أرقام محمود المراغي

أرقام

جريمة كل عشرين دقيقة

تقول الأرقام إن ظاهرة قتل الزوجات تكاد تمثل في إسرائيل ربع عدد حالات القتل الجنائي! في ذلك العام الذي نتحدث عنه- 1994- جرى قتل (84) إسرائيليا لأسباب جنائية تبتعد عن السياسة.. بينهم (19) سيدة كان الفاعل في جرائمهن هو: الزوج!

وقد تبدو الإحصائية غريبة وخطيرة.. غريبة في نوعها لأن الزوج يتحول فجأة من شريك حياة.. إلى قاتل- وخصم عنيد.. وهي خطيرة لأنها تأتي في نسيج متكامل من أرقام ذات دلالة.

التقرير الذي حمل هذه الأرقام أذاعه قسم عام الشرطة الإسرائيلي، وموضوعه الجريمة عام 1994 والتي زادت بنسبة (2،8%)! على عام 1993.

الجريمة تزيد، وفي التفاصيل ما يلفت النظر.

معدل التكرار: حادث عنف كل عشرين دقيقة.. وأنواع الجريمة متعددة.. على رأسها: المخدرات؟ وتسجل (44) ألف حالة تم ضبطها، طبعا بخلاف ما لم يتم ضبطه، وهو الأكثر عادة.. في المرتبة الثانية تأتي جرائم سرقة السيارات: (26284) جريمة خلال العام.. بمعدل 72 سيارة يوميا.. أي: جريمة سرقة كل عشرين دقيقة أيضا! أما جرائم الاغتصاب، في مجتمع مفتوح لا يعاني من عوامل الكبت الجنسي، فتضرب رقما قياسيا آخر: جريمة كل خمس ساعات!

أرقام لها معنى

أرقام الجريمة في إسرائيل تلفت النظر.. فهي الوجه لآخر لمجتمع يتحدث عن التقدم والسلام والتعايش مع الآخرين.. و.. بصرف النظر عن ظاهرة احترام لقانون أو اغتياله، فإن هناك دلالات أوسع.

لقد تعددت الدراسات العلمية حول الشخصية الإسرائيلية، وكانت البداية دائما: الوقوف أمام نفسية المهاجر.. فالذين ولدوا في إسرائيل الدولة لا يزيد أكبرهم على 74 عاما. لا يوجد بينهم كهل.. ولا توجد بينهم ظاهرة الأجيال المتعاقبة؟.- إلا لعدد محدود شاءت المصادفة أن يكون من سكان فلسطين قبل عام 1948

والأغلبية مهاجرة، تركت أوطانها لتغرس جذورها في وطن بديل.. لم تجد فيه غير القلق.. فهذه هي طبيعة تغيير الأوطان. إحساس بالغربة... غياب لليقين.. انتظار للمجهول.. وسوءات أخلاقية أساسها ما يسميه رجال الإدارة: سيكولوجية الفرصة المحدودة.. فإسرائيل ليست كندا، وليست أستراليا مثلا التي تحتل قارة وتبحث عن مواطنين.. إسرائيل في النهاية رقعة صغيرة وفرص عمل محدودة وحدود ضيقة تزداد اتساعا بالعنف.

الكل يبحث عن مكان ومكانة في مجتمعه الجديد.. لكن المكان والمكانة لا يتسعان للكثير فيبدأ الصراع.

في نفس الوقت، وعلى الجانب النفسي أيضا، فإننا أمام نوعين عن المشاعر التي تسيطر على اليهودي إحساس تاريخي بالاضطهاد، وبما يجعل لديه ميلا لاضطهاد الآخرين والانتقام منهم، حتى لو لم يرتكبوا ذنبا في حقه كما هو حال الفلسطينين.. والإحساس الثاني: إحساس الأقلية التي لا تذوب، والتي تحس أنها لا بد أن تكون في حالة دفاع دائم عن النفس.. سواء كان موطنها أوربا.. أو أثيوبيا.. أو فلسطين المحتلة.

إنهم دائما في عزلة، ودائما في وضع الاستعداد.

و.. يمتد ذلك ليسيطر على شخصية الفرد وشخصية الدولة.. السلوك اليومي، والسلوك السياسي.

مجتمع الكوكتيل

ومن الفرد إلى المجتمع يمكن أن يمضي التحليل، فلسنا أمام. نسيج متجانس، لكننا أمام تركيبة صناعية تضم - وعلى أساس عرقي وديني - المسلم واليهودي والمسيحي. وفي داخل اليهـود، شرقي وغربي، وبين هؤلاء مهاجر قديم ومهاجر حديث.. مهاجر أوربي غربي له الأولوية.. ومهاجر أوربي شرقي له الأقدار! إنه مجتمع الكوكتيل يفتقر للألفة، وتغيب عنه فكرة الرادع أو الوازع فالوحدة الصغيرة (الأسرة) عنه فكرة الرادع الكبيرة (المجتمع) وحتى في حدود الوحدة الصغيرة، وكما تقول الأرقام الرسمية التي نقلتها وكالات الأنباء في أوائل 1995، انتشرت ظاهرة قتل الزوجات، وإذا كانت هذه في حالة المجتمع قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، وتحلل الكتلة الشرقية.. فإن حالته فيما بعد ذلك قد اختلفت نوعيا.

تزايد معدل الهجرة، ولم تكن حالة الاقتصاد الإسرائيلي قادرة على أن تستوعب كل المهاجرين. سمحت إسرائيل بالاستيطان، لكنها سمحت أيضا بالانتحار لهؤلاء الذين لم يجدوا فرصة عمل أو مجال رزق! البعض لم يجد غير الوظائف الدونية، بينما كان تخصصه في وطنه الأصلي: مهندسا، أو طبيبا، أو عالما! لقد جاءوا بدافع الإغراء المادي وليس بدافع عقائدي... فلما افتقدوا الجنة الموعودة تعددت بهم السبل، بين"هجرة مضادة، وجريمة منظمة أو جريمة عفوية إنها البطالة، والاضطهاد في مجتمع ادعى أنه يرحب بالغرباء.. من أبناء الديانة اليهودية.

هل يختلف الأمر كثيرا إذا انتقلنا من دائرة الاجتماع إلى دائرة السياسة؟.. لا أظن. خمسون عاما، والدولة لم تستقر.. الحدود مجهولة. قضية الوجود والعلاقات الطبيعية مع الجيران مختلف عليها.. الوعد الذي قطعه الساسة بسلام يظل المجتمع يختلط بالحديث عن الحرب، ويكتنفه الغموض وعدم اليقين.. وبينما تتخذ الدولة الإسرائيلية قرار المصالحة والوجود "عربيا"، وهو المجال الحيوي لإسرائيل، فإن المجتمع ينقسم حول ما تصور البعض أنه تنازلات عن أرض جرى اكتسابها بالقوة وثمن بشري كبير.

أيضا، وبينما يأتي حلم الأمن مدججا بالسلاح، محاطا بكلمات سياسية معسولة فإن الواقع يقول إن الخطر قائم، وإن عمليات الفداء الفلسطينية؟ وبقايا الانتفاضة يمكن أن تستمر.

حتى الساسة لا يريدون، أو لا يستطيعون، أن يحددوا الهدف النهائي.. أين تقف الحدود؟.. أين تنتهي قضية المياه..؟ وما الصياغة النهائية لعلاقة الشراكة الفلسطينية - الإسرائيلية.. هل هي الاندماج، أو الانفصال،.. هل هي الدولة الفلسطينية.. أو الإقليم التابع؟.. هل هو التكتل السكاني القابل للنمو.. أو هو مجتمع الأقلية، المجرد من كل أسباب القوة، والذي تجرى أقلمة أظافره بصفة دائمة بحيث لا يبقى لديه من صفات الشعب غير التاريخ.. وامتلاك قوة عاملة، يستأجرها الإسرائيليون؟ لقد أبحرت سفينة التسويات، لكن أحدا لا يعرف على أي شاطئ ترسو، وبأي صخرة تصطدم.

و.. نعود للسؤال: أي أمن اجتماعي أو سياسي أو فردي يتمتع به قاطن هذه الأرض؟

سمة المحتل القلق ما زالت سائدة.. والدفاع عن الوجود بحاجة للسلاح.. وانتزاع الحق أو الفرصة على المستوى الفردي قد يكون من خلال الجريمة.. والتعبير عن الضياع والقلق قد يتخذ نفس المسار: سرقات- جرائم اغتصاب- جرائم اعتداء عل النفس.. و.. قتل الزوجات أيضاً!

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات