الشرق في عيون غربية ثروت عكاشة

التصوير الإشراقي
في العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر

أصاب الشرق فناني الغرب بلفحة من الدف. وقبس من الشمس أضاءت ألوانهم. لقد رحلوا بحثا عن كل غريب ومألوف. ولكن جزءًا من البهاء الشرقي انتقل إلى صميم أعماقهم.

ليس الاستشراق إلا مرحلة من مراحل نزوع الأوربيين إلى البلاغ الغريبة عليهم، أو ما أطلق عليه أسم "الإكزوتية" ، وكان هذا النزوع قائما منذ عهد الرومان الذين جلبوا إلى بلادهم- مع عقيدة إيزيس المصرية وعقيدة مترا الفارسية- الطرز الزخرفية المصرية والفارسية. وبدأت مرحلة الاستشراق من اللحظة التي شرع الفنانون الأوربيون فيها رسم شخوصهم معمّمين متمنطقين بالأحزمة. وكان سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين عام 1453 إيذانا يتسرّب المظاهر الشرقية إلى أعماق أوربا، فما لبثت أزياء الغزاة الأتراك بقفاطينهم وعمائمهم المرصّعة بالجواهر وسيوفهم المقوسة أن شقت طريقها إلى لوحات الفنانين. وكان محطّ هذا الاستشراق الفني مدينة البندقية حيث يستقبل أمراؤها في ثيابهم الدمقسية السفراء الأتراك المعممّين مصحوبين بالجنود الإنكشارية المدجّجين بالأسلحة العجيبة. وما لبث المصوّر البندقي جنتيلي بلبليني أن قصد القسطنطينية ليرسم "بورتريه" السلطان محمد الفاتح، ولسنا ندري - بعد - كيف قدر له أن يرسم بورتريه السلطان قايتباي، ثم السلطان الغوري، ولوحة "استقبال سفير البندقية في القاهرة" التي نسبها البعض إليه، كما قد حفلت طبعات كتاب " رحلات ماركوبولو" الفينسية بصور شرقية أكثرها مستوحى من تركيا.

"ألف ليلة" وتأثيرها

وقد اعتاد المصورون الأوربيون في مبدأ الأمر اقتباس تفاصيل لوحاتهم الاستشراقية من مجموعة الصور المطبوعة بطريقة الحفر المعروفة باسم " العادات والأزياء التركية" لملكيور لورك التي نشرت في نهاية القرن السادس عشر، على أن الحروب كانت أكثر إشاعة لشهرة الأتراك في أوربا من الصلات الدبلوماسية، وخاصة بعد أن توقف زحفهم غربا في أعقاب هزيمتهم في معركة ليبانتو البحرية 1571 وفك الحصار عن فيينا 1683، فانبرى الفنانون الأوربيون يخلّدون هاتين الوقعتين في تصاويرهم، ويسجّلون الأتراك بمظهر الغزاة غلاظ القلوب. ومضى الكتاب يستمدون إلهاماتهم من الحكايات الشرقية مستعيرين عناصرها من الجان والعفاريت والسحرة والأمراء والسلاطين والجواري والقيان. وترجم أنطوان جالان "ألف ليلة وليلة" (1704- 1708)، واقتبس لافونتين الأساطير الهندية ببراعة، وتراسل الملوك الأوربيون مع السلاطين الشرقيين وأوفدوا بينهم البعثات. وما لبث الشرق أن بادل الغرب الودّ، فاحتشدت قصور إصفهان بالزخارف الأوربية، وتتابعت الشخوص التركية في مسرحيات قصر فرساي، وأترعت الباليهات في بلاط الأمراء الإيطاليين بالرقصات التركية الطابع التي صمم أزياءها فنانون عاشوا في مصر والشرق. وقد اظهر الإنجليز اهتماما مبكّرا بالأزياء الشرقية منذ رسم الفنان الفلمنكي الأصل فان دايك شخوص لوحاته عام 1609 بالثياب الفارسية والعمائم الضخمة. وفي بلجيكا رسم روبنز شخوص لوحة "المجوس" يقدمون الهدايا للمسيح الطفل في صورة باشوات الشرق، غير أن رمبرانت كان الرائد الأول للصور الاستشراقية التي كان موضوعها ذريعة لتصوير الأثاث الشرقي الباذخ والعمارة غير المألوفة، متخترا نماذجه التي احتذاها لتصوير قصص أنبياء العهد القديم من اليهود الذين أضفى عليهم العباءات والعمائم والقلادات والجواهر، هذا إلى ما في مناظره من محتويات استعارها من المعابد اليهودية، فضلا عن محاكاته لما كان يقتنيه من أسلحة تركية وأقمشة فارسية ومنمنمات إسلامية مغولية من الهند. لقد كان رمبرانت يتصف وحده دون سائر المصورين المستشرقين بميزة تعزّ عليهم جميعا، وهي الإحساس الدفين بتوقير الشرق وإجلاله. ولقد مهدت أسباب سياسية واقتصادية لأوربا أن تقع على التصاوير المغولية بالهند، وإذا هي تنال إعجابها. وكان رمبرانت أول من أعجب بهذا الفن، و إذا هو يقتني بعض تلك المنمنمات، ثم أخذ ينقلها بيده ما بين عامي 1654 و 1656، وتحتفظ المتاحف الآن بعشرين منها، هذا إلى أنه ضمّن بعض عناصرها لوحاته بعد أن مزجها بأسلوبه. وما نسخه رمبرانت غير عجالات أضاف إليها من عنده تقنة الإشراق والعتمة "كياروسكورو" التي أثرت عنه والتي خلت منها الأصول المغولية، فإذا الشخصيات فيها وكأنها في أصولها.

ومع مطلع القرن الثامن عشر احتلت الطرز التركية مكانة زخرفية بارزة في العديد من اللوحات الفنية، وتخصص فنانو البندقية في رسم مشاهد الحياة اليومية والمناظر الطبيعية في القسطنطينية، كما استأجر الإنجليز في الهند الفنانين لتصويرهم بين ممتلكاتهم وعبيدهم في إمبراطوريتهم النائية. ونهاية القرن الثامن عشر لقيت صور المناظر الطبيعية والأطلال العتيقة المرسومة وفق الأسلوب الرومانسي إقبالا لا يبارى، وتعددت في فرنسا وإنجلترا كتب الرحلات المصورة تضم صورا مطبوعة بطريقة الحفر على الحجر أو المعدن للعمائر الشرقية، وفقا للرسوم التي حملها معهم الفنانون من رحلاتهم، وللأزياء الشرقية وفقا للمنمنمات الإسلامية التي توافرت بين أيديهم، وللأطلال التي تفيض خيالا وإلى جانبها شخوص شرقية. وكان هذا التباين الذي جمع بين القديم والحديث مما يلفت النظر ويثير الفضول والإعجاب، فإلى واجهة المعبد الكلاسيكي قد يقف جندي إنكشاري متكئا عليها وهو يدخّن نرجيلته، وإلى الوسط من البهو الفرعوني قد يبدو فلاح معاصر وبين يديه أغنامه يرعاها. وقد لجأ أكثر المصورين المستشرقين من مصوري القرن التاسع عشر ممن لم يغادروا أوطانهم، وكانوا يسمّون "مصوّري المقاعد الوثيرة"، إلى مثل هذه الصور المطبوعة بطريقة الحفر، يقتبسون منها ما تضم من مناظر غريبة وأشكال للمباني وأزياء للأهالي ووضعات للشخوص، وهو ما يتمثل فيما فعل الفنان الفرنسي آنجر في لوحته الشهيرة "الحمام التركي". وفي فرنسا كانت "مدرسة التصوير الكلاسيكية المحدثة" المولعة بتمجيد البطولات تعد الشرق ساحة فنية وقفاً على الفنانين المزخرفين وحدهم ينهلون منها إلى أن كانت الحملة الفرنسية على مصر، فإذا أبوالهول يغدو كما غدت إيزيس والمسلات من العناصر الأساسية للفن الجمالي بعد أن أضافت انتصارات نابليون إلى هذه الأوابد معاني خاصة. وبعد أن عاد الفرنسيون إلى أوطانهم لم ينسوا غرامهم بالقاهرة التي شاهدوا فيها بدائع أشبه ما تكون ببدائع "ألف ليلة وليلة"، وعاشوا أسرى تلك الذكريات التي جمعت بين التّلادة والمتعة وبين الحقيقة والخيال، فلقد كان من صحبوا نابليون يرون في حملته إلى مصر صورة تحكي ما فعله الإسكندر، من قبل وتخلّده خلود الإسكندر فنشر فيفان دينون كتابه النفيس المزود بأطلس صوره المطبوعة بطريقة الحفر، كما ظهر كتاب "وصف مصر" بلوحاته الفريدة عن آثار مصر الفرعونية والإسلامية، وما لبث أنطوان جان جرو أن استعان بهذه المادة الغزيرة لتصوير معركة أبي قير (1806) التي وفق فيها إلى التبشير بالرومانسية في إطار تكوين فني كلاسيكي محدث، حيث نشهد مختلف عناصر التصوير الاستشراقي من رايات خفاقة وأزياء مختلفة الألوان في بذخ وإسراف وغلمان يافعين وزنوج عراة وجياد منقضة ومحاربين أشدّاء وجرحى غير مستسلمين يتهيأون لضرب خصومهم الضربة الأخيرة قبل أن يفارقوا الحياة. وكما تنضح اللوحة بما يخالطها من دماء، تبدو فيها أيضا وسامة الغلام التي ترهص بصور الأميرات والراقصات والعوالم والغوازي، كما يرهص المملوك بصور جنود الباشبوزق والأرناءوط والإنكشارية فيما سيأتي من صور شرقية. ثم ما يلبث أن يطالعنا آن لوي جيروديه بعد ثلاث سنوات بالشخوص نفسها وبالأزياء ذاتها في لوحته "ثورة القاهرة" وقد اصطلح مؤرخو الفن على أن يعدوا هذين التكوينين الفنيين بداية التصوير الاستشراقي الفرنسي.

على أن إسهام الألمان والإيطاليين في مجال الموضوعات الشرقية المصوّرة اقتصر- إلا في القليل- على مناظر الأوبرا، إذ لم يجتذب هذا اللون من التصوير الوجدان الجرماني الذي قامت الرومانسية فيه على أساطيرهم القومية، فقد عرف الألمان الشرق بما كان يكتب لا بما كان يصوّر، وأسهموا في الجهود الاستشراقية عن طريق الفلسفة والأدب أكثر مما كان عن طريق الفن.

شاتوبريان ورحلته الشرقية

وقد أسفر نجاح كتاب رحلة شاتوبريان إلى الشرق في فرنسا، وذيوع قصائد بايرون في إنجلترا إلى ازدياد عدد اللوحات المصورة ذات الموضوعات الشرقية المعروضة في "صالون باريس" وفي الأكاديمية الملكية، بلندن، وكما كان التصوير الاستشراقي لونا من ألوان الرومانسية كذلك كان أسلوبا جديدا لتسجيل التاريخ مصوّرا، فقد اكتشف المصورون نبعا ثرّا للوحاتهم في الأحداث التاريخية التي وقعت بين عامي 1820 و 1830، إذ حرّك استقلال مصر وتحرّر اليونان واحتلال فرنسا للجزائر اهتمام أوربا بمنطقة الشرق الأوسط. هذا إلى أن الترحال خلال الجيلين التاليين قد أصبح أكثر يسرا وسرعة من ذي قبل. ولما كانت المدن الأوربية الصناعية تظللها غشاوة قاتمة تبعث على الكآبة، فقد غدت كل لوحة تحفل بضوء الشمس انتصارا على تلك الكآبة. ولم تكن مثل هذه الصور تذكّر الأوربيين بعالم آخر مختلف عن عالمهم وبمشاهد مثيرة للخيال وممتعة للعين وبمواقف بطولية فحسب، بل كانت تلوّح لهم؟ أيضا بتلك المتع التي لا تتيحها أوطانهم، وتدغدغ فيهم رغبة قوية في الإحساس بالكبرياء والتعالي- ولهذا كله تجاوز التصوير الاستشراقي فترة الثلاثين سنة التي استغرقها التصوير الرومانسي، مضفياً لوناً مبتكرا نابضا على الأسلوب الأكاديمي الذي ظل متربعا على عرش صالون باريس حتى نهاية القرن. وتعد الفترة فيما بين عامي 1840، 1880 العهد الذهبي للفن الاستشراقي، وما من مصور شهير وقتذاك لم يكن مستشرقا يوما ما: ديلاكروا وجيرم في فرنسا، وماكارت في النمسا، وبريولوف في روسيا وهولمان هنت في إنجلترا، وفورتوني في إسبانيا، وكافي وكورودي في إيطاليا. لكن ما كاد عام 1880 يظل مع بزوغ أساليب الانطباعيين والرمزيين الحديثة في مواجهة الأسلوب الأكاديمي ومع تطور وسائل الانتقال بين أوربا وآسيا حتى أخذت هيمنة السطوة الاستشراقية في الاضمحلال.

ولم يتجاوز أكثر المصورين الأوربيين في ترحالهم منطقة الشرق الأدنى المطلة على البحر المتوسط، فقد كان مصدر إلهامهم إسلاميا في أغلبه، كما كان عالمهم الخيالي مستمدا من ألف ليلة وليلة، وأشعارهم المترجمة فارسية، غير أن افتتانهم بما يثير الخيال وينعش الغريزة الفنية انحصر في القاهرة واستنبول، فالترحال في فارس كان شاقا، واختراق الجزيرة العربية كان شبه مستحيل، على حين كان الشمال الإفريقي لا يضم إلا بضعة أطلال هنا وهناك. وفي هذا الشرق الإسلامي كانت لمصر المكانة الأولى تليها تركيا وولاياتها في سوريا ولبنان وفلسطين، حيث الأراضي المقدسة التي تكاثر حجيجها من الإنجليز خاصة، على حين غدت الجزائر مرتعا للمصورين الفرنسيين الذين عنوا أولا بمشاهد البطولة ثم ما لبثوا أن أغرموا بالمشاهد الماجنة الفاحشة.

سحر المغرب العربي

ونشير هنا إلى ثلاثة من المصورين الفرنسيين أولهم عبقري وثانيهم ممتاز وثالثهم جيد تبوأوا مكان الصدارة في الاستشراق الفرنسي حين غدا التصوير الاستشراقي لا يقل عن التصوير التاريخي شأنا فيما بين عامي 1825 و 1875. أول هؤلاء المصورين هو أوجين ديلاكروا الذي كان السباق إلى اكتشاف تلك الألوان الصارخة التي دأب على السعي وراءها في "مراكش" يستمد منها مبعث إلهامه. وثانيهم هو تيودور شاسيريو الذي وجد في "الجزائر" الشرق الذي واءم طبيعته ومزاجه. وثالثهم هو أوجين فرومنتان شريكه في هذا الإعجاب. وكانت مراكش في نظر الأوربيين خلال القرن التاسع عشر لا تعدو ميناء "طنجه" ونصف سكانها آنذاك من اليهود، حين كانت تابعة للبرتغال اسما ومحكومة بالنفوذ البريطاني فعلا لقربها من جبل طارق. ولم يجرؤ أحد من الأوربيين على ولوج تلك البلاد التي كانت تمور بالحروب القبلية غالبا، والتي لم يرحب أهلها بدخول مسيحي إليها إلا إذا صاحب أحد السفراء، كما فعل الفنان ديلاكروا حين دخل البلاد، وما إن وقع بصره على شرفات بيوت طنجة الناصعة البياض حتى استخرج من حقيبته كراسة الرسم وعلبة ألوانه المائية. وما من أحد زار مراكش إلا وقد تأثر بما تأثر به ديلاكروا وسجله و عجالاته التخطيطية، مثل أسواق مدينة فاس، وحفل مولد النبي بمدينة مراكش حيث يهبط الفرسان من جبال الأطلس متلفعين في عباءاتهم الصوفية البيضاء. والثابت أن ديلاكروا قد انبهر انبهارا شديدا باعتزاز أهل مراكش بأنفسهم وبعضلاتهم المفتولة وبفحولتهم العارمة، وكان يراقبهم حتى وهم داخل حماماتهم حيث يعكف العبيد السود على تدليك أجسادهم البرونزية وهم مستلقون تحت البوائك. غير أنه كان من العسير عليه تتّبع النساء المسلمات على حين كان من اليسير أن يتابع النساء اليهوديات إذ كن أسخى بعرض أنفسهن.

ومن عجب أن ترجمان القنصل الفرنسي- وكان مسلما- كان يفعل فعل اليهود ويسايرهم فيبيح لديلاكروا وغيره من الزائرين الأوربيين الجلوس إلى نساء أسرته، فرسمهن ديلاكروا بدينات وسيمات، لباسهن الحرير وحليّهن الوفير من الذهب، إما جالسات على "الديوان" كصف من الدّمى، وإما واقفات يثرثرن حول النافورة. وحين دعي ديلاكروا إلى حفل عرس أقيم في صحن دار واحد من الأثرياء، إذا هو يجد خليطا من العرب واليهود التف بعضهم حول الراقصات وازدحم البعض الآخر حول أطباق الكسكسي بينما ارتدت العروس ثوبا مغشّى بالترتر البرّاق وعيناها مطبقتان وكأنها في غيبوبة عما يدور حولها، وهو ما سجلّه ديلاكروا تسجيلا رائعا في لوحاته. ومراكش دون سائر بلاد المغرب هي التي لم تقع تحت نير الحكم التركي الغاشم، لذا أحس الرحالة بما عليه أهل هذه البلاد من أصالة في الطباع والأخلاق وبما عليه عمارتها من بساطة في جلال. والكثرة من المستشرقين الذين وفدوا على مراكش كانت رسومهم فريدة في بابها لاعتدالها، إذ كانوا يؤثرون تسجيل الحياة العامة لا النزوع إلى ما هو أنيق جدير بالتصوير، ومن هنا كانت تصاويرهم للقصبة- أي الحي الوطني- تربي على تصاويرهم للبازار، أي السوق.

وما كاد الجنرال ليوتي يفرغ من إخضاع الجزائر حتى هرع المصورون الفرنسيون إلى طرقات المدن التي كان محظورا عليهم دخولها من قبل. فحتى عام 1830 كان تصوير كل ما هو جزائري من بين التصوير الاستشراقي مقصورا على المشاهد التي تمثل اختطاف القراصنة الجزائريين للراهبات والفتيات لبيعهن للأعيان، غير أن الغزو الفرنسي- الذي بدأه شارل العاشر، ومضى فيه كل من لوي فيليب ونابليون الثالث مع تلك المصاعب التي كانوا يلقونها لما عليه الجزائريون من بسالة وحمية وإصرار- انتهى إلى تغيّر ملحوظ. فبعد أن أنجز مصوّرو المعارك الذين صحبوا الحملة الفرنسية إلى الجزائر تصاوير العمليات الحربية، إذا فنانون فرنسيون آخرون يهرعون إلى ما استولى عليه الجيش الفرنسي من أرض الجزائر ومدنها الساحلية، حيث لم يعد الشرق يبعد غير أيام ثلاثة يقطعها الراحل من أوربا إلى إفريقيا.

وكان الفنان هوراس فرنيه الذي قال فيه الشاعر بودلير إنه "الجندي المستميت في التصوير" مصورا ممتازا له قدرة عجيبة على التكوينات الفنية المتنوعة، وتشهد بهذا لوحته الضخمة "الدوق دومال يأسر قافلة الأمير عبد القادر" بمتحف فرساي إذ يبلغ طولها ثلاثة وعشرين مترا، وقد كتب لها أن تظفر بالإعجاب والتقدير في صالون باريس عام 1845.

وتصور هذه اللوحة الفرنسيين حين بغتوا معسكر الجزائريين بهجوم مفاجى فإذا الاضطراب يسود المعسكر. وكان فرنيه صاحب هذه الصورة من أوائل المأخوذين بقوة هؤلاء العرب الجزائريين الأشداء وسحرهم، واقرأ له ما يعبرّ به عن هذا الإعجاب: "وما إن بغت الأمير عبد القادر هذا الهجوم حتى رمى عن جسده بسترته، وخفّ فامتطى جواده الأبيض المطهّم، فإذا ذراعاه عاريتان إلى الكتفين وقد أمسكتا بسيفين من الذهب البراق، وإذا عيناه تشعّان، ووجهه قد غشته الجروح. ومنذ أن وقع بصري على هذا المشهد لا تزال ذاكرتي تعي "بطلي" هذا. وما إخالني لو كنت امرأة إلا رميت بنفسي في أحضانه. ومن هنا كان لزاما عليّ أن أصوّره غاديا رائحا، ومن الأمام ومن الخلف، ومن فوق، ومن تحت.........".

وكان تقدير الفنان دوزاتس لعظمة الجزائر يفوق تقدير هوراس فرنيه لها، وكان أول من صور مسجد ميناء الجزائر المشهور. وأقبل نفر من المصورين الفرنسيين على تسجيل المشاهد الجديرة بالتصوير قبل أن يطويها مر الزمن وتندثر معالمها. كذلك أخذ المصور شاسيريو بما عليه مباني مدينة الجزائر من بياض ناصع شبّهه ببياض الجص والرخام، كما تراءى له الأفق ورديا احيانا أو أزرق زرقة دون زرقة البحر أحيانا أخرى. وكانت السماء بدورها تبدو له زرقاء متلألئة في خفوت، فعكف على كراسته يسجل رسومه المائية على الرغم من قصر المدة التي قضاها في الجزائر.

وفي الوقت نفسه هبط الجزائر أوجين فرومنتان فأسر بمشاهدها وأخذ يرسل ما يصوّره منها إلى صالون باريس. وكان بهذا في موقع الصدارة للجيل الثاني من المصوّرين الاستشراقيين الذين آثروا تصوير ما هو بسيط صادق على تصوير ما هو أنيق جدير بالتصوير. وكان فرومنتان شديد التعاطف مع من يختاره أنموذجا من العرب، وشاعت لا رسومه كافة مسحة من الشجن، صفته التي تميّزبها في كل تصاويره سواء كانت شخوصا على ظهور الخيل للسباق أو للصيد والطراد، تعلو وجوههم جميعا سمة من الأسى وكأنهم يمّرون بالحياة عابرين. وعلى الرغم من أن موضوعاته كان متواطأ عليها إلا أن تصاويره كانت غاية في المهارة والجاذبية كفيلة بأن تحل مكان ما هو جميل أنيق جدير بالتصوير. غير أن تصاويره للنساء الجزائريات جاءت أكثر عروبة، على غير ما كانت عليه صور النساء الجزائريات التي صوّرها معاصروه.

وما لبث المصورون التأثيريون أن وفدوا إلى الجزائر، ولكن ذلك لم يصل بهم إلى أن يكونوا استشراقيين غير واحد هو رينوار الذي قارب أن يكون استشراقيا بعد أن مكث طويلا بالجزائر عام 1879، ولعل مردّ ذلك إلى إعجابه الشديد بديلاكروا.

ولا يفوتنا هنا أن نذكر وصف الفنان ألبير بسنار للجزائر عام 1894 الذي كان رمزيا إلى كونه استشراقيا حيث يقول: "ما أجمل الجزائر بعد أن تغمر السيول أرضها فتغدو تربتها محمرّة خمرة الدماء على حين يبدو نبتها أزرق وكذا بحرها في زرقة داكنة أشبه ما تكون ببؤبؤ عيني غادة شقراء، وأنى حللت تشهد الطبيعة وقد غمرت كل شيء، وحين يطالعك الفجر يبدو وقد طغى عليه اللون الوردي على حال لا نشهده في بلادنا. وحين يطالعك الغسق يبدو أكثر نزوعا إلى البنفسجية على حال لا نشهد مثلها فى بلادنا. وأما عن جدران المباني فهي تومض بلونها الأبيض من خلال الزرقة المخيفة، وتبدو القباب من خلال أغصان أشجار الزيتون وكأنها صبت من لبن شفاف، وتتراءى لك أوراق الأشجار من بين هذا كله وكأنها نجوم قد علاها الشحوب. وهذا كله يبدو وكأنه تطريز في صفحة السماء، يتراءى أحيانا ملونا في رقة لا تشبهها رقة وكأنها قطعة طويلة من قماش الساتان".

وهذه الصورة هي نفسها التي رآها الفنان موريس دني في تونس، والتي لم تطأها أقدام الفرنسيين إلا في عام 1885، وإن كانت تونس دون الجزائر حجما وجمالا فلم تجذب إليها غير قلة من المصورين الملحوظين منهم كرابليه الذي خلّف لنا بعض الصور والرسوم المائية لمدينة تونس الخضراء: أحد المعالم الكبرى في دنيا العرب والإسلام.

جزيرة العرب في عيونهم

ومن بين المستكشفين الأول لسوريا والجزيرة العربية- وما ألجأنا إلى استخدام كلمة مستكشفين إلا أن الإمبراطورية العثمانية لم تكن قد أعدّت لولايتها خرائط كان لابد منها، لذا كان التجوال في هذين القطرين دون التزام بطرق القوافل الرئيسية فيه من المخاطر ما فيه- كان من بين هؤلاء الأستاذ جون لويس بوركارت (1784- 1817) السويسري الذي كان يعمل في خدمة الحكومة البريطانية، وكذا روبرت كيرزون الذي قصد جبل سيناء لشراء بعض المخطوطات للمتحف البريطاني. ثم ما لبث الرسّامون والأركيولوجيون أن قصدوا مدينة تدمر "بالميرا" إذ كان من العسير على الأجنبي الولوج إلى سائر سوريا إلا إذا تنكر في زيّ عربيّ. وكان مما يثير الانتباه ويدعو إلى الدهشة سيرة سيدة إنجليزية تدعى ليدي هستر لوسي ستانهوب (1776- 1839)، ابنة لورد ستانهوب وابنة أخت وليام بيت رئيس وزراء بريطانيا التي ظلت تشرف على إدارة مسكنه حتى وفاته. وكان قد ترك لها معاشا يهيىء لها حياة رغدة رخيّة، لكنها بعد أن ضاقت ذرعا بتقاليد المجتمع الإنجليزي وعاداته خلّفت إنجلترا عام 1810 ولم تعد إليها قط. وبعد تجوال طويل في أنحاء الشرق الأدنى حقت في مدينة تدمر (بالميرا) التاريخية بصحراء الشام، وخالت نفسها زنوبيا ملكة هذا البلد في الزمن السالف كما ذاع صيتها بأنها متنبّية عرّافة، ومضت تنفق عن سعة وسخاء أهوج وهي تستقبل الرحّالة والفنانين والدبلوماسيين الأوربيين. حتى أتت على كل ما تملك، وتراكمت ديونها فإذا هي بعه فقيرة معدمة، وإذا الموت يواتيها في قرية من قرى لبنان وهي على هذه الحال. و من الرحّالة الذين قصدوا سوريا غير تلك السيدة إدوارد وليم لين (1801-1876) وكان مؤرخا رساما خفف تصاوير لها قيمتها، هذا إلى أنه شرع في ترجمة كتاب "ألف ليلة وليلة" غير أنه لم يمض في هذه الترجمة إلى نهايتها. وثمة رحالة ومستشرق آخر كان به ميل إلى الشغب والخروج على المألوف هو سير ريتشارد بيرتون (1821- 1890)، من ذلك أنه حين أخذ يترجم كتاب " ألف ليلة وليلة " لم يتورع من أن يذكر ما فيه من فحش دون أن يمسه بحذف او تحوير، بل ضّم إليه ما يزيد من فحشه، كما أنه زيّف أشعارا عربية ونسبها لشاعر من صنع خياله. ومن بين أشهر كتبه التي تنيف على الخمسين كتابه الشهير "الحج إلى المدينة ومكة" 1855 الذي ألّفه ب عد أن تنكّر في زي أحد الهنود الباثان المسلمين حتى يتجاوز محدثّوه عن هفوات نطقه بالعربية وبعد أن ألم إلماما تاما بالعادات والشعائر الإسلامية، فزار مكة المكرمة والمدينة المنورة دون أن يكشف أمره، ثم إذا هو بعد قنصل لبريطانيا في دمشق، وقدر له أن يمضي شطرا كبيرا من حياته في الشرق.

ولم تكن دمشق وقتذاك ترحّب ترحيبا كبيرا بالأجانب، لذا لم يتلبّث المصورون بها طويلا. غير أن الحال في أزمير التي لم تبعد كثيرا عنها كانت على غير هذا فاتسع صدرها لتلقي الرحالة الأجانب، ولا غرو، فما يربو على نصف سكانها كانوا خلال القرن التاسع عشر من اليهود واليونانيين. وكم جذبت أطلال تدمر وبعلبك إليهما رسّامي الألوان المائية الإنجليز، وكان على رأسهم وليام بارتليت الذي أنجز مئات المناظر عن الآثار والمعالم في كل من سوريا ولبنان، وكان يحذو في رسومه حذو الفنان التأثيري تيريز. ومع أن رسومه كانت تميل إلى التنميق أكثر من التزامها الحقيقة إلا أنها من غير نزاع كانت جديرة بالتصوير، لهذا لم يكن غريبا أن يحظى بلقب "فنان الذكريات"، فلقد كان له الفضل في أن يسجل المشاهد كما كانت تراها عينا ليدى هستر ستانهوب. أما عن أراضي فلسطين المقدسة وبخاصة القدس فحدّث ولا حرج عمّن ارتادوها من الرحالة والفنانين ليقعوا على ما جاء في الكتاب المقدس من ذكر للمعالم الدينية، وفي مقدمة هؤلاء الفنانين دافيد روبرتس.

تركيا والتجربة الأوربية

ومما لا شك فيه أن ما جاء على ألسنة الرحاّلة في وصف بلاد الشرق التي رحلوا إليها يختلف من بلد لآخر، فما جاء على ألسنتهم أو فرشاتهم في وصف الشمال الإفريقي ومصر وبلاد الشام يختلف كثيرا عن وصفهم لتركيا. ذلك أن الأتراك في مدينة استنبول قد أخذوا يحاكون النمط الأوربي فجاءت قصورهم وفق طراز الروكوكو الأوربي، وإذا المدينة تستحيل على حد قول لورد بايرون خليطاً من الطراز الغربي والطراز الشرقي، وأصبح كل قصر من القصور التي تطل على البوسفور يبدو وكأنه لافتة من لافتات المتاجر المطلية حديثا أو منظر من أحد مناظر الأوبرا، الأمر الذي يقع له المشاهد في بلبلة، أفي الشرق هو أم في الغرب؟ وبذا غدت استنبول دون بلاد البحر المتوسط أجمع وكأنها مسرح يجمع أشتاتا من هنا ومن هناك.

وهكذا لم يعد الزائر لاستنبول يرى بين يديه مدينة شرقية مثل فاس أو القاهرة أو القدس، بل مدينة جامعة لألوان شتى. وما نلبث أن نرى شاتوبريان يصف استنبول في كتابه "رحلة من باريس إلى أورشليم" وصفا فيه إجحاف وحيف فيقول: "المقابر لا أسوار تحيط بها، وقد تراها أنّى حللت وفي أي طريق، تظلهّا أشجار الصنوبر الكثيفة حيث يعشش اليمام بين أغصانها فينعم في تلك البقعة بما ينعم به الموتى من سلام فلا يزعجه أحد، وترى في جهات مختلفة من المدينة مباني عتيقة لا تتفق وأسلوب الناس في الحياة من حولها ولا بطراز المباني العصرية إلى جوارها، بل تبدو وكأنها برزت بفعل ساحر. وما من سمة من سمات البهجة تشيع في هذه المدينة حيث لا تجد مخلوقا يبدو سعيدا، بل أنت في استنبول لست بين شعب بل بين قطيع من الغنم يملك "الإمام" مقاده ويتولى جنود الإنكشارية ذبحه، ولا متعة للقوم إلا في المجون، ولا جزاء ينتظرهم غير الموت. وقد تستمع لصوت عود يسري إليك حزينا خافتا من أحد المقاهي. وحول المقاهي ترى صبية على حال من القذارة لا توصف يرقصون رقصة مخزية لا تليق، بل هي بالفتيات أوْلى جالسين في حلقات حول الموائد كالقرود، بينما يقوم قصر السلطان- معقل العبودية- بين الإصلاحيات والسجون".

وعلى حين نرى شاتوبريان يقول ما قال، نرى جيرارده نرفال لا يظلم الأتراك ظلم صاحبه بل ينصفهم ويعشقهم من قبل أن تطأ قدماه أرض تركيا وهو يتأمل مشاهد القرن الثامن عشر المطبوعة بطريقة الحفر لا سيما سلسلة لوحات "النزهة على ضفاف مياه آسيا العذبة، فيقول ضمن ما يقول حللنا بمرج بهيج تنساب من بين أشجاره جداول المياه وقد غطى العشب الأرض والأشجار تظلها بظلها. وهنا وهناك خيام تضم أكشاكا لبيع الفاكهة والأشربة فتبدو هذه المروج وكأنها الواحات يفزع إليها بدو الصحراء. ويموج المرج بأقوام في ثياب مختلفة الألوان تتناسق مع الخضرة وكأنها حديقة يانعة الأزهار. ووسط مكان خال من ذلك المرج تنبثق نافورة على شكل جوسق صيني، وهو لون من البناء يشيع في أنحاء استنبول".

ونعود بعد هذا الاستطراد إلى الفنان هوراس فرنيه الذي كان مع إعجابه بأهل الجزائر يقسو على الأتراك بلسان سليط شأن الأديب شاتوبريان، بل لم ينج العرب بعامة من تهكّمه وبذاءته. نحسّ هذا كله حين يقول: كل شيء حولك خامل يسترخي فيه الذهن استرخاءه بين الحريم فيستكرش، أي يصبح ذا كرش شبيه بكروش الأتراك الخاملين...... أيها العرب الأعزاء، إنكم عندي على ما يسبح في أجسادكم من قمل وبراغيث أفضل ممن يحكمونكم من أتراك يفوح من أردانهم العطر، فهم غير جديرين بحكمكم ".

وفي عام 1856 نشر تيوفيل جوتييه كتابا عن استنبول يكتظ بالصور الاستشراقية جاء فيه: "كان مما يدعو إلى العجب في "البازار" تلك الأرفف التى تحمل أشكالا من الأحذية لا عهد لنا بها. فهذا مركوب اماميّته مدبّبة مرفوعة إلى أعلى مثل "الباجودا" الصينية، و تلك مراكيب مصنوعة إما من الجلد أو من المخمل أو من القماش المقصب أو المبطن أو المطرز أو الذي له شرابات حريرية مما يستحيل على الأوربي أن يلبسه في قدمه. وهنا حذاء له لسانان أو منقاران أشبه شيء بجندول مدينة البندقية، وهناك شباشب أشبه بعلب الجواهر لا صلة لها بالشباشب المألوفة حيث شرائط القصب والفضة تختفي تحتها الألوان الحمراء والصفراء والخضراء...... والحانوت التركي يختلف الاختلاف كله عن الحانوت الأوربي، فهو لا يعدو فجوة في الجدار، بابه مصراعان حديديان. وترى البائع حين يفتح حانوته نهارا يجلس القرفصاء على حصير أو قطعة من بساط أزميرى يدخن الشّبوك أو يحرك بأصابعه حباّت سبحة في يده وهو في غفلة عما يفعل، جامدا في مكانه، لايعي طيلة نهاره ولا يبالي بما يقع تحت بصر. وترى الزبائن قد احتشدوا هنا وهناك يتحسّسون السلع المكدسة أمامهم والتاجر غير مكترث بهم لا يحاول أن يجذبهم إلى الشراء.

وحين حل جيرارده نرفال استنبول وقع على رسّام فرنسي هو كامي روجييه كان صديقا لتيوفيل جوتييه وعاش طويلا باستنبول فكان يصحبه إلى بيوت الخنا التي كان على دراية بها. وقد ترك لنا مشاهد تركية للحريم والبازار. غاية في الإبداع، سرعان ما تحولت إلى صور مطبوعة بطريقة الحفر على الحجر شاعت بين الناس.

ضيوف ثقلاء وآخرون كرماء

وإذا كان الشرق قد استضاف بعض الضيوف الثقلاء أو المتعالين أو المتظرّفين، فإنه قد استضاف أيضا ضيوفا كراما رقيقي المشاعر منصفين، عشقوا الشرق وأهله وأفاضوا عليه من روعة أقلامهم أو فرشاتهم، مأخوذين بما انطوى عليه من سحر خلاب وجاذبية صافية وماض عريق. ومن بين هؤلاء العشاق الأصلاء نذكر الأديب والروائي الفرنسي الشهير بيير لوتي (1850-1923 واسمه الحقيقي جوليان فيو) مؤلف كتاب "موت فيلة " 1907 الذي يحكى فيه بحسرة مريرة عن أطلال المعابد المصرية القديمة بنبرة حزينة كاشفا عن أمجادها الغابرة، ثم ينهي حديثه مستصرخا المصريين أن يهرعوا إلى الحفاظ على تراثهم الخالد كي يبقى نبعا لفن تستلهمه الإنسانية إلى الأبد. غير أن أروع أعماله الروائية قاطبة هو أولها التى نشرها عام 1879 بعنوان "آزياديهAziyade " وشان معظم مؤلفات هذا الأديب الذي بدأ حياته ضابطا بالبحرية الفرنسية ثم تركها ليتفرغ إلى ما يهوى من ترحال ومن تسجيل لخواطره وانطباعاته ومغامراته وغرامياته في شتى أنحاء العالم من تركيا ومصر إلى اليابان وتاهيتي مرورا بفارس، أقول إن معظم هذه الأعمال هي سيرته الذاتية وقد أضفى عليها من رومانسيته المتدفقة الكثير. وتدور هذه السيرة حول ضابط بالبحرية البريطانية التحق بخدمة الباب العالي وإذا سفينته تقرّ في سالونيك باليونان التابعة للإمبراطورية العثمانية وقتذاك. وهناك يلمح من خلال قضبان شباك الحريم الوجه الجميل لمحظية ذات عينين خضراوين هي آزياديه، فكاتت بداية علاقة غرامية ملتهبة، حيث اعتاد العاشقان اللقاء كل ليلة في أحد القوارب وسط غموض الشرق وعطره ومخاطره. وما تلبث دواعي الخدمة أن تنتقل بهذا الضابط إلى استنبول، ثم يصدر له أمر آخر يقتلعه من بين أحضان آزياديه فتموت هي غما، وما يلبث هو الآخر أن يلقى حتفه في شجاعة تحت أسوار مدينة كارس وهو يذود عن وطن معشوقته. ونلمس في هذه الرواية كل الأفكار والموضوعات الأثيرة عند المؤلف، كفكرة الموت وفكرة القضاء والقدر وتباريح الفراق 5 نبل المعاناة في سبيل المعشوق، وقبل هذا كله مشاعر العشق الفطرية البريئة الثرة، والإغراب المتدفق " الإكزوتية " الذي لا ينضب له معين، كل ذلك في قالب رومانسي شديد البساطة دون أن يفقد سحره.

الحريم التركى

وبعد أن ذاعت شهرة لوتي كتب في عام 1906 روايته المشهورة "المحبطات Les Desenchantees" بعد أن ألهمه الشرق الذي عشقه صفحات باهرة تجلت أول ما تجلت في رواية "آزياديه"، ثم في خواطره وانطباعاته عن فارس في كتابه نحو إصفهان Vers Lspahan 1904، ثم في هذه القصة التي تدور حول "الحريم التركي" أشباه الأسيرات وقتذاك، والتي قدم فيها عرضا مستفيضا لمجتمع النساء التركيات، كشف فيه عن المستوى الثقافي الرفيع الذي بلغنه والمعاناة غير الإنسانية التي يكابدنها، وساق فيها كعادته مغامرة غرامية ليست من وحي الخيال كما يدعي، فالبطل "أندريه ليري Lhery" روائي فرنسي كان معروفا في أنحاء العالم بما في ذلك تركيا نفسها، التقى في استنبول بفتيات ثلاث فاتنات مثقفات هن جنان وزينب وملك كن يعشن تحت نير قوانين الحريم الجائرة. ومما أخج من معاناتهن أن ثقافتهن الشاملة كانت تبيح لهن أن يتطفعن إلى حياة إنسانية ترفرف عليها الحرية ويغمرها الحب والحنان. ولا تلبث جنان الثائرة ا!ختطة أن تراسل الروائي الفرنسي الذي احتل منذ زمن طويل مكانة أثيرة في أحلامها ومناها. فما إن يصل إلى استنبول حتى تتحدى الفتيات الثلاث المهالك في سبيل لقائه، فتتعذد اللقاءات السرئة الحافلة بالأشجان بينه وبينهن وتجري المراسلات، فيتأثر ييري إذ يمسسن شغاف قلبه، ويرثي لقدرهن الظالم الذي لآيستطيع حياله شيئا، ولكنه يعدهن بأن يؤلف كتابا يروى فيه مأساة حياتهن التعسة الموحشة وأرواحهن الأسيرة وقلوصهن المعتصرة المحظور عليها أن تنبض، ويبسط فيه كذلك عجزهن عن إتيان أي فعل إيجابي يضلح حتى بعضا من حالهن. وتقع جنان في هوى أندريه الذي ما يكاد يعود إلى باريس حتى يصله نبأ موت حبيبته لوعة على فراقه.

ويلفتنا في هذه الرواية تأثر لوتي الشديد بالمشاهد التركية ومناظرها الطبيعية وشافى البوسفور فيضفي عليها بأسلوبه الفرنسي الشائق شاعرية اسن تدفع القارئ رغما عنه إلى الحنين إلى رؤيتها ومعايشتها: "ليس في تركيا ثمة رهبة من الموت، فلا حجاب يفصل الموتى عن الأحياء.. ففي السويداء من قلب كل مدينة يوارون أجساد موتاهم ويتركونهم مستغرقين في سباتهم. وعلى مدى هذا المشهد الباعث على الانقباض تبدو في الفراغات بين هذه الجبانات باقات مكدسة من أوراق الأشجار الذاكنة تنبثق كالأبراج. وعلى مبعدة تبدو استنبول المهيبة وخليجها بلا ضريب وسط وميض الجمر الخامد في سكون الليل...... ومن تحتنا تبدو مياه القرن الذهبي تطل عليها المقابر المتاخمة حمراء متوهّجة مثل السماء تمخرها مئات من قوارب الكايك غادية رائحة على مدى الزمن بعد إغلاق حوانيت البازار، ولكننا لا نسمع ونحن نطلّ من علٍ صوت انسياب الزوارق ولا نحس جهد المجدفين وكأنهم حشرات مستطيلة في موقع استعراض فوق مرآة.... وتبدو على الشاطى المواجه الدور مجاورة للبحر يغشى طوابقها الدنيا الغمام وكأنها تحاول الفرار من الضباب البنفسجي النابع من بخار الماء والدخان....... استنبول كالسراب دائبة التغير، ومن هنا تبدو تفاصيلها مبهمة وكذا فقرها وبشاعة مبانيها الحديثة.... هي طيف ظلّي بنفسجي اللون تتخلله خيوط ذهبية وكأنه رسم ضخم مقتطع لمدينة تنطلق منها المآذن، والقباب منتصبة كأنها ستار يداري حريق السماء....... تستمع إلى الأصوات الصافية للمؤمنين تسري لحنا فى الفضاء داعية العثمانلية الورعين إلى الصلاة الرابعة عند غروب الشمس".

وعلى الرغم من ضيق لوتي بأسلوب الحريم إلا أنه كان يلتمس لنفسه العذر بأنه أوربي عاجز عن إدراك كنهه، مؤمنا بأن أصدقاءه من كبار المفكرين الأتراك الثاقبي الفكر لابد مهتدون إلى حل وعلاج شاف من هذا الداء الوبيل. كما لا يفوته في مقدمه كتابه أن يشير إلى "رسول الإسلام العظيم" الذي كان قبل كل شيء إنسانا مثاليا سمحا مؤمنا بالخير والمحبة لا يمكن أن يقبل تطبيق مثل هذه القيود الجائرة أمام التطور الذي لا مناص منه.

كذلك اختص المصور جان برنديزي بتسجيل المشاهد التركية الجديرة بالتصوير بدقة تشبه دقة المصور كاناليتو في تصويره لمشاهد البندقية. غير أن سحر استنبول لم يلبث طويلا حتى انطفأ، فكم كانت خيبة أمل الإمبراطورة أوجيني حين حلّت باستنبول فرأت الحال على غيرما صوّره المصوّرون الاستشراقيون، فإذا ثياب نساء السلطان كلها مستحلبة من بيت أزياء ورث الباريسي!

ومن أفضل المصورين الإيطاليين الاستشراقيين ألبرتو بازينى الذي اختص بتصوير المشاهد التركية ولاسيما الخيل، دون ان يلقي بالا لتسجيل المشاهد الجديرة بالتصوير. وجاء في عقب هؤلاء جميعا فنان من الأقاليم الإيطالية بسويسرا قضى مدة طويلة في زيارة استنبول هو هرمان كورودي، ولوحته الضخمة لجسر جالاتا الذي بناه الإنجليز عام 1875 تمثل لنا مدى التنوّع في الأزياء بما لا يكاد يصدقه عقل حتى عام 1880. وما لبث الأتراك أنفسهم أن أخذوا بدورهم في رسم الصور الاستشراقية، وكان للباشوات الأتراك نهم باختطاف أعمالهم التي تكتظ بها الآن سراي ضُلمه باشا باستنبول. وفي هذه الصور كان الفنانون الأتراك يحذون حذو الفنان الفرنسي جيروم على درجات متفاوتة، وكان أشهرهم عثمان حمدي بك الذي تتلمذ على جيروم.

***

الشرق في أشعارهم

على أن الصور الاستشراقية لم تكن كلها نقلا مباشرا لمشاهد الحياة الواقعية في الشرق، فلقد أمدّ الشعراء الأوربيون جمهور قرائهم بصور بديعة عن الشرق استوحوها من مطالعاتهم للأشعار الشرقية أكثر مما استوحوها من تجاربهم الذاتية في أثناء ترحالهم، على حين استلهم أولئك الذين لم تطأ أقدامهم أرض الشرق مادتهم من كتابات الرحّالة العديدة. ومن بين الشعراء الأوربيين الأربعة الذين نظموا قصائد عن الشرق لم يزره منهم إلا اثنان هما بايرون وشاتوبريان، بينما قنع الآخران وهما فيكتور هيجو وهينريش هايني بتصويره كما تجسد لهما في أحلامهما. وقد حظى بايرون بشهرة واسعة في هذا المجال حين شدّ رحاله في عام 1809 إلى اليونان والقسطنطينية ومات عام 1824 دفاعا عن استقلال اليونان. وكانت قصائده التي تضمر في طياتها سيرته الذاتية عامرة بالأبطال الشرقيين حتى ألهبت مأساته الشعرية "ساردا نايال" (1821) خيال الفنان الفرنسي أوجين ديلاكروا (1798- 1863) فصوّر الملك الأشوري ساردانابال (1827) (شمش شاموكين) في أثناء موته في صورة الغليظ الجافي المهيب الجامد العواطف وقد اتكأ على سريره غير مكترث بما يجري حوله من سفك دماء خيله المطهّمة الأثيرة لديه ونسائه الجميلات المذعورات اللائي يستجدين رحمته وهو الآمر بذبحهن في إصرار عنيد، بينما تناوله إحدى محظياته إبريق خمر وكأسا. ولقد تفجّرت حسيّة ديلاكروا المتّقدة في هذه اللوحة الخالدة في إبراز التباين بين أجساد المليحات العاريات المتألقة وبين بشرات الرجال السّمر الداكنة، بين النعومة والطراوة وبين الغلظة والقسوة على أن التأثر بقصيدة ساردانابال لبايرون قد جاوز التصوير إلى الموسيقى، فإذا هكتور برليوز يؤلف في عام 1830 مقطوعة الكانتاتا "ساردانابال". وعندما ظهرت الترجمة الركيكة لقصائد بايرون في فرنسا اشتعل قراؤه من شباب الفنانين الفرنسيين الذين ضاقوا بسيطرة النماذج "الكلاسيكية المحدثة" الجامدة حماسة، وسرعان ما حفت صور الأميرات الشرقيات وجنود الإنكشارية محل صور الحوريات والأبطال والنماذج الكلاسيكية في اللوحات المصورة. هذا إلى أن الصراع بين اليونانيين والأتراك قد أججّ هذا الاتجاه، وإن كان الإنصاف يقضي بأن نعترف بأن المصورين الأوربيين كانوا أشد اهتماما بتسجيل المشاهد المثيرة للخيال والمحرّكة للنشو ة الفنية في تركيا أكثر من اهتمامهم بتسجيل معاناة اليونانيين على أيدي الأتراك.

على أن أبرع مصوري المقاعد الوثيرة المستشرقين الذين لم يغادروا أوطانهم مستلهمين الأشعار والمنمنمات الشرقية والصور المحفورة المطبوعة بكتب الرحلات كان بلا نزاع الإنجليزي ريتشارد باركس بوننجتون الذي لم يتعد في أسفاره مدينة البندقية، ومع ذلك فإن صوره الشرقية المرسومة بالألوان المائية ترفّ بسحر جذاب وتنبض برقة المنمنمات الفارسية، وكان لبوننجتون تأثير كبير على مصوّري الألوان المائية الفرنسيين في وقته.

وبعد بوننجتون بجيل واحد اتجه الكاتب المصور الإنجليزي إدوارد لير إلى اليونان في عام 1849 ثم إلى مصر في عام 1854. وكان لير فناناً طوبوغرافيا من الطراز الأول حوّلت صبغات ألوانه المائية مشاهد النيل والريف المصري إلى تحف خالدة.

وطوال قرن كامل ظلت صور الشرق تحظى بسوق رائجة في أوربا فأقبل عليها الأغنياء من البورجوازيين الذين أولعوا باللوحات المشرقة بالضياء والتي لا تتعارض في عرضها مع الطرز الأخرى ذوقا. وكانت الحكومات- وخاصة الحكومة الفرنسية- تختار من بين الصور المعروضة في "الصالون" صور الشرق لعرضها بالمتاحف القومية، فضلا عن أنها كانت تعهد إلى المصورين بإعداد هذا اللون من الصور لتخليد انتصار العسكرية. وقد أسهمت المعارض الدولية مثل معرض عام 1876- وخاصة جناحه المصري، ومعرض عام 1889- وخاصة لوحات شوارع القاهرة- في الحفاظ على الاهتمام بالشرق الذي كان في الماضي مظهرا من مظاهر الرومانسية فحسب، فإذا بالتصوير الاستشراقي يغدو مادة غزيرة متنوعة الألوان استغل فيها المصورون عناصر الديكور الشرقي كي يستميلوا شعور مواطنيهم الوطني فيدركوا أنهم من جنس أرقى، وينسوا- ولو إلى أمد قصير- وحشة مدنهم الصناعية المقبضة، فتطوف أحلامهم بالبلاد المشمسة حيث قطوف المتعة دانية. ومما ساعد على رواج التصوير الاستشراقي أيضا إنه أرضا الشعور الرومانسي الذي ينزع إلى الألوان المحلية وإلى كل ما هو مثير للخيال بعد الاضمحلال الذي لحق مدرسة التصوير الكلاسيكي المحدث. كذلك حرّكت حروب نابليون الشعور القومي الذي دفع فرنسا وإنجلترا بل وإيطاليا إلى غزو الأمصار الإكزوتية واستعمارها. هذا إلى أن الشرق كان مرتعا سهلا وغزيرا لإشباع الغرائز الحسيّة التي كان من الصعب إشباعها في أوربا المتزمّتة آنذاك. وأخيرا فإن هذه الصور كانت استجابة للرغبة في الكشف عن الغموض والتوق إلى استكناه الأسرار، وهذا وذاك لا تكفلهما لا الكاثوليكية في فرنسا ولا البروتستانتية في إنجلترا كما يكفلهما الشرق بسحره.

وتعدّ لوحة "موت ساردانايال" بحق الذروة بين لوحات التصوير الاستشراقي المبكر عامة، فقد اجتمعت فيها أكثر عناصره بعد أن أصبح كل ما هو شرقي تقرّ به العيون وترتاح إليه النفوس، فلكي تجتذب الأديبة جورج صاند الشاعر بروسبير مريميه ليقع في هواها كانت تتعمد أن تستقبله في خط تركي وسروال فضفاض، كما حرص تيوفيل جوتييه على ارتداء طربوش يتدلى منه زرّ حريري. ومنذ مطلع الإمبراطورية الفرنسية أخذت أزياء النساء يبدو فيها التأثير الشرقي حتى أصبحت الشيلان الكشمير هي هدية الزواج المثلى. وعادت قافلة المستشرقين من الشرق بطرف جذابة علقوها على جدران دورهم، من خناجر عربية وأسلحة مطعّمة بالفضة والمرجان وسيوف حدباء وأنسجة الدمقس المطرزة بآيات من القرآن الكريم والسجاد الفارسي والتركي والأكلمة المصرية. وغدت القفاطين والبرانس والعباءات العربية والسترات المطرزة بالقصب الفضي والذهبي عيدا حافلا بالألوان، وكأنها ماتزال تحتفظ بضوء الشمس بين طيّاتها يحجب أمامه الألوان الكامدة لأزياء الأوربيين القاتمة. وكانت هذه الطّرف بدورها تجتذب إليها عشاق الفن الذين يختلفون إلى مراسم الفنانين لاقتناء الصور الشرقية. ومنذ أمد طويل كان الأوربيون يخالون أن ثمة رابطة بين البلاد المشمسة وبين ما تنطوي عليه هذه البلاد من ثروات وجواهر وحلّي، غير أن المصورين كانوا أعجز ما يكونون عن التعبير عن هذه الكنوز على حين كان الأدباء أقدر منهم على وصفها، إلى أن طالعنا ديلاكروا بلوحته الخالدة "موت ساردانابال"، وخرج علينا جون فردريك لويس بأزيائه الشرقية المطرزة بالقصب، وأمطرنا جيروم بجنود الإنكشارية الشاهرين سيوفهم البرّاقة وبجنود الأرناءوط بطبنجاتهم المرصّعة بالفصوص المختلفة الألوان. ومما يثير العجب أيضا حرص الفنان الأوربي عند تصويره للمشاهد الشرقية على رسم الدماء المسفوكة تفيض بها صدور الجواري وتنهمر على أعجاز الخيل، مثلما نشهد في لوحة "موت سارادانايال"، أو وهي تسيل من الجنود الجرحى كما في لوحة مذبحة المماليك بالقلعة عام 1811 م على يد محمد علي، وبعدها بخمسة عشر عاماً في لوحة "مذبحة الإنكشارية" على يد السلطان محمود. كذلك احتلت مشاهد القتال مكانا بارزا في التصوير الاستشراقي خلال القرن التاسع عشر، خاصة أن الجيوش الأوربية قد خاضت غمار حر وب متعددة مع تركيا وضد الجزائر استهلتها بالحملة الفرنسية على مصر إلى ان نشبت حرب الاستقلال في اليونان عام 1821.

جوارٍ وإماء

وحرص الفنانين على الإثارة دفعهم إلى الإفاضة في تصوير الجواري والإماء، وكانت الرغبة في امتلاك المحظيات من الجواري والإماء تثير الفرنسيين الذين لم يعودوا يبالون كثيرا بمبادئ الثورة وما تنادى به من حرية وإخاء ومساواة، كما تلهب مشاعر الإنجليز الذين ضاقوا ذرعا بما يحمله العهد الفكتوري من تزمّت، فكان بيع الجواري في أسواق القاهرة واستنبول مما يزيد في سحر هاتين المدينتين، وهكذا غدت سوق النخاسة موضوعا شائعا بين المصورين يتيح لهم عرض أجساد النساء عرايا أو تحت رداء شفاف لا يقنع به المشتري المتلهف فيزيحه ليرتشف بعينيه جمال السلع التي توشك أن تسقط في يده. ولا شك أن فكرة الحريم كانت تعابث خيال الأوربي كلما تذكّر الشرق، وتجعله أسير حلم يرى نفسه فيه سلطانا محاطا بعدد من الصبايا الجميلات اللاتي لا يحلو لهن شيء قدر السعي إلى إرضائه والمثول بين يديه في طاعة وخضوع. ولعل أبدع صورة للحريم وصفها بايرون كانت تلك الصورة التي تسلل فيها دون جوان إلى سراي الحريم متنكرا في زي امرأة، وأخذ يزدرد بعينيه جمال سُمرة الفتاة الهندية التي يشعّ جسدها بدفء آسر، وفتنة الفتاة القوقازية الزرقاء العينين الرّخصة الذراعين البضّة الكفين التي يدقّ قدماها فلا يتصورها تلمس بهما الأرض المتربة، ثم تشدهه الصبية المكتنزة الجسد فلا تلوح له رغم وقفتها إلا مسترخية على فراش المتعة.

وثمة صور شتى للحريم بعضها ساحر متقن وبعضها مثير خلاب، ويشيع في بعضها الآخر عطن بيوت الدعارة. وقد ظهرت نماذج النوع الأول في فرنسا على يد آنجر في لوحة "المحظية" (1807) ولوحة الجارية ووصيفتها (1858) ولوحة "الحمام التركي" التي رسمها في شيخوخته بعد أن استوحى محتويات المشهد والثياب من اللوحات المطبوعة في كتب الرحّالة القدامى، على حين كان رائد النوع الأول في إنجلترا هو جون فردريك لويس بلا منازع.

واشتملت أكثر صور الشرق على المآذن البيضاء التي تسبغ الاتزان على التكوين الفني للمنظر الخلوي، فنرى كرابيله وماريلا وإدوارد لير لا يكفّون عن تصويرها في صورهم المصرية، كما تسجل إحدى لوحات جيروم الرائعة المؤذن ينادى للصلاة من فوق شرفة إحدى مآذن القاهرة ومن حولها تنهض المآذن المملوكية وكأنها قوارير رشيقة في أفق تغشيه حمرة الغسق. وتلفتنا براعة المصورين الإنجليز بخاصة في تصوير العمائر الإسلامية ونقوشها الزخرفية مع الاحتفاظ بالمسحة الرومانسية لتلك المباني العتيقة، حيث المآذن في لوحاتهم تطل على أضرحة المماليك وقد أخذت تزحف عليها رمال الصحراء.

موسيقى وتأثيرات شرقية

وكان للشرق بخياله أثره كذلك على الموسيقى حيث تجلّى في مجال الأوبرا، حين أصبحت الحاجة ماسة إلى المناظر الشرقية في الأوبريت، فطغى الذوق التركي على تصميم الأزياء في أوبرات "اختطاف من السراي" لموتسارت و"حجاج مكة " لجلوك و "خليفة بغداد" لبوالديو و"الفتاة الإيطالية في الجزائر" لروسيني، على حين استخدمت أوبرات "بنوسراج" لكيروبيني "ونابوكو" (نبوخذ نصر الملك الكلداني في الدولة البابلية الحديثة) و "دريد من غرناطة" لدونيزيتي مناظر شرقية أقرب إلى الواقعية، وزودت أوبرا "الأميرة رخ" لفيلسيان دافيد بمناظر تكاد تكون شرقية بحتة، وكان مما زاد تلك الأوبرا نجاحا ما احتوته من ألحان شرقية تضمّنتها للمرة الأولى في تاريخ الأوبرا. ومثلما اقتبس موتسارت لحن الموشّحة الأندلسية " لما بدا يتثّنى" ليضمنّه الحركة الثالثة من سيمفونيته الأربعين، إذ كانت الموشحات الأندلسية قد بدأت تغزو أوربا على أيدي المغنّين الجوالين وشعراء التروبادور، استمد كامي سان صانس ألحان كونشيرتو البيانو الخامس من أغاني الملاّحين النوبيين التي كانوا يصدحون بها في سفينته في أثناء صعوده في النيل. على أن فردي في أوبراه "عايدة" لم يخضع ألحانه للألوان الشرقية مكتفيا بالمناظر الفرعونية المرسومة. وكذلك كانت أوبرا "ملكة سبأ" لجونو (1862) و "شمشون ودليلة" لسان صانس (1877) فرصة شهدت فيها الجماهير الأوربية لوحات مناظر شرقية خلابة على خشبة المسرح. وتمطرنا الموسيقى الروسية بأصداء الشرق فيما قدمته من أوبرات مثل "رسلان ولودميلا" (1842) لجلينكا، فضلا عن الرقصات الشرقية في باليه "كسارة البندق" لتشايكوفسكي، وباليه "شهر زاد" لرمسكي كورساكوف (1888) الذي عرض في باريس بعد عشرين عاما من ظهوره في سان بطرسبرج على يدي دياجليف. فكانت له ثورة في مجال الفنون التشكيلية وتجديد واضح في ساحة الاستشراق الفني، فلقد أشعر الفنان العالمي باكست المصورين الاستشراقيين الذين كانوا يعرضون لوحاتهم في "صالون باريس" بالعجز والقصور والإحباط حين قدم راقصات الباليه الروسي بأزيائهن الشرقية التي صممها لهن خصيصا بدلا مما اعتادوا عرضه من صور لفتيات شرقي ات غدت مبتذلة لكثرة تكرارها وكأنهن دمى لعرض الأزياء في واجهات المحلاّت.

ومن بين سائر البلاد الشرقية التى اجتذبت المصورين خلال القرن التاسع عشر كانت مصر أعظمها شهرة لاعتدال مناخها ولجمال واديها ولروعة صحرائها، إلى جانب ما يحتشد في القاهرة من الآثار الإسلامية والفرعونية بكل ما لها من سحر بالغ، وفوق كل شيء لوداعة أهلها المأثورة، كما أنها كانت توفر وسائل الراحة للرحّالة أكثر مما توفّرها غيرها من الدول الإسلامية. فمنذ عام 1840 والقاهرة تضم عدة فنادق ذات مستوى لا بأس به، ومنذ عام 1868 بلغت رحلات كوك السياحية مدينة أسوان. وإلى هذا كله تنفسح ساحة التصوير الاستشراقي في مصر لتشمل القاهرة ومصر العليا والنوبة ووادي النيل والصحراء وسيناء.

على أن الجمهور مالبث أن ضاق بالاستشراق الرومانسي، إذ كانت سهولة الرحلة إلى الشرق قد أغرت جملة من الفنانين المتواضعي المواهب الذين هرعوا إلى الشرق وانحصر همهم فيما هو رخيص مفتعل، فأسدلوا الأزياء الفولكولورية والحليّ الرخيصة على الأجساد العارية رغبة في الإمتاع أكثر من الرغبة في الإتقان، وفي الوقت نفسه اتجه بعض الفنانين إلى إعداد الصور الاستشراقية عجلين في عُقر مراسمهم. وقد اصطلح مؤرخو الفن على اعتبار يوم 17 نوفمبر من عام 1869- الذي أفتتحت فيه قناة السويس فقّربت الشقّة بين الغابر والشرق- هو نهاية الفن الاستشراقي في الشرق الأدنى، وإن بقى بعض المصورين المناهضين للأسلوب الانطباعي يواصلون تزويد "صالون باريس" ومعرض "الأكاديمية الملكية" بلندن بلوحاتهم الاستشراقية لمدة عشرين عاما أخرى. وكان من نتيجة سهولة التصوير طغيان السوقية على الفن الإكزوتي، خاصة بعد ما أصبح وسيلة لتمجيد الإمبراطورية الفرنسية حين أخذت الدولة نفسها تحثّ المصورين على هذا اللون من التصوير، فأوفدتهم إلى قلبه إفريقيا السوداء وإلى الهند الصينية، واتخذت الكثير من لوحاتهم لتزيّن بها جدران الوزارات والسفارات وقصور الحكام والبواخر ماخرة المحيطات، فما لبث التصوير الاستعماري أن أخذ مكان التصوير الاستشراقي. كذلك فإن الاتجاه الأوربي العارم إلى اقتفاء أثر التصوير الياباني وقتذاك قد بدأ يحجب التصوير الاستشراقي، فما كادت تهلّ سنة 1900 حتى كان العالم الإسلامي بما يحوي قد استنفد، وأخذ المستشرقون من الفنانين يتجهون اتجاها جديدا حيث الألوان الطريفة سواء في اليابان أو فى جزر المحيط الهادئ ليقدموا لمجتمعاتهم غريبا لم يألفوه.

وفي الحق أيضا فإن نشأة التصوير الفوتوغرافي قد أدت خلال نصف قرن دورا أخطر من الدور الذي أداّه تطور وسائل الانتقال السريع بالقطر والسفن البخارية في القضاء على التصوير الرومانسي الخيالي، بل إنه ما لبث أن أخذ مكانه شيئا فشيئا.

وبدأت المجلات المصورة مثل " ذي اللّستريتد لندن نيوز "الإنجليزية و "اللّوستراسيون" الفرنسية منذ عام 1850 تطالع القراء بالصور الفوتوغرافية عن الشرق الأوسط. كذلك أخذ الرسامون أنفسهم يستمدون من الصور الفوتوغرافية النماذج التي ينسجون على منوالها في رسومهم، فهي لم توفرعليهم عناء الرحلة إلى الشرق فحسب، بل وكدّ الدراسة المضُنية العميقة للتفاصيل المعمارية، هذا إلى أن التصوير الاستشراقي بات في متناول الجميع بعد أن اخترع كوداك في عام 1888 آلة تصوير خفيفة الحمل للسائحين الذين أقبلوا على اقتنائها بلهفة شديدة.