن يغيرها برغم انتقاد الناس.

  • قصة النظير أو الفنان هج

          الفكرة خلاقة والكتابة واعدة، قصة فنان نحات يعيش في عالمه الساحر ويتخيل النجاح برغم أنه داخليًا مقتنع بالفشل وبأن ما يصنعه من تماثيل ميتة يجعله مسجونًا بالموت مثلها، ومع هذا يهاجم منتقديه ويتجاهل إحساسه ويستمرئ سجنه وعالمه. الأسلوب حديث وفكرة الآخر خلاقة وتشد القارئ.

  • قصة آدم يصنع مملكته

          الكاتب يملك موهبة واعدة في السرد والوصف، يمكن أن يجرب كتابة رواية قصيرة لأنه يملك الحس، مع قليل من القراءة والخبرة ستصبح مفرداته أكثر قوة وتأثيرًا. الفكرة حلوة وتذكر تلقائيًا بقصة روبنسون كروزو لدانييل دافو، أعجبتني لحظة الشك وحاسة البقاء الحيوانية في النهاية، عندما تصبح المحبة خطرًا وتطغى الظنون على السكينة فيعود الإنسان حيوانًا يدافع عن وجوده. القصة بسيطة ولكن الكاتب تمكن من الاستحواذ على القارئ من البداية.

----------------------------
لقاء
عبدالعزيز مشرف - مصر

          مسح العرق المنصب على جبينه وعينيه، وخلع نظارته التى ألفها حتى ما عاد يشعر بوجودها، نفث فيها ثم مسحها بطرف قميصه وأعادها إلى مكانها فتأكّد أن التي على مرمى بصره، هي هي لا أخرى تشبهها، كانت قد مرت سنون لم يلتقيا، لم تقع عينه عليها، إلا أن أخبارها لم تنقطع عنه، كلما مرت به الأيام حنّ إلى مشاعره القديمة نحوها والتى لم تمت، ولكنها دخلت طور الكمون، تستثيرها وجوه مشابهة لوجهها، أو أغنية كانت تحلق به في أعالي الروح فصارت الآن تثقل الروح بألم مُمِضّ، أو ذكرى تطغى على نفسه أحيانًا غير عابئة بجريان السنين، تباطأت خطواته، وتثاقلت، وتلاحقت أنفاسه، وعاد العرق يسيل على جفونه، كان التوتر البادي عليه مثيرًا له، فحمد الله أن لم يكن أحد ممن يعرفه معه، قرر أن يقصدها مباشرة قاطعًا الطريق من الشمال إلى اليمين ليكون أمامها، عينه ترمقها وهي تتقدم لكن قدميه تخذلانه فتتردد، ويضطرب خطوه، لكنه يواصل، وأنفاسه تتلاحق، ويشعر بارتعاشات يده، ويكاد يسمع خفقان قلبه، فيبتلع ريقه الذى جف فجأة.

          صار الآن على خط سيرها تمامًا، إن رفعت نظرها عن الأرض التى ما فتئت منذ عرفها أول مرة لا ترفع عينها عنها سوف تراه، لكن كيف سيبدو لها، امتدت يده دون شعور منه وهندم ملابسه، وشد ظهره وحاول تصنع التجلد، وأن يبدو الموقف الآتي بعد خطوات فجائيًا دون قصد.

          ما إن اقترب من ظلها الذي يسبقها على الأرض حتى ألقى السلام، قبل أن ترد رفعت بصرها وإذا بابتسامة ممزوجة بوقع الفجأة، فردّت السلام وعيناها مصوبتان نحوه، وحاجباها مرتفعان، بادرته كيف أنت؟ وما أحوالك، كيف أبناؤك؟ هل لاتزال فى نفس العمل؟ قالتها متتابعة كأنها تحفظها، أو كأنما لا تريد سوى الإجابة المعهودة: الحمد لله، قالها، ولبرهة أراد أن يسترسل لكن نظراتها المتراخية لم تشجعه فودّعها معربًا لها عن سعادته بلقائها.

          انصرف لا يدرى إلى أين، وقد تشظّت مرايا نفسه بعشرات الأسئلة، وصور المشاعر المتماوجة، وإن ظل يتردد على خاطره سؤال: هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟ حتى ساقته قدماه إلى باب زوجه وأولاده، وضع فيه المفتاح ليلج إلى عالمه فتعثر، على غير عادته، أعاد المحاولة أكثر من مرة حتى انفتح.

----------------------------
قصة الراوي
يونس محمود يونس

          عندما ارتفع القمر عاليا فوق سطح البحيرة. اتضحت معالم الخليج الممتد شمالا، والضوء الفضي الذي انتشر على غير هدى أعطى المياه المتموجة لونا مختلفا، والجبال التي ارتفعت عند حوافها بدت مثل قطع من الغيوم تفكر في الرحيل ولا تفعل.

          حتى صيادي السمك الذين افترشوا الصخور كانوا ينتظرون أن تغمز عواماتهم الساكنة فوق سطح المياه. كانوا فقط ينتظرون  وقد هدّهم التعب، والنعاس، والشعور بالندامة لأنهم في معظمهم لم يصطادوا شيئا.

          في هذا الوقت ظهر قارب صغير وسط الخليج. فتهامس بعض الذين شاهدوه وقد حرك فيهم القارب شعورا هو أقرب ما يكون إلى شعور المنسي عندما يقترب منه عابر سبيل، ثم اقترب القارب وانتبه إليه ابن عبدو المعروف بالدب، وهو دب  ـ ليس لأنه يحب المياه والأدغال، ويستطيع اصطياد السمك أيضا ـ بل لأنه يشبه الدب كثيرا.

          ولكي يثبت هذا الشبه. أخذ يرتل بعض الجمل التي لا معنى لها، ثم طلب من صاحب القارب أن يبعد شباكه عن مكانهم . فأكد الرجل الذي كان يجدّف بقطعتين من الخشب أنه لا يحمل شباكا، وأكمل قوله عندما أصبح على الشاطئ مؤكدا أنه قضى عدة ساعات وهو يتجول في قاربه بحثا عن التسلية.

          فأعلن ابن عبدو أنه ورفاقه يحملون رخص الصيد التي تخولهم الصيد في أي وقت. أعلن ذلك بشيء من المباهاة. رغم علمه أنّ صاحب القارب ليس موظفا مكلفا بالبحث عن المخالفات، وهذا ما كان الرجل قد وضحه لهم جميعا.

          بعد ذلك ضاع الجميع في سديم الصمت. خاصة وأنّ أولئك الصيادين تجاهلوا القادم الجديد عندما تبين لهم أنه مجرد عابر سبيل لا فرق عندهم أرَحَل أم لم يرحل.

          إلا أنّ الرجل لم يرحل. بل استقر على صخرة مناسبة وأشعل سيجارة بانتظار أن يصبح حاله مثل حالهم. بعد ذلك عمّ الهدوء، ولفّ المكان صمت وضباب. حتى ضوء القمر بات عديم الفائدة، ولولا أنّ العوامات كانت مجهزة بأصابع من الفسفور لبدا مشهد الصيد مضحكا. خاصة وأنّ العوامات كانت ساكنة منسية على سطح المياه. لا السمك يحاول غمزها، ولا الصيادون منشغلون بها.

          خلال هذا الوقت. عوت ثعالب في حرش السنديان المقابل لهم، ومن الجهة الأخرى عوت ثعالب أيضا. فأجابها ابن عبدو بعواء مشابه، وبعد أن أنهى عواءه. ردّت الثعالب على تحيته بأحسن منها، ثم مرت لحظات ثقيلة رطبة. بحيث كان لا بدّ للمرء من أن يفكر في أمر مختلف ـ وهو أنّ الناس على شاطئ البحيرة كانوا غير أنفسهم عندما يكونون في أي مكان آخر ـ فهم كانوا منسيين كأنهم في سجن، وشعورهم بالعزلة وحدّهم بانتظار من يفرج عنهم.

          في هذا الجو. اقترب صاحب القارب من ابن عبدو، ثم أخذ يحاوره، فسأله عما يحب ويكره ؟ وسأله عما كان يفعله في طفولته ؟ أو ماذا يتذكر ؟ وإذا كان يعرف لماذا ردّت الثعالب على عوائه؟

          فأظهر الصيادون ضيقا وتبرما بهذه الأسئلة. كما ضحكوا وسخروا أيضا. لأنّ ابن عبدو حاول أن يكون ذكيا في إجاباته دونما جدوى.

          وبعد أن أمضى الجميع بعض الوقت وهم على هذه الحالة. سكت صاحب القارب، فاقترب منه حسان الذي ظل صامتا منذ البداية. اقترب ليقول له بصوت خفيض:

          ـ أنت الراوي الذي كنت منسيا تحت الماء !؟

          قال ذلك بطريقة فيها الكثير من اليقين. فسأله الرجل :

          ـ ما أدراك ؟

          ـ أظن أنني شاهدتك.

          فقال الرجل متسائلا :

          ـ أين شاهدتني ؟ وكيف ؟

          ـ لا أدري. لكن ربما تخيلتك فقط، أو كأني رأيتك وأنت تستيقظ بعد نوم طويل.

          فسأله الرجل :

          تقول إنك تخيلت ! فلماذا لم تتخيل شخصا آخر، أو مكانا آخر. يا أخي لماذا لم تتخيل شارعا، أو بلدة، أو مدينة ؟

          ـ لأنّ الشارع والبلدة والمدينة هي أمكنة أقل إيحاء من أعماق هذه البحيرة الواعدة. خاصة بعد أن اكتملت، ثم مشى عليها الزمن ليجعل منها حجابا يخفي معالم هذه البقعة وما كانت عليه. لا تندهش ! فأنا أجد نفسي منجذبا إلى هذا القول . خاصة وأنّ هذه البحيرة مسحت بعض ذاكرتي.

          عندئذ قال الرجل وهو يغص بلعابه :

          ـ الحق معك. لأنّ هذا المكان تغيّر تماما، ولكن لِم تخيلت راويا، ولم تتخيل تاجرا، أو حاكما، أو أي شخص آخر ؟ هل تحب الروايات ؟ وهل تقرأها ؟

          فأجابه حسان :

          ـ إنّ أحدا من هؤلاء لا يهمني. بما في ذلك أنت. هذا إذا صحّ خيالي وما افترضته عنك ؟ أما الروايات فأنا لا أقرأها . بل أؤلفها. لكن هنا في خيالي !

          قال ذلك وأشار إلى رأسه، وعندما ظل صاحب القارب صامتا. أكمل حسان

          قائلا :

          ـ إذا كنت راويا كما تخيلتك. فأنت ستتخيل مشاهد مشابهة لما رأيت، وستكتب أفكارا مماثلة لما سمعت، وأيضا أود القول : إنك لست الوحيد الذي يغلّف الحقائق بطلائه، وليس الرواة وحدهم يتصرفون على هذا النحو ـ وبمعنى آخر ـ فإنّ الجميع يعرفون كيف يتحدثون عن مآثرهم، وعلى سبيل المثال فإنّ هؤلاء الذين تراهم على شواطئ هذه البحيرة لن يعترفوا ببؤسهم طالما أنهم يستطيعون الانتظار، وحتى لو لم يصطادوا شيئا فإنهم سوف يعودون، ثم يمضي هذا الزمان الذي قد يكتب عنه رجل مثلك، وبعده يأتي زمان آخر، ورجلان يلتقيان مثلنا : أحدهما يقول للآخر :

          " ألا تعتقد أنّ الذين عاشوا قبلنا على شواطئ هذه البحيرة كانوا أكثر حضورا وأفضل حالا ؟! "

          فقال صاحب القارب :

          ـ ما تقوله قد يكون صحيحا. إلا أنّ الراوي يبحث أساسا في هذا الشك. الشك الذي يلازم الإنسان منذ بدايته إلى نهايته.

          قال حسان :

          ـ الشك !؟ هذه الكلمة لا تعجبني. ما رأيك بكلمة انتظار ؟ ألا يؤلمك هذا

          الانتظار ؟  

          قال صاحب القارب :

          ـ أنا ما شأني ؟

          قال ذلك بجفاء. ما لبث بعدها أن هبط إلى قاربه ومضى مبتعدا.

          عند ذلك عوى ابن عبدو بحرية قلما أحس بها. ربما لأنّ وجود ذلك الرجل كان ضاغطا عليه، وربما لأنه تخيل نفسه في  تلك اللحظة كائنا آخر، أو هو يملك غريزة هذا الكائن وقواه التي تساعده على الصيد والبقاء.

          أما حسان فقد اتكأ على ظهره بعد أن شعر أنّ النعاس يغالبه. لكنه ظل ينظر إلى صفحة المياه وإلى الجبال. مع أنّ الضباب كان يوحد المكان، والليل كان في طريقه إلى الزوال.

----------------------------
قصة النظير أو الفنان هج
ميمون حرش - المغرب

          أقحمت نفسي وسط جمع لا أعرف منهم أحدا، أغروني بطريقة تدافعهم واقتحامهم للباب، انتحيت مكانًا توسمت فيه ألفة بين لوحات فنية زيتية، الرواد من حولي يتأملون أشكالها بشكل مريب، تبدو لي عيونهم قد علت حواجبهم، وأن كل ما فيهم، لولا العيون، ما كانت لتقوم لهم قائمة.. بل لولاها ما كانوا ليشبهوا البشر أبداً.. اللوحات، بعضها معلق، وأخرى تلامس الأرض، وبين هذه وتلك منها ما لا يستحق الإطار الذي وضعت فيه.. لم أكن ناقداً، ولكني أنقل انطباعًا داخلياً، وحدسي لم يخذلني يوما....

          غريب وسطهم، لكن غربتي مهما كانت شاملة لا تضاهي غربة تمثال منحوت مرمي في زاوية، اقتربت منه، سلمت عليه سراً، لمست عينيه المتحجرتين، وقلت له بلا صوت: " أنت نسيبي، أنا مثلك تماما، غ... "..

          كلمة " غريب" همست له بها في أذنه..

          ضحكت من نفسي حين انتفضت لبعض الظن الذي أملى علي أن هناك من يترصدني، بل ويسمعني، وإن لم يكن فهناك حتماً من يقرأ أفكاري..

          تتطلع إلي الأنظار وأزداد خجلاً، فكرت: " لو يفصح الإنسان عما يفكر فيه علناً لأُثيرت فضائح، وقد ينبذه الناس "..

          أقف مشدوهاً وأتخيل أشياءَ وأشياءَ، التمثال المنحوت بدا لي يتململ، كان أيضًا مثلهم، يترصدني، إنه يتحرك، يرفع يده، يوميء بها، يتقصدني أنا تحديدًا، ما أجمل أن يهتم بك تمثال!..لكن.. لحظة.. ما هـذا ؟..إنه لا يتحرك كما ظننت، بل رأسي أحس بها ثقيلة، وهي ربما تخيلات.. إنها فعلاً هواجسُ، عانيت منها منذ صغري، إذ كلما ثقلت رأسي من أكلة تهيض بطني، تنملت عيناي، وبِت أرى أشياء لا وجود لها.. لكن هذه المرة الذي يحصل شيء مختلف، التمثال يتحرك فعلاً، وعيناي لم تتنملا، وأنا اليوم لم آكل لقمة واحدة، مما يعني انتفاء سبب وجيه لهذا الفيلم الهيشتكوكي.. سأتأكد تمامًا من هواجسي حين مال إلي أحدهم وقال لي : "هج" يريدك، وذكرك بالاسم "..

          انتفضت، وصرخت بذهـول :

          عفوا سيدي،

          هج يريدك؟ ألا تسمع نداءه؟

          وكيف تعرف أني المقصود.. ثم أنا هو "هج".. وإذا كان هنا غيري من يحمل هذا الاسم فهي صدفة لا غير، لكن كيف يعرف اسمي.. قُــل؟

          لم يجبني، إنما الجواب سيأتيني من غادة جميلة، وقفت بين الجمع، وقالت :

          " التمثال هج يرحب بكم،وأريدكم آذاناً مُـصغية لخطبته المسائية "..

          هذه المرة لم يتحرك غيره، والناس من حوله موميات، أنا الوحيد بينهم عبارة عن كتلة من اللحم..وربما العكس تماماً..

          تكلم التمثال وقال :

          " أيها الأوداء، هذا المساء مختلف تماماً، لأول مرة يزور المعرض من أتوسم فيه بعضاً من ذاتي، إنه بينكم.. إنه نظيري، غريب مثلي، ونسيبي كما همس لي منذ قليل..

          قال ذلك ونظر إلي دون أن يشير.. "يا إلهي، إنه يقصدني.. هل أنا نظير؟" ولتمثال..! ؟

          "الصمت يلفني من الداخل، أما الخارج فإطار أنا فيه مجرد جثة محاطة بكائنات غريبة، أصرخ في وجوهها، ولا يُسمع صوتي،لم تصدر عن الحاضرين ولو همسة حين حركت يدي في كل الاتجاهات،كنت أريد أن أثيرهم، لكنهم هم من أثاروني حين وضعوا أيديهم على قلوبهم وهم يستمعون لهج، بدا لي أن المكان المناسب لوضع أيديهم هي الرؤوس لا القلوب، في هذا الموقف على الأقل..، أضع عنهم يدي فوق رأسي، فأبدو كمن يجلس الحِبى بالمقلوب، لا تزال رأسي ثقيلة مع ذلك،وقلبي أتحسسه فتذهلني دقاته التي تتالى كلما تأملت التمثال الذي لازال يسترسل في خطبته، لم يبرح مكانه،لكن حركة الحاضرين توقفت تماماً، وكل ما في الجمع هو هيئتهم وهم يصيخون السمع باهتمام بالغ..

          يسترسل هج في كلامه : " أنا اليوم تَـئِق،و نظيري بينكم مِئق، ويبدو أننا- لا اليوم ولا غدا- لن نتفق، هو سيظل تحت وأنا دوما فوق...."

          صمت هنيهة فأضاف دون أن يتحرك:

          " إن خالقي مهما أوتي من مهارة فنية فإنه لم يفلح في أن يوحد بين نقط الاختلاف بيننا.. لذلك لن أقدم لكم نظيري اليوم، ولكني سأفعل لاحقاً حين ستتحاذى روحانا، في الفِعال، حذو النعال، وفي انتظار هذا اليوم فليكن سعيكم شتى.. الشيخ منكم قبل الفتى.. "..

          ستغرق القاعة في تصفيق حار لكلمات "هج" الأخيرة، أرى الأيدي فقط تحتك، ورغم أن كل واحد من الحاضرين يوقع بالبنان على البنان، ولكني لا أسمع أصواتا مع ذلك، بل لا أرى أحداً غيري في المكان، حتى التمثال لا وجود له.. أنا فقط لا غير، أجلس، كعادتي، في مكان موحش اعتدت عليه محاطًا بلوحات تحيرني، وأصباغ تلطخ داخلي أكثر مما تلطخ ما أرسمه دون أن أتمه أبدًا ؛ كلما جلست لأرسم " أم لوحاتي" أحلم بأني فنان ناجح يقيم معرضًا يزوره الرواد، ويثنون عليه، فتناديني الأصوات من الداخل، ويتهافت أصحابها على شراء لوحاتي،أراهم يخطبون ودي، ويسعدهم توقيعي الذي يعلي من شأني قبل شأنهم، و في صدر صالونات الفيلات سيعلق المعجبون لوحاتي، وقد يختلفون في شرح تيماتها، لكن حتمًا سيتفقون حول اسمي وبراعتي وألمعيتي.. هكذا أقضي يومي كما العريس، وسط لوحاتي، أستمتع بحرارة اللقاء مع روادي كلما غشيت فكري أوهام أستمرئها.. وأظل أحلم، أتخيل، وحين أصحو للحظات فقط أكره واقعي، وأتـفل على لوحاتي التي لا يعرفها أحد، وألعن وحدتي، ولا أجد حولي أحداً من زواري، وأقتنع على مضض أنهم موجودون في مخيلتي فقط، وهناك في ذاكرة الموتى أتخيل كثرتهم،أستقبلهم بصفاء، أحس بهم، أحاورهم، لكني أفتقدهم في الصحو رغم كثرتهم..

          "هم موجودون فقط في مخيلتي..."

          يا إلهي،إنها الحقيقة، لكني أرفض التسليم بها لأن الصفاء الذي يجتاحني، بسبب وجودهم، يريحني كلما أثنوا على رسوماتي، وتهيجني مجرد ملاحظة منهم مهما كانت بسيطة تنتقص ليس مني فقط بل من كل فنان.. سأكتب يوماً في وصيتي( ليس مُهمًا لِمَن) بأن الحلم هو ما ينقصنا في زمن فيه هاتف نقال وحاسوب..

          لا أحب أن أصحو، وحين أفعل مرغماً أحسب الواقع حلمًا، ولا تصفو نفسي إلا في نير هواجسي، أعتبر نفسي فناناً يعرفه القاصي والداني.. لكن ما سيحصل لي هذا الصباح سيغير أشياء كثيرة من مجرى حياتي،سأهتــاج لما ورد في صفحتي الخاصة في الفيسبوك، قرأت فيها الخبر التالي:

          " الفنان العظيم "هج"، ستكون ضيفنا، ندعوك لحضور حفل بهيج نقيمه على شرفك، سنسلمك جائزة أسوأ لوحة فنية ترسمها هذا العام.."

          لم يشغلني السؤال عن الجهة التي تقف وراء الدعوة، ولكن الذي يسبق على هذا لأنه الأهم هو اعتبار أصحابها مجرد حثالة، أوباش، يغارون مني.. ودعوتهم في النهاية، وإن كانت تضمر مذمة فهي من ناقص لكامل..

          سأقضي يومي مثل ثور، أضرب أخماسا لأسداس.. الرسالة نصب عيني مثل ملاءة حمراء..أقرأها، وأعيد قراءتها، وكل مرة أزداد اقتناعا أني لست المقصود البتة بل "هج" الآخر...

----------------------------
قصة آدم يصنع مملكته
محمد عباس على داود

          خرج من كوخه الكائن على حافة الليل، مجاوراً للبحر من ناحية، ومطلاً على أطراف الجزيرالساجية أمامه على طول البصر من ناحية أخرى ، مضى باحثاً عن سبب صخب الحيوانات فى مثل هذا الوقت من الليل، بدا البراح أمامه ممتداً وسط حلقة من أشجار ضخمة السيقان عملاقة الهامات، يعلوها بدر فى أقصى السماء، يحاول النفاذ بأشعته من خلال الأوراق المتراكمة والمتلاحمة على فروع متلاصقة، تسمح بالكاد للعين أن تحدد ماتراه، رأته الحيوانات، هرعت اليه، أحاطت به فى حلقة دائرية وهى ماتزال تهز الليل بضجيجها، غزته رعده خفيفة وهو يحاول ادراك ماهناك، تلك الحالة لم تصب الحيوانت من قبل، مذ وطأت قدماه أرض تلك الجزيرة وسط الماء بعدما سقطت الطائرة به واستطاع السباحة الى هنا، والف الحيوانت والفته، وبنى كوخه فى تلك الرقعة بالذات ليكون دوماً بجوار البحر، لعله يوما يعود الى موطنه ، تقدم على هدى الضوء المتاح له بينما الظلال تتراقص من حوله ممتزجة بأصوات مضطربة بظلام داهم يطوق عتمة مترصدة، توقف مرة واحدة ذاهل العينين شاعراً أن قلبه يتضخم ضاغطاً على صدره مصدراً دقات هائلة تكاد تصم أذنيه وهو يرى ضوء القمر ينفذ من بين الفروع والأوراق ملتفاً حول هيكل أنثوى، إمرأة حقيقية لها وجه وعينان تنظران وفم يتكلم، مسح عينيه وفى روعه أن الوهم تجسد أمامه وتشكل بالصورة التى رسمها من قبل، لقد حلم مراراً بإمرأة تشاركه المكان قائلاً لنفسه أنه أدم جديد فى جنة عذراء ينتظر حواء التى قد تهبط عليه من السماء أو يحملها البحر اليه.. تقدمت المرأة خطوة ارتعد جوفه تراجع خطوتين، فتحت فمها، إزاداد ارتجافه، انتبه لصوتها تسأله :-

          - من أنت ؟

          صوتها صوت أنسى، يلفها ضوء القمر من أول شعرها المنسدل حول النحر مروراً بجسدها السارح حتى قدميها..قال بصوت غريب عنه :-

          - أحمد، وانتى ؟

          قالت:- ساره

          فكر أن يسألها عن طبيعتها من نار أو تراب أو هى من نور، خشى أن تفضحه حروفه، صمت قليلاً فكر فى سؤال أفضل، همس :-

          - كيف أتيت ؟

          وتعلقت عيناه بشفتيها استعجالاً للجواب قالت :- من البحر، القتنى سفينة هالكة

          ازداد صخب النبضات فى جوفه وهو يسأل :- وحدك ؟

          هزت رأسها :- ربما..ظللت عالقة بطوق النجاه زمناً، لا أرى أحداً حولى حتى وصلت الى هنا

          صمتت قليلاً قبل أن تكمل:- أريد البحث عن زوجى، كان معى على السفينه

          انطفأت شعلة الفرح فى عينيه، قال ببطء :- لم أر أحداً

          سألت بحزن ٍ :- والعمل ؟

          قال باذعان ومواسياً فى ذات الوقت :- نبحث عنه.

          وسط بركان من حيرة يمور فى صدره مضى معها،عيناه تنظران وتدققان فى البحث وقلبه يبتهل بدعاء يخشى أن يبدو طيفه على شفتيه، موقناً أن الجنة لايمكن أن تتسع لرجلين معاً، أدم كان واحداً وكذلك حواء، لكنه لايجروء أن يفكر وهو معها فى هذا، يخشى أن تقرأ على صفحة عينيه مايمور فى صدره من أمنيات لايستطيع الفكاك منها..دارا طويلاً ولم يعثرا على شىء، عادا الى الكوخ، أشار اليه بهدوء واثق :- هذا لك ِ

          لم تفهم، قال موضحاً : - هو الأكثر أمانا ً هنا

          سألت :- وأنت ؟

          تبسم بتواضع مشيراً الى جزع شجرة يرتفع مائلاً على زاوية نصف قائمة الى أعلى، تعلوه الأوراق والفروع المدلاه كغطاء طبيعى وقال باسماً  :- هذا مرقدى

          شكرته ودخلت الكوخ، بدا خالياً الا من سرير مصنوع من جريد النخيل معلق من طرفيه على يسار الداخل وتحت النافذة مباشرة، بينما الى اليمين توجد مائدة من جزوع الأشجار صغيرة عليها بعض الفاكهة، يجاورها نصف إناء من الفخار عثر عليه وهو يجوب أنحاء الجزيرة فاخذه ليخزن فيه الماء ويشرب منه.

          أغلقت الباب خلفها، من النافذة الصغيرة نفذت ظلال الفروع المتراقصة بفعل الهواء متلاعبة بالضوء المتسرب من بين الأغصان على أرض الكوخ فبدت أشباحاً تشاركها المكان، ارتعدت، طلبت أن تتخذ من جزع الشجرة خارج الكوخ منزلاً على أن يعود هو الى كوخه، حذرها من الخطر خاصة ليلاً، وجدا أن الحل المناسب ورغم حزنها على زوجها المفقود أن يشاركها الكوخ.

          الجنة ليس لها الا سيد واحد هو أدم، هكذا تحدثت كتب التاريخ، صحيح أنه أخطأ مما عرضه لعقاب النزوح عنها، غير أن أدم الجديد سيتعظ مما سبق، سيعلن نفسه سيداً على الجزيرة بلا شيطان يزعجه، فقط ستكون معه حواء، سوف يهبها السعاده ممزوجه بالتقدير، سيجمع الحيوانات، هويعرف أنهم يميلون اليه، ويفهمون عنه، سيخطبها منهم، يطلب أن يزفوها اليه، يباركوا فرحته، ويكونوا حماة سعادته، ايضا سوف يبنى كوخاً كبيراً بهذه المناسبة لكى يتسع لمكانته كأدم جديد.

          ظهرت سفينة على خط الأفق، بدت حلماً عائماً على موجة من الأمنيات، رآها فطارت نظراته صارخة اليها، طار على الشاطىء محاذياً له وهو يلوح بيديه محاولاً أن يلفت الانتباه، جمع بعض الأوراق والجزوع الجافة وأشعل فيها النيران، رآها تمضى عنه ولاتحس به، صب لعناته على كل شىء، تلقته ساره مزمجرة :- أنت أدم هنا.

          أشاح بيده :- أدم صنع مملكته هناك..انا لم أصنع شيئاً

          أدارت وجهها ناحية بحر ناعم الملامح يتيه بلونه السماوى وبراءة ملامحه تحت وهج شمس منتشية بلمس وجنتيه، قالت حالمة :- تذكر أنك السيد هنا.

          دار بعينيه على الناحية الأخرى حيث السكون والوحشة الركود الجاثم بين الأشجار وعاد معترضاً :- سيد على مجموعة حيوانات ؟

          حدقت فى أعماق عينيه لائمة :- هذه الحيوانات أنت الذى تقربت اليها.

          أدار عينيه عنها ملقياً بصخب نظراته الى عمق الماء أمامه، هى لاتفهم مابه، حنينه الى الأرض هناك والناس والطرقات والمشاكل وربما الاعيب الشيطان ايضا، كيف يكون أدم بلا خطيئة يقاسى ويلاتها ويعود الى ربه منيباً اليه ويتوب عنها، الرتابة موت والركود فناء، مكافحة الإثم والانتصار عليه هو سر الحياة و روعتها، يريد الضوضاء ومهرجانات النور ودهاليز الظلمة والاعيب الأنثى، مرارة الهجر ولوعة الفراق وبهجة الوفاق، أما مايعيشه هنا فلم يعد الا فناء، جمود يتحرك، وبرودة يغلفها هدوء وسكينة، خاصة من سارة التى شغلتها عنه أمور لايعلمها، صارت لاتنطق بكلمة معه الانادراً، تتعامل مع الحيوانات أكثر وارتباطها بها أشد، وربما مضت أوقات طويلة لاتقترب فيها من الكوخ أو تبالى به مكتفية أن تعيش بينهم، فاذا ماصرخ فى وجهها :- تذكرى أننى زوجك

          تبسمت وهى تشير الى الحيوانات :- وهؤلاء عشيرتى

          يزداد توتراً :- وأنا ؟

          تقول فى دلال وبصوت ناعم :- حاول الإقتراب لتكون واحداً منهم

          وتسير مبتعدة عنه.

          هش لفكرة أطارت النوم من عينيه، تلك المرأة تريد تريد الاستقلال عنه، هو يفهم هذه الأمور، تريد الإطاحة به لتصبح وحدها مالكة كل شىء، بدأت بالحيوانات فحولتهّا عنه، وهاهى الآن تجعل منه كمّا مهملاً لاقيمة له، لن يمهلها لتفعل ماتريد..هب من فوره اليها، رأته على البعد قادما يحمل بين عينيه فكرته المتأججة، حادثت الحيوانات فأحاطت جموعهم بها فوراً، ارتفع صراخهم فى وجهه،زادت نيرانه تأججاً،  غير أنها شعرت بالام هائلة تعتصر أحشاءها، صرخت فيه :- الحقنى

          وارتمت أرضاً، اقترب محاذراً وصدره مايزال يغلى بفعل نيران أفكاره، رأى جنيناً ينزلق منها، طفلاً حقيقياً يبكى أمامه، اتسعت عيناه كأنما تتلقفان حقيقة كانت غائبة عنه و تبددت الفكرة بنيرانها وعنفوانها فوراً عنه، أراد أن يضحك، يضحك بكل قوته وفى ذات الوقت ينفجر فى البكاء، أدم الجديد يصنع مملكته أخيراً، يرسم خلوده، يكتب عبر أبنائه و أحفاده حكايته..اقترب منها، مدت يدها ضعيفة نحوه، بالكاد وصلت اليه، التقطها برفق، ضمها بحنو،ووسط صخب الأصوات أرهف أذنيه منتظراً أن يسمع تعليماتها لكى ينفذها فوراً.
--------------------------------
* كاتبة وروائية من سلطنة عمان.

--------------------------------------

عِلَّةَ البَدرِ راقِبي اللَهَ فيهِ
                              لا تَضُرّي بِجِسمِهِ وَدَعيهِ
وَدَعي سَيّدي وَدونَكِ جِسمي
                              مَنزِلاً ما حَلَلتِهِ فَاِسكُنيهِ
أَنا أَقوى عَلى اِحتِمالِكِ مِنهُ
                              حَمِّليني أَضعافَ ما يَشتَكيهِ
وَاِتَّقي اللَهَ في غَزالٍ رَبيبٍ
                              ما لَهُ في جَمالِهِ مِن شَبيهِ

علي بن الجهم

 

بدرية الشحي*