ألم الليلة الأخيرة

ألم الليلة الأخيرة

(الف) (لام) (ميم) آلم, آية الزمن والتي خبأت رأسها في صدري تحلم بطفلة نزرعها عنق هذه السماء التي لا تمطر غير الخراب, وتدعي أن الحقيقة بعض من افتراء النساء, ربما كان لها في امرأة العزيز أسوة, تراودني عن صمتي بالقبلات, برعشة اليد الممدوة في اليد, بذبول العين ساعة النداء المكفن بصدى الكلمات المخنوقة, لم يحصحص الحق فقط النساء مجبولات على الخطيئة ولا يتوانين في تكديس أحلامهن حتى في الأزمنة الممتطية صهوة الموت.

عبثا صار يستوي القلب في القلب, والشفة في الشفة, و.. فأنا واحد من الذين صاروا لا يميزون بين الخواء والحنجرة, أقامر بهجير النهر في الليلات المقمرة, لا أحسب الحب حبا, ولا الصدق صدقا إلا من حيث تحتسب التي معي, نزف العمر سنينا في حنين التي مشت وتركت الرماد ذكرى, صرت أسميها تعزية طقوسي التي تنبت المواسم المفجوعة, وقدرت إلا واحدة تسائلني عشقها, أنا القتيل ومنايا الجميلات. جاء في أسفار الأولين أن آلهة أوصت لخلق يأتون في الزمان المتأخر, أن فجروا حقد المرايا ففي ساعات الردة تستوي الأباطيل, لذلك كله كنت أنتصر للتعاليم الفاسدة ولا أنتصر لوجهي الحزين.

ـ قالت التي تحلم بطفلة نزرعها عنق هذه السماء التي لا تمطر غير الخراب: ستفيض الحقول ماء ولا أرى هذا الجسر عاصما.

ـ قلت: تهلكة, لا أرى الليلة غير جناحي طير شؤم تلوح في أفق القرية.. لم تفهم.

حدقت في عينيها الواسعتين, كانتا امتدادا لسماء (أفعوية) ربما قتلتني يوما لو أدركت أن ملتي تعشق كثيرات. غابية الشعر سافرة الحدق تذوب في النهاية حكاية مهجورة, سلوى الرجال المطمسة بصائرهم, خجلا تواري لهفة النهد المحروقة (أحبك) قالت, اقتربت, امتزجت, ابيح عرض التي..

الوجوم وشيء من اللذة تعويذة ليلة تغلي قذارة, تتطاحن في الأشياء تركب تأويلات عديدة, لا أنكمش أرتسم وحشا شديد القوى, لست مدينا لأحد ولا للناس, رأيت الكل يلعب دورا أكبر من هدهد ففضلت أن أنتعل نزقي, ليس طبعي لكنه الزمن المصلوب يتقمنصي.

فيما مضى كنت أماما به الناس تهتدي, ومخرج صدق للصالحين, فجأة برق فجر لعين, أبصرت شياطين تعلم الناس أوردة الصباح وفي المساء تنعي إليهم أفول الجنة, أو مأت للذاكرة جلدتني الرؤى الخبيثة والفلسفات المهترئة, حتى الصالحات الصالحات صرن يختلسن الجنس ولو على ضوء شمعة, فصرت لا أحترس من النازلة, مغروسا في الفراغ وفي الضجر في الثرى الأحمر.. الأصفر.. الأسود.. وفي كل الألوان, أحمل وطنا وذكرى وشرخا, أسكن اللحظات العامرة بعهر مدينة ثملة, أحلامي الكبرى تهاوت تحت الوسادات النتنة وصدري ممغنط صوب الهاوية, صوب الأقبية المشكلة عالما مجنون الهوية, حيث تفقد اللغة كل دلالاتها وتتطلب شرحا معجميا خاصا بها ومعاهد وجامعات قائمة بذاتها تعلم رموزها الأولى.

ـ زهرة المنتفخة تصلح أن تكون الناظرة, سريعة في انفعالاتها في استجاباتها وزبائنها كثيرون ـ قالها الرجل المتورمة قدمه: المرأة الممتلئة تخلق عمرا آخر للنشوة القاصرة.

ـ خيرة لا تصلح للمغازلة, فالنساء الجرب يفجرن عقدهن في ممارسة الجنس بطلاقة مبالغ فيها.

ـ هدى في وداعتها تصلح أن تكون زوجة لو غيرت لغة الحب مداها.

سلمى, بختة, ووهيبة, حكايات لا تنتهي, في النهاية عالم من الحريم يدمن امتصاص عرق الأجساد المحمومة, عالم وجوده تأكيد وقح على نظرية خروج الحضارة من فم جيفة تقيأتها المواسير ومع ذلك صرت واحدا منهم أتقن لغتهم, أتحدث نبرتهم, عفرت وجهي ساعات السهد والاحتلام أهيم في أكثر الأماكن المشبوهة والمحرمة, وصمني أهل حارتنا بالردة والانحياز للأفكار الكريهة, وضعوا أعلى أبوابهم أقفالا جديدة, سخط عني الأصدقاء والصحب والأولياء.

قال أحدهم: خربت مخه كتب (ماركس ولنين).

أردف آخر سموم (مالرو وكامي وسارتر وميلر). مع أني منذ مدة لا أقرأ لغير امرأة تكتب على صفحات الجرائد مأساتها لعلها تنتقي من بين الرجال زوجا لها.

تلك التي كانت معي لم تتهمني فقط تزعم أن جرح امرأة لا يداويه الا جموح امرأة بحالها.

ربما في أحيان كثيرة, ساعة أفكر فيها بما لا يزدري الشرف الرفيع, أصنع لها سبعين عذرا وحين لا أقتنع أزيد من نفسي واحدا.

ليس بيدي ولو كان كنت أرشدت كل عاهرة رجلا تقيا, يقيها برد العلب والجنس الرخيص, يصونها من عرق الممرغة اجسامهم بغبار الأسمنت والجير. ولذلك كله حين تعرت في حضرتي آخر ليلة, تمنيت لو أخرج عن صمتي الكبير وألقي بكل الكلمات المضطهدة على جلدها الحار, تمنيت احدثها بوجه طفل مذعور الوجنتين مشدود الحاجب عن تفاصيل حكاية تصرخ إن عشقها مستحيل وبقاءها رحيل, وأن التي ترعرعت في الذاكرة أوصدت جميع منافذ المجهول, وأن حبها مازال يصادر كل محاولات النسيان.

تمنيت لو كان بوسعي احدثها عن تلك الهاربة في الأزقة المظلمة, عن ربيعة العام المقتول في السنة العجاف, عن ربيعة البراءة الممحوقة والسطر المجمد في حلق الورقة المطعونة, عن ربيعة اللحد المنتظر ألف جثة والدم المتداول في سوق الكلام الفائض عن الحاجة الرسمية.

عن ربيعة الكبرياء المجروح والشرف المكلوم, لكنني بقيت أخرس, فربيعة لم تكن مجرد قصة يرويها البحر للصيادين كل صباح.

ألتفت للتي كانت معي أدثر جسدها البض باثوابها المرتمية عند قدمي.

عندها. امتعضت, انتصبت, صرخت:

أراك ارتكبت من المعاصي ما يسخط العالي والعالمين وأنت الموشوم بقداسة الحرف ووحي النبيئين, أما تستحي تجني على الفحولة والناس نيام؟

أدركت كم هو موجع حين يعذبنا الله بعذاب الذين أذنبو.

حملتني قدماي على الطريق, أتمنى لو كنت أستطيع الجري بسرعة مهولة بعيدا عن تلك الفقمة, وقع كعب حذائها يمعس رئتي, رائحتها التي تشبه ريحة ساحات بيع السمك, كل شيء فيها يجعلني كتلة متدحرجة في فوهة الفجر الطالع على القرية, وتثير في نفسي حاجات البكاء والندم والامترار.

هل يمكن أن تطهرني هذه الآلام التي تقد أحشائي, عاودني عطر ربيعة, يتخيل لي أن كل شقوق الحقول المترامية تنفثه.

كلما أحسست فظاعتي تذكرتها وتذكرت شارع الأمير عبدالقادر ذلك البطل الذي قهر الفرنسيين ولم يبق من ذكره غير صورة معتمة تختزنها الأوراق النقدية التي في الغالب تتداولها النسوة في الأماكن المشبوهة.

لأول مرة أتفحص جدرانه بعينين ضفدعيتين مقززتين, يهيىء لي أن لون الباب الأصفر صار أسود وتلك الفتحة الموجودة في أسفله والتي طالما اختلست مكاتيبنا الغرامية غشاها الأسمنت, لم يعد هناك أي منفذ يهب الحياة. لا أشك الآن أنها ماتت قبلي من زمان.

 

محمد رندي