صوت المطر

صوت المطر

يعود العجائز من تجوالهم بعد أن هدهم التعب. ويكون الليل قد انتصف. يغتسلون في مياه النهر، ويتفرقون في الحواري.

يمضي "هلال " برفقة "بدوي"، فطريقهما واحد. يوجس هلال وهما يوغلان في عتمة الحارة الضيقة. يتحسس نصف الرغيف الطري الذي يحتفظ به في جيبه. يهب الكلب دائما من حيث لايدري. النباح الرهيب يمزق السكون حولهما. لايراه ولايلتفت إليه. يحس به قريبا، على بعد خطوة أو خطوتين. لايفزعه شيء مثل النباح في العتمة. يرمي بنصف الرغيف ناحية الصوت. يزمجر الكلب ويسكت. ينتظر ما يقوله صاحبه. غير أن بدوي يظل صامتا وكأنه لم ير شيئا. كان قد قال له فيما مضى:

- عودته على ذلك. ولن يتركك أبداً.

- إيه. نصف رغيف.

يصعد هلال عتبة بيته. يمد ذراعه من كوة في الباب ويرفع السقاطة من الداخل. ينتظر بدوي حتى يراه يدخل ويواصل طريقه.

يغلق هلال الباب والكوة. المدخل مسقوف معتم، على جانبيه حجرتان باباهما مواربان، ينتهي بحوش مكشوف، وتعريشة من الغاب وأعواد الذرة الناشفة تغطي جانبا منه، يرقد تحتها حمار وعنز وجدي صغير. تتدلى أعواد الذرة من التعريشة. تبدو في ضوء القمر الشاحب كثعابين انزلقت من جحورها. يغسل هلال قدميه من مياه طلمبة تتوسط الحوش. أحيانا يجد على سطح الفرن لفة برسيم داخلها رغيف وغموس. يتربع بجانب الطلمبة يتناول طعامه، والجدي بجواره يعض أعواد البرسيم. بعدها يحمل وعاء النار من فوق سطح الفرن، به بقايا قوالح مطفأة، يشعلها ويمضي به إلى مرقده. الفرشة ملمومة بركن المدخل. كومة قش يفرد فوقها فوارغ من الخيش. يرقد ملتفا بعباءة من الصوف. رأسه بعد أن خلع العمة صغير أملس. يتحسس نتوءات جمجمته البارزة والجلد المكرمش حولها. يمسح عليها بطرف شاله الذي بلله من الطلمبة. تيار هواء يأتي من تحت عقب الباب يلمس في مروره الجذوات فتتوهج ويتصاعد منها الشرر. وعاء النار بجواره صيفا وشتاء. قال لأصحابه إن النار ونس، ينظر إليها طوال الوقت. في كل مرة يوقدون النار ويتحلقون حولها يقول لهم ذلك، في الخلاء، على الشطوط، بجوار المصاطب، ويكون الليل باردا، وتطقطق النار وسط السكون، يغذونها بما يجدونه من حطب وخشب، ويرتفع اللهب، تتراقص ظلاله على وجوههم.

ويقولون: إنهم أيضا يضعون وعاء النار بجوار مراقدهم.

ويقول: إنه تأخذه غفوة ويصحو ليحدق إليها.

ويقولون: إنهم أيضا تأخذهم غفوة وتدمع عيونهم من الوهج.

ويقول: إن عينية تدمعان طوال الوقت.

ويقولون: إن النوم لا يأتيهما. يحدقون للوهج ويحدقون ولا يأتي النوم.

ويقول: إنه أيضا يهرب منه النوم.

ويقولون. إنها غفوة ويصحون. أقل صوت ويصحون.

ويقول. إنه في صغره كان يغط في النوم عندما ينظر إلى وهج النار.

ويقولون: إنهم أيضا.

الأصوات المألوفة في الحوش، وضوء السماء الرمادي، وحين يكون القمر ساطعا يسبح الحوش في ضوء فضي، وتظهرأشياء اختفت طويلا عن نظره، يراها منزوية في الأركان البعيدة، سن فأس، يد كوريك، شرشرة، عتلة، أشياء كثيرة كان يستخدمها فيما مضى ورمى ابنه بها جانبا، ورآها أياما ثم لم يعد يراها. ومغزل الصوف، كان يحمله دائما أينما ذهب، يضعه في جيب الصديري، ولفة الصوف في الجيب الاخر. يخرجه عندما يجلس في الظل، وعند عودته إلى البيت يجري ابنه إليه، ويأخذ المغزل من جيب الصديري، ويفك خيط الصوف ويلفه على شكل كرة. ومن وسط الكراكيب ما تبدو الرقبة الطويلة لفردة حذائه حين كان في الجيش، وفئران تطل من فوهتها، تظهر وتختفي، ويتذكر أنه رأى الفردة الأخرى في مكان ما، كان بنعلها ثقب واسع، يغطيه من الداخل بقطعة خشب أبلكاش، وعندما يأخذ في الجري أثناء الطابور تتفتت، وتخز شظاياها قدمه حتى تدميها. تمرق عرسة خطفا، وصراصير وجراد تحلق قليلا وتسقط، وضفدعان أو ثلاثة، ربما أكثر، تقفز بجوار الطلمبة، تلبد في مكان ما، يرتفع نقيقها حادا وسط السكون، ومجرى ماء يسيل رفيعا من حوض الطلمبة، يشق طريقه بامتداد الحوش، متألقا في الضوء الناعم، يتجمع في منخفض أمام الفرن. غدا تنزحه امرأة ابنه. وطائر صغير يحط على الطلمبة، عصفور أو هدهد، يغمس منقاره فى فوهتها، ويظل في وقفته ساكنا. نادرا مايرى طيورا في الليل. وعندما يسقط المطر لا يستطيع أن يرى شيئا. خيوط المطر المتدفق تحجب ماوراءها، غير أنه يغفو، يغفو طويلا، ويصحو حين يتوقف، يفاجئه حول رأسه، لا يبدو من وجهه غير عينيه، من شدة البرد لا يحس بهما، يغمضهما ويفتحهما فتدمعان، قطرات الماء تتساقط من أطراف التعريشة، ومياه المطر تجمعت في بركة واسعة أمام الفرن.

ويقول: إنه يحب صوت المطر.

ويقول أصحابه. إنهم أيضا يحبونه.

في كل مرة تمطر يقول لهم ذلك. يكون الوقت ليلا ويفاجئهم المطر، يهرولون إلى مدخل مقهى، وأحيانا مصطبة دكان مغلق يتكومون تحت مظلمته، ويرى من مكانه أصحابا لهم وقفوا تحت مظلات الدكاكين القريبة وعلى عتبات البيوت، بعضهم لم يجدوا مايسترهم من المطر فا لتصقوا بالجدران بمداخل الحواري الضيقة، يراهم خطفا في ضوء البرق ثم يختفون عن عينيه، يغرق الشارع في لحظات، وينالهم الرذاذ المتطاير، يفردون الجلابيب فوق رءوسهم، يتنفسون تحتها وينفخون في أيديهم، يسمعون هسيس المطر ولايرونه، يضحكون في جذل دون صوت.

ويقول: إنه ينام على صوت المطر، وحتى وهو نائم يتردد الصوت في دماغه.

ويقولون. إنهم أيضا يسمعون صوته في نومهم.

ويقول: انه من قبل لم يكن يهمه المطر ولاغير المطر.

ويقولون: ومن كان يهمه. مطر أو غير مطر.

ويقول: إنه أيضا يحب السحالي.

ويقولون: السحالي كثيرة.

ويقول: إنه يحب الأصفر منها. ولا أحد يعرفها مثله. يلقاها دائما في الحواري وحوش البيت. يكون ماشيا ويراها تلمع في شق بالجدار. حين تحس بأنفاسه تجري ثم تقف. وينبش بعود قش بجوارها فتجري من شق لشق ثم تقف وترفع رأسها ويعرف أنها تريد أن يلاعبها.

ويقولون: وكنا نقتلها بالحجر.

ويقول: إنه أيضا. ضربة واحدة بالحجر وتموت.

ويقولون: إنه لا يستطيع أن يصيبها من ضربة واحدة. فهي تجري كالبرق.

ويقول: إنه أصاب أكثر من سحلية مما الضربة الأولى. وكان يدوسها بكعبه أيضا.

ويقولون: إنه ما من واحد في البلدة يستطيع أن يصيبها من أول مرة.

أنفاسهم دافئة تحت الجلابيب، وأقدامهم العارية بللها المطر.

ويقولون. إنه لم يقتل سحلية واحده في حياته.

و يقول: إنه وحده قتل منها أكثر مما قتلوا. وكان يستطيع بالنبلة أن يصيب أي عصفور من أول مرة.

ويقولون: إنه لم يكن عنده نبلة. كانوا دائما يعطونه نبهالهم. وأنه كان لايترك أبدا ذيل جلباب أبيه.

ويقول: إنه كان عنده بدل النبلة ثلاث.

ويغضبون، سرعان مايغضبون، يتركون المصطبة واحدا وراء الآخر. ويزيح الجلباب عن وجهلا، ويراهم والجلابيب على رءوسهم يبتعدون وسط المطر. في كل مرة يغضبون يفارقونه، ويمر يوم لايراهم، ثم يلتقون.

ينبش بظفره الرماد الهش عن الجذوات، فيعود لها وهجها. وتكون بشاير الفجر قد لاحت في الأفق، ينصت قليلا للغطيط المتواصل يأتي من الحجرتين. إحداهما ينام فيها ابنه وزوجته وحفيده الرضيع والأخرى بها أحفاده الأربعة. ولدان وبنتان. يتوقف الغطيط في حجرة ابنه، ويسمع همهمه، وسعالا، ويعلو صراخ حفيده ويسكت فجأة، لايسكته غير ثدي أمه، بعدها يناغيها ويلاعبها يأتيه همسها الخافت، ثم زمجرتها لابنه. لايسمع له صوتا، حتى عندما تزجره في غضب. لايحلو له الأمر إلا ساعة الفجر. ويكون على وشك أن يستدير ويعطي وجهه للجدار حين يسمع صرير باب حجرتهما الموارب. تتسع الفتحة، ويرى ذراعي امرأة ابنه العاريتين تحملان الطفل، ثم يظهر جانب من كتفها بقميصها البفتة وشعر رأسها المنكوش. تضع الطفل أمام عتبة الحجرة، ويلتفف الطفل مناغيا ثم يسكت حين يواجه بالباب المغلق. يلبس قميصا قصيرا دون أكمام لايغطي مؤخرته العارية، صنعته أمه من جلباب قديم لأبيه. يحبو في اتجاه الحوش كأنما جذبه الضوء هناك. يتوقف لحظة ليبول ثم يواصل طريقه. يتربع في نهاية المدخل المسقوف ويده تعبث بأصابع قدميه مستقبلا انعكاسات ضوء الفجر. الحوش ساكن. لاشيء يتحرك داخله. اختفت الفئران والضفادع و الحشرات. ورقد الجدي والعنز بين سيقان الحمار. تلك اللحظات عميقة السكون، يراها كل يوم قبل طلعة النهار وهو بين اليقظة والنوم. يستدير الطفل، يحبو مقبلا نحوه، يدور حول وعاء النار ويندس بجواره. تفوح منه رائحة اللبن الرائب. تجوس يده الصغيرة قليلا في صدره ثم تهدأ ويروح في النوم. ويغفو هو الآخر.

 

محمد البساطي