المتنبي مرة أخرى: أنام ملء جفوني عن شواردها

المتنبي مرة أخرى: أنام ملء جفوني عن شواردها

لا أستطيع أن أضيف جديداً حين أتحدث عما يتمتع به أبوالطيب المتنبي من منزلة رفيعة في نفوس أبناء العربية بمن فيهم الشعراء والأدباء والنقاد, ولابد مع هذا كله أن يوجد من يستثقل ظل المتنبي فلا يقرأ شعره, وربما ألفت قصص, تصور ما أشرنا إليه, فيقال إن أحد الذين يكرهون هذا الشاعر العظيم أصابه ضيق لكثرة ما يسمع من استشهاد الناس بشعر المتنبي, فآل على نفسه ألا يسكن مدينة يذكر بها أبو الطيب وينشد كلامه, فهاجر من مدينة السلام, وكان كلما وصل بلدا يسمع بها ذكره يرحل عنها, حتى وصل إلى أقصى بلاد الترك, فسأل أهلها عن أبي الطيب فلم يعرفوه, فتوطنها, فلما كان يوم الجمعة ذهب إلى صلاته بالجامع, فسمع الخطيب ينشد بعد ماذكر أسماء الله الحسنى:

أسامياً لم تزده معرفة

وإنما لذةً ذكرناها

فعاد إلى دار السلام, وهذا بيت من قصيدة مدح فيها عضد الدولة, على أن قارىء هذه القصيدة, يحتاج إلى روية وهو يقرأها.

وهذا دليل على أن شهرة المتنبي بلغت الغاية, إلى جانب أن الملوك والرؤساء كانوا يحلمون بمجيء المتنبي إليهم وإنشاده شعراً في حقهم, لأن كل بيت يقوله المتنبي ترويه الخاصة والعامة, وهذا مطمع للأمراء والرؤساء والملوك.ولقد قيل في المتنبي إنه ملأ الدنيا وشغل الناس, وتقتضي هذه المنزلة الرفيعة من صاحبها أن يبتعد عن الإسفاف في قول أو فعل لأن ذلك لايليق منه, ومن عجب أن صاحبنا أبا الطيب قد أوحى إليه اعتداده بنفسه أنه بطل لايجسر أحد أن يتعدى عليه, لقد هجا ضبه بن يزيد العتيبي بقصيدة كلها إسفاف لايليق بأقل الناس منزلة, فنراه يستهل هجاءه بقوله:

ما أنصف القوم ضبه

وأمه الطرطبة

وقد بلغ من إسفافها أن الأدباء والنقاد في عصر المتنبي وماتلاه من العصور, قالوا عن هذه القصيدة إنها من أسخف الشعر, ولايخطىء من يقول إنها كانت سببا في قتله. صحيح أن شاعر العربية قد أوغر صدور كثير من الرؤساء والأمراء في عصره, بما نظمه من هجاء يذهب بغضب الحليم, فأنت حين تقرأ هجاءه لكافور لاتستبعد أن يبذل هذا الأمير كل مافي وسعه من قوة معنوية ومادية, لينتقم من هذا الشاعر الذي جعله أضحوكة العصور, ويكفي أن تقرأ قوله في هجاء كافور

يعد إذا عد العجائب أولا

كما يبتدي في العد بالأصبع الصغرى

فيا هرم الدنيا ويا عبرة الورى

ويا أيها المخصى من أمك البظرا

ولله آيات وليست كهذه

أظنك ياكافور آيته الكبرى

وقد اخترت من هجائه لكافور أخفه وألطفه, لأني أستثقل الهجاء المقذع, ونحن نعلم جميعا أن الهجاء قد أودى بحياة كثير من قائليه, فقد قتل بشار بن برد, ويزيد بن المفرغ الحميري, وشرد دعبل بن علي الخزاعي وغيرهم كثيرين.

حياة خطرة

والحق أننا حين نرجع إلى مسيرة حياة المتنبي نجد هذا الشاعر قد عاش حياة تكتنفها الأخطار, كل هذا لأنه يرى أنه أصلح الناس للإمارة وأنه ممنوع من حقه, ويبدو أن فهم الإنسان لبعض الأمور لايقف أمام مطامعه وطموحه, فمن يصل فكره إلى ماتشتمل عليه تعزيته لسيف الدولة في وفاة غلامه, يفترض ألا يرهق نفسه أو يرهقه حب الإمارة والكلف بها, يقول أبو الطيب :

وقد فارق الناس الأحبة قبلنا

وأعيا دواء الموت كل طبيب

سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلنا

منعنا بها من جيئة وذهوبِ

أعني أن الحياة في هذه الدنيا قصيرة ضعيفة, لا يدري الإنسان متى يرحل عنها وقد يأتيه الأمر بالرحيل مفاجأة وإذا به خبر من الأخبار, وهذا لا يعني بأن تخلو نفس الإنسان من الأمل, ولكن الذي أعنيه أن يكون سعي الإنسان لتحقيق آماله بالطرق الهادئة, وربما يوصل التأني والهدوء صاحبه إلى الآمال التي تملأ نفسه, بصورة أسرع من الوسائل العنيفة.

لكنني أظن أن الإنسان لا يستطيع أن يوجه مسيرة حياته إلى حيث يدعو العقل والمنطق, وإنما يجد بعض الناس نفسه مندفعة كالريح العاصف لتحقيق ما يجيش في نفسه من أمل, لا يستطيع أن يوقف ذلك الاندفاع, بدليل أنك تجد الطامح يتعرض لكثير من الأذى والإرهاق, ولكنه لا يلبث أن يعود إلى ما كان عليه من اندفاع أعمى, والمتعقلون يبدون إعجابهم من هذا التحمس المرهق, يقول أبوالعلاء المعري.

تعب هذه الحياة فما أعـ

جبُ إلا من راغب في ازديادِ

ومهما يكن من أمر فإن حياة هذا الشاعر الفيلسوف حياة يملؤها القلق والاضطراب, وحجتي في ذلك قوله:

أذم إلى هذا الزمان أهيله

فأعلمهم فدم واحزمهم وغدُ

وأكرمهم كلب وأبصرهم عمٍ

وأسعدهم فهد وأشجعهم قردُ

فالإنسان الذي يرى أن أهل زمانه على هذه الصورة البشعة, التي تتكون عناصرها من أن لاخير في هؤلاء الذين يحيا معهم, لأن عالمهم جاهل عاجز عن التعبير عن نفسه. وأصحاب الأمر بعيدون عن العقل والمنطق, ولايوجد فيهم شجاع حقيقي, وليس من شك أن وصف المتنبي لأهل زمانه وصف غير صحيح, بل وإني لأعجب من أبي الطيب, كيف ينظم هذه الأوصاف في قصيدة يتلوها في مجالس أحد الأمراء وهو يعرف أن شعره تسير به الركبان بحيث يصبح أمثلة على ألسنة الناس, ألا يدرك (أبو المحسد) أن مثل هذه الأقوال تخلق في قلوب الكثيرين أشد الكره له, فإن فكرته عن أهل زمانه قد صاغها صيغة عامة تجعل كل من يقرأها يشعر بأنه المعني بما قال, ولكنه الاندفاع حين يتحكم في الإنسان, يجعله بعيدا عن التفكر في العواقب, بل بعيدا عن التفكير الصحيح, فلو وجه سؤال إلى أبي الطيب يقول: أصحيح أن أهل زمانك على هذه الصورة, فماذا عسى أن يكون جوابه?

وقلقه أيضا

وبعد, فليس يبعد عن الصواب من يقول إن كل من يرى نفسه بأنها أعظم الناس جميعاً, فإنه لابد وأن تكون حياته مملوءة بالقلق, لأنه معرض لهجوم الناس عليه.

ولكن شاعرنا مع هذا الكبرياء الشديد والاعتداد بنفسه كان مقدرا أعظم التقدير في نفوس الناس جميعا, بمن فيهم الأدباء والعلماء, كما أشرنا إلى ذلك قبل حين, فما من أحد من الناس إلا ويتمثل ببعض ماجاء في شعر هذا الشاعر الموهوب من حكم, فمن منا لايتمثل بقوله:

ماكل مايتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لاتشتهي السفنُ

أو قوله:

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلامُُ

أو قوله:

ومن يك ذا فم مر مريضٍ

يجد مرا به الماء الزلالاُُ

إلى غير ذلك من حكم كثيرة مبثوثة في ديوانه وهي مستمدة من واقع الحياة, ولابد أن يكون صاحب هذه النظرات الثاقبة مقدرا في النفوس كل التقدير, أما الكمال فإنه لله وحده.

وبعد, فإن الذي نستخلصه مما استقيناه من سيرة هذا الفيلسوف والشاعر العظيم, أن الانجذاب إلى الجلوس على كرسي الحكم يفعل بنفوس الفلاسفة والشعراء أمثال المتنبي كل هذا الفعل الغريب, فكيف بهذا الانجذاب للحكم إذا صادف نفسا لاتعرف أن صاحبها أعظم العظماء, وأنها تساوي كل الناس, بل إنها أعظم من كل الناس, إذن لاعجب إذا انتهك في سبيل رغبته في الحكم كل الحرمات بحيث لايوجد صديق ولاقريب مهما بلغت ملكاته من القوة, إلا وهو دون نفسه التي لايعادلها أحد.يقول الذي يعبد الحكم إلى هذه الدرجة من الهوس: ليمض الجميع إلى الجحيم وأبق أنا وحدي أفعل ما أشاء, لا راد لحكمي, ولامانع لقولي, هذا ما نشاهده في زماننا وغير زماننا, وهذه من أعظم مصائب الإنسان.

 

عبدالرازق البصير