خليل حاوي: إضاءات من صوفية الشعر

خليل حاوي: إضاءات من صوفية الشعر

كان خليل الحاوي, منذ طفولته وفي عهد صباه, كائنا متمردا يرفض الواقع, يساميه ويسمو عليه. وبعد طفولة راغدة بكنف والديه اقتضته الأحوال العائلية أن ينصرف إلى أعمال يدوية متعددة, كان يأنف منها ويربأ بنفسه أن تقف به عند حدها. ومن عامل بسيط يحترف حرفا قروية عاد تلميذا في كلية الشويفات الوطنية, وهو في نحو الثلاثين من عمره, حيث نال شهادة الهايسكول وولج إلى الجامعة الأمريكية ونال شهادة البكالوريوس والماجستير وسافر إلى كمبردج ونال الدكتوراه على أطروحة فذة كتبها عن جبران خليل جبران وكانت فخرا لأستاذه أربري, يزهو بها ولايزال يدفعها للطلبة الجدد ويطلب منهم أن ينسجوا على منوالها. ثم إنه عاد إلى الجامعة الأمريكية وتدرج في الرتب الجامعية حتى نال أعلاها قبيل موته بقليل.

إلا أن خليلا كان قد بدأ ينظم الشعر العامي, وهو في الثامنة عشرة من عمره وينشره في مجلة (العرائس) التي كان عبدالله حشيمة يصدرها في بكفيا. وذاك شعر ريفي, تخلى عنه خليل فيما بعد, وأنف منه وتجاوزه ومال إلى النظم في اللغة الفصحى, وله قصائد فيها منذ عهده الأول, ولكنه تكرس لها حين عودته إلى الدراسة. أسقط خليل كل ما نظمه قبل (نهر الرماد) أكان بالعامية أو بالفصحى, اعتبره من المحاولات الأولى التي لا قبل له بتبنيها, والواقع أن خليلا كان يتنامى نفسيا وفنيا وثقافيا في الزمن, وكانت ثقافته عربية, أدبية, فلسفية, ولم يدع كاتبا أو شاعرا كبيرا دون أن يتقصى فيه بأعمق المصادر والمراجع, وإذا كان خليل قد عبر بمراحل متعددة, فإنه ظل واضحا متماثلا منذ شعره الريفي حتى القصائد الأخيرة التي نظمها قبيل موته. والحنين إلى الطبيعة وأعياد المواسم وتدفق الخصب وأثداء الأرض كانت ماثلة في قصائده الأولى وهي تتلامح لنا عبر نهر الرماد في ذلك التوق النازف إلى عالم البداءة والحقول والحصادين وبنات وأبناء الجبل, وكان يتعزى في سويدائه بهم وبالخصب الذي يرتعون فيه وبالضوء الذي يتضوأ من جديد في القرية. وخليل كان يتغنى بتموز, تموز الحصاد والغلال, يتغنى بالصلب القوي الذي يلد نسلا قويا متحررا من العاهات والهنات والهوان, وقادرا أن يتحمل عبء الحياة بكرامة وحرية, وهو هو ذلك الخصب كان الينبوع الدائم الذي يتوق إليه, وهو عامل صمود وبعث ضد عوامل الفناء والجمود التي تتحجر بها الحياة وتتآكل وترتد على ذاتها وتكون هي ذاتها في كل حين. إنها الحياة الجامدة أوالمتجمدة وهي تمنع الإنسان أن يكون وأن يتحقق, تنفيه وتدعه يكرر سيرة أبيه ويتعبد لعكازه وللخفاش المذهب الذي غادره في دار المنزل. العودة إلى زمن الخصب والعودة إلى زمن الخصب ذاك هي عودة إلى زمن البكارة والبراءة, حيث كان الإنسان متوحدا مع الكون, ومغتبطا به وغير منفصم عنه, فالكون حال في الإنسان والإنسان حال في الكون, وليس من عداوة ولا ضراوة ولا نقض ولا تناقض بينهما. وذلك الزمن كان خليل يطلبه للبراءة النفسية وفي الآن ذاته للبراءة الفنية, يرجع فيه إلى عهد الدهشة الأولى والفطرة ويعانق الوجود بذاته وبمعانقته الخاصة به ولا يقف دونه عامل التقليد واللغة والمعاني والأفكار. وبذلك يكون الحنين إلى زمن البكارة حنينا إلى العُري الفني, حيث يتطهر الشاعر من المعاني ومن الموضوعات ومن المفاهيم, ويكون قادرا على أن يعبر عن الوجود ببداهته وبراءته وتزول الرواسم التي مازال الشعراء يتماضغونها ويتعابثون ويتماجنون في ابتكار التأويل لها. وذلك لا يعني أن خليلا كان ضد التراث وأنه كان ينفيه نفيا أكيدا ومطلقا. لقد كان يتعامل مع التراث, وأيا ما كانت المحاولات, فإن قسما من التراث يبقى عبر الجديد كما يقول إليوت. إلا أن خليلا كان عازما على أن يستبقي منه الجزء الحي والدائم وهو الجزء المتصل بالخصب كرمز للحياة, للحياة القادرة على التجدد والنهوض. كان ينبغي إزالة الإنسان القديم كما كانت الحياة تفعل حين يأسن الإنسان ويتفسخ. فقد كان يُرسل إليه الطوفان ويجدد نسله أو كان يُرسل إليه النار والكبريت كما فعل في سدوم. وفي قصيدة (سدوم) عبر الشاعر بتجربة النار, وكان يجزع أن يلتفت إلى الوراء أي أن يحّن إلى الماضي أو يتحول كامرأة لوط إلى عمود من الملح أو إلى مسخ من بلاهات السنين كما يقول في قصيدة سدوم. وفي قصيدة (عودة إلى سدوم) نلقى النار ذاتها وقد عاد بها من الجبل كأنبياء العهد القديم وجرف بها تاريخه وذاكرته ليولد من جديد.

عدت في عيني طوفان من البرق
ومن رعد الجبال الشاهقة
عدت بالنار التي من أجلها عرضت صدري
عاريا للصاعقة
جرفت ذاكرتي النار,
وأمسي, كل أمسي فيك يا نهر الرماد
صلواتي سفر أيوب وحبي
دمع ليلي, خاتم من شهرزاد
وليمت من مات بالنار
حملت النار للفندق, للبيت المخرب
فيه عكاز أبي, أطماره
ويضيء البيت خفاش مذهب

وهكذا فإن في شعر خليل عودة إلى الزمن الأول وعبورا في مطهر النار التي تبقي الجوهر وتنفي الأعراض والطفيليات الطحالب كما كان يقول, وهي هي هذه الطهارة هي التي تمكنه من الإبداع وهي هي, في الآن ذاته, التي تُبدع الإنسان الحر الذي تخلى عن ذاته الماضية وعن أهله وصحبه وعن الأنفاق والأروقة المفعمة بالكذب والرياء والدهاء والحيلة, حيث يقطن الوحش والثعلب والتاجر والطواغيت الكبار. والسندباد, وهو الشاعر, حين قام برحلته الثامنة, كانت تلك الرحلة مخالفة لرحلاته السابقة السبع كلها. كان في رحلاته القديمة يطوف في أنحاء العالم وأرجاء الطبيعة والبحر والجزر والأرخبيلات. إلا أنه في الرحلة الثامنة, قام برحلة داخلية في نفسه واهتدى فيها إلى الدهاليز والإنفاق حيث تعشش الرذيلة وتأسن مياه الروح ويركد الخصب والفعل والفاعل في الوجود.

والسندباد ذاك هو صنو البحار, وصنو المجوسي الذي طلب نجم الحقيقة واقتفى أثره في بلاد الغرب بعد أن قنط منه وانطفأ عليه في بلاد الشرق, وهو صنو للنبي العائد من الجبل, وصنو للمسافر الذي كان يخوض في الرمل لينال العبارة البكر, يشرب المرارات الثقال بلا مرارة, لعله يدرك ذلك الشيء الذي يُحسه عنده ولا يعيه.

رائد التجربة الصوفية

فخليل هو رائد التجربة الروحية والصوفية في الشعر المعاصر, كما قال عنه أحد النقاد المصريين, ولكنها ليست الصوفية التي عُرفت الدرويش القاعد والذي شرش ونما عليه الطحلب, وإنما الصوفي الناهد إلى الحقيقة والحرية, والذي تتحول الكلمة عنده إلى فعل خالق. وتلاحم الكلمة والفعل جعل من خليل شاعرا وثائرا مثل الداديين الذين كانوا يعتبرون القصيدة جزءا من السيرة, وأن الشاعر يحقق شعره في القصيدة وفي السيرة سواء بسواء, وليس من تباين بين شعره وعمره, وهما, جميعا تعبير عن المواقف التي آلت إليها العواطف. وهذا التلاحم هو الذي يفسر مأساة خليل الأخيرة حين أفرغت الكلمة من مضامينها واستقل عنها الفعل وبات يتعفر ويهون بأبخس أنواع الهوان وكأن الإنسان يلوغ الوجود في وحوله ونفايته وحثالته.

إلا أن خليلا وإن كان شاعرا التزاميا كاملا, فإنه لم يُقم شعره على قيمة الموضوع. فليس للموضوع قيمة في الشعر بحد ذاته, وخليل يأنف أن تُقصر قيمته الإبداعية على مواقفه التحريضية الثائرة. لقد كان خليل شاعرا جماليا محضا بقدر ما كان شاعرا التزم قضية الروح في الإنسان والكائن الفعلي المتكون بالأسفار والتطواف والتهجد لينال حقيقته ويقينه. وجمالية خليل كانت في سبيل المضمون وفي سبيل تحقيق المعاناة وتجسيدها في أقصى أبعادها وأنأى احتمالاتها, ومن دون الجمالية الخالقة والمتعنتة, فإن المضمون الوجودي والحضاري والإبداعي ذاته يتهافت. وبقدر ما تكون المعاناة جمالية يتعمق المضمون ويتسع ويصمد لعوادي الزمن العافي والمحيل. وهذه الجمالية بالذات هي التي جعلت خليلا يتنكب عن الإيهام بالحقيقة والتهويل بها, وافتراضها افتراضا ومقارنتها والعبث بها. إنه كان يطلب في شعره الحضور الفعلي في قلب الحقيقة ذاتها, وبذلك عرف حالة الرمز, وهو حلول للروح في المادة وللمادة في الروح. المادة تشف وتتضوأ بالسرية الروحية والروح تعانق المادة التي تبتدعها من أنقاضها ومن أضغاثها الواقعية, فالرمز هو معانقة حميمة وفعلية وخلقية للمادة والروح وعودة لوحدة الوجود وإلى الزمن الأول البكر حين كان الإنسان والكون واحدا كما في زمن الأسطورة أو الميثوس عند الأغارقة. والرمز ليس أداة ترفية ومجانية في الشعر, إنه وحده قادرا على أن يستقطب الزمن كله. الماضي بالأسطورة والحاضر بالمعاناة والغد بالرؤيا. وهو يوحد الذات مع الموضوع والجزئي بالكلي والطارىء بالدائم والإنسان والكون. وهكذا يكون التجسيد الفني عبر الرمز, والرمز هو دراسة تأملية روحية للمادة بحيث تتكشف عن نواياها وأسرارها. والرمز يقينه في ذاته. إنه يقنع بذاته ودون حاجة إلى الجدل والبينة والقرائن لأنه ينال من المادة حقيقة فعلية كامنة ومستسرة فيها ولا يقبل التشبيه الذي يماثلها بالمقايضة أو أنه يستعير ويتكنى عليها. والرموز تترى في شعر خليل, وهي منتفية عن الأشكال الوصفية المأثورة في عمود الشعر. الرمز لا يتخذ المظهر بل الجوهر والمعنى والنية, وهكذا أولج خليل إلى الشعر ألفاظا كانت تنبو فيه وكانت مطرودة أبدا من نعيمه لأنها لا تحمل الشكل الوصفي المقارن كما هي مثلا حال ألفاظ الورد والسوسن والآس والياقوت التي تنطوي على جمال حسي يؤثر فيذكر ويقرن به للغلو والتعبير بالمعادلة والاستنتاج الضمني. ففي شعر خليل نعثر على ألفاظ الملح والقمح والكلس, وهي عاطلة عن كل صفة وصفية, لم تؤثر ولم تذكر من قبل عند أي شاعر, ذاك أن الرمز يتجاوز المظهر إلى الجوهر, وإلى الحركة الوظيفية المتصلة بالتنازع على الرزق والخصب والحياة والموت, والملح والكلس هما رمزا العقم, وهما ضد الحياة وليس في ذلك ريب ولا ردة ولا تردد. وإلى جانب الرمز الحسي والنفسي توسل خليل الرمز الأسطوري, والأسطورة تنبعث من الوجدان العام الغفل وتنقل معاناة شعب, وهي تحمل حقيقة فعلية ومعصومة وشعرية لأنها تولدت حين كانت النفس واحدة, وهي تتعامل مع الكون بكليتها. والسندباد والدرويش وتموز وسدوم والخمر والزاد والمن والسلوى, هذه كلها من الرموز الأسطورية الحية النامية في تربتها وفي معاناة شعبها وليست مقتبسة كما هي الحال في الشعر الذي لايزال نستشعر فيه طعم الترجمة, والذي ندرك من خلاله أي شاعر قرأ صاحبه قبل أن ينظم قصيدته الأخيرة.

الشاعر مفكرا

وشعر خليل يثير قضية الفكر وصلته بالفن عامة والشعر خاصة. والجماليون والشكليون كانوا يعتبرون الشعر نقيضا للفكر, وأنه ينصرف إلى المعاني والصور كذرائع لخلق الأشكال الجمالية شبه التجريدية المنفصلة عن الحياة والمعاناة. ونحن نعلم في زمننا أن الشعر يتخطى العقل, وأنه يتجاوزه, ولكنه لا يناقضه بل نقيض ذلك, الشعر هو العقل ذاته كما قال الكلاسيكيون حين يذهل وتتحول فيه الأفكار والعواطف إلى مشاهد ورؤى فيبصر ما كان يفهمه وما كان يعانيه. الشعر الدائم والحي قد يكون متولدا من ذهول العقل عن ذاته وذوبانه في الحالة الكلية التي تستولي على النفس ويكون العقل مستسرا ولا يكون خارجيا ونابيا. وإذا أخلفت التجارب الشعرية العقل المستبطن, والذي امتدت روحه وجذوره في التجربة, فإن الشعر يغدو هراء أو أنه يكون هذرا وتفشيرا, كما أنه إذا ما طغى العقل العقل يتحول الشعر إلى تقرير وتفسير وذهنية وتجريد. فالعقل والثقافة يمنحان الشعر صفة الشمول والديمومة. فخليل من هذا القبيل هو كلاسيكي فليس في شعره طفرة ولا رعونة ولا تسفيه للحقائق مما يطغى على شعر الانفعاليين والمهووسين.

ولا يعدو ذلك الإيقاع الذي اعتصم به خليل من دون بعض الشعراء المعاصرين, وكان موضع نزاع وصراع بينه وبينهم. والإيقاع مستمد من الطبيعة بين الحركة والسكون والمد والجزر والحداء, وبين حركات الليل والنهار بل السير والرقص. وهو في الشعر يحتضن النغم حين يعيا ويبعثه من جديد كما أنه يكون معبرا بين الوعي واللاوعي وباعث النشوة والذهول. وإذا كان النثر ينم عن الأفكار المنثورة بلا عقد وانتظام, فإن الإيقاع هو باعث التأليف والتآلف والنظام وهو ضد التشويش والفوضى, وكأنه الأداة الأولى للتجسد وقيمته لا تقل عن قيمة اللغة ذاتها. وخليل لم يتخذ الإيقاع في رتابته بل إنه نوّعه وأبدع فيه أحوالا متباينة بين طول وقصر وامتداد وانحسار ولم يدع عقد القصيدة ينفرط ويندثر دون رباط أو وثاق. ومهما يكن فإن خليلا كان يرعى شعره ويحرص عليه ورفض أن يحسب من باب الاختبار, بل يؤكد أنه من باب الخلق السوي الناجز وأنه عانى فيه معاناة الإنسان الأعلى الساعي أثر كينونته الفعلية, وقد وفق إلى التكامل ومعانقة الحقائق وهي بعد طيف سري يهوم في أرجاء النفس والوجود.

 

إيليا حاوي

 
  




خليل حاوي