استشراف المستقبل

استشراف المستقبل

في القرن السادس من هذا العصر أصدر شاعر اسمه نوستراداموس نبوءاته الشعرية في مجلده "القرون " عام 1503، وهو عراف فرنسي شهير يقول المتحمسون له إنه تنبأ بظهور نابليون وهتلر وإلقاء القنبلة على هيروشيما ومصرع روبرت كنيدي، وقيل إنه تنبأ بحرب الخليج في قوله ستحدث حرب يساهم فيها العالم قبل نهاية هذا القرن بأعوام قلائل، وقد آثار كتاب دويا في العالم إلى يومنا هذا إذ مازالت تنبؤاته تتحقق تباعا ويتضاعف طبع مؤلفه الشهير. فها هو ذا يقول في إحدى قصائده:

سوف يظهر الشيطان في هيئة آدمية
ويسيطر على مقادير البشر
وسوف تنهار البابوية
وتمحق من الوجود روما وباريس
ولندن ونيويورك
ويستخدم ملك الرعب قواه الجوية
في إبادة أعدائه
وتطير الأسلحة في الأجواء من قارة إلى قارة
وتنفجر رءوس النيران في المدن
وتسقط أحجار ملتهبة من السماء.

السفينة تيتان

وفي عام 1898 صدرت في بريطانيا رواية بعنوان "غرق السفينة تيتان " لمؤلف ضئيل الشهرة يدعى مورجان روبرتسون تدور حول تعرض سفينة جبارة للركاب للغرق تسمى تيتان تقلع عبر الأطلنطي من ميناء ساوثمنتون إلى ميناء نيويورك وتصطدم بجبل جليدي وتغرق ركابها. وكانت الرواية تصف بكل دقة ماسوف يعانيه الركاب، وبعد 14 سنة نالت هذه الرواية اهتماماً كبيراً وأعيدت طباعتها لمرات عدة واعتبرت أغرب رواية في تاريخ أدب القرن التاسع عشر لأن الرواية وقعت بالفعل لسفينة تحمل نفس الاسم وبنفس التفاصيل.

أما القاص الأمريكي الروسي الأصل اسحاق أسيموف فإنه قد كتب قصة في أواسط القرن عن الإنسان والعقل الإلكتروني، وكانت قصة خيالية لرجل هذه الصفات، وحينما التقط العلماء الفكرة وطبقوها علمياً توصلوا إلى الكمبيوتر فكاد يجن أسيموف وقال مقولته الشهيرة: يا للجنون هذه أفكاري التي تجبني منها الشركات الملايين بينما أنا صاحب الاختراع الأصلي لم أزل أعيش في فقري.

وفي هذه الظواهر الخارقة وعلى ضوئها أصدر الدكتورج راين كتابه الشهير "الإدراك خارج نطاق الحواس " عن جامعة ديوك وأحدث كتابه ضجة لم يحدثها كتاب "أصل الأنواع" لداروين وذلك في عام 1927، ومثل عن صدق نظريته بأنه لن يفهم الناس ظاهرة البرق والرعد إلا بعد أن اكتشفوا في المعمل إمكان إطلاق شرارة نتيجة التقاء شحنتين كهربائيتين إحداهما موجبة والأخرى سالبة، ففي هذه الحالة لسنا بحاجة إلى إدخال البرق السماوي في المعمل لكي نثبت صحة ذلك!

ثم تلاه في العام 1942 البروفيسور هـ. توليس أستاذ الفلسفة فى جامعة كامبردج ليقول إن حقيقة وجود ظاهرة الإدراك خارج الحواس يجب اعتبارها ثابتة كأى شئ آخر يمكن أن يثبته العلم.

ومن هنا فقد انصرف العلماء إلى إيجاد علم يهتم بدراسة عدة ظواهر خارقة للمألوف يجمعها الإدراك خارج مجال الحواس وتشمل التخاطر التلبائى والاستبصار والتنبؤ بالمستقبل.

الإعلام البيولوجى

وفى أوائل الحرب العالمية الثانية التى أشار إليها المنجم الفرنسى نوستراداموس وعندما كانت القوات النازية تجتاح بولندا وولف مسينغ الذى اشتهر بالتنبؤ فهرب مسينغ إلى روسيا ووقع فى قبضة ستالين الحديدية الذى أخذ يجرى مع مجموعة من الخبراء الروس التجارب عن صدق تنبؤات الرجل لأنهم لم يكونوا مؤمنون يهذه الخراقة وفى الوقت الذى كانت البحرية الأمريكية تجرى فيه تجارب وسائل الاتصال بالإيحاء على غواصات فى أعماق المحيطات لا نعدام الاتصال اللاسلكى حفزت هذه التجارب العالم الروسى فاسيليف لنشر تجاربه على استبصار وتخاطر ميسغ برغم أنها كانت تثير جدلا أيديولوجيا كبيراً لم يتفق مع النظرية الشيوعية المادية فأسموا هذه الحالة علمياً " الإعلام البيولوجى " وذلك لكى تتفق مع النظرة الوجودية للمادة وحاولوا رد هذه الظاهرة العجيبة إلى التغيرات التى تحدث فى الحالة الكهربائية. ونحن إذ نسوق هذه الأمثلة الغربية : نبوءات داموس وقصة اسحاق أسيموف ورواية السفية تيتان. واهتمام العلماء بمن فيه الروس بهذه الظاهرة الخارقة فإنه يحق لنا التساؤل : هل نعتبر هذه الأمثلة استبصاراً أم استشرافاً للمستقبل أم نعزوها للعبقرية مثلاً ؟

كانت طبيعة العبقرية مثار تخمينات، فلو رجعنا إلى أيام الإغريق الأولى لوجدنا أنها كانت حسب تصورهم تقرن بالجنون وتئول بأنها المدى الممتد م العصاب إلى الذهان. الشاعر رجل فى وقت مجذوب ليس ككل الرجال فهو أقل منهم وأكثر منهم فى وقت واحد كأن اللاشعور الذى يغترف من هذا الكلام يعد متجاوزاً للعقل ودونه فى آن معاً. ويرى فرويد فى الفنان بشكل عام " إنه رجل تحول عن الواقع لأنه لم يستطع أن يتلاءم مع مطلب نبذ الإشباع الغريزى كما وضع أولاً، وبعد ذلك أطلق العنان فى حياة الخيال لكامل رغباته ومطامحه غير أنه وجد طريقاً للعودة من عالم الخيال هذا إلى الواقع وهو يصوغ تهو يماته بمواهبة الخاصة نوعا آخر من الواقع ثم يمنحها الناس تبريراً باعتبارها تأملات قيمة فى الحياة الواقعية ".

شيطان الشعر المزعوم

وما بين صفة الجنون الممتدة بين العصاب والذهان وبين تصدية الشاعر من الهروب من الواقع كما يقول داروين وتبربر ذلك بصياغة تهويماته الموهوبة يكمن سر الإلهام أو شيطان الشعر كما يسمى، هذا الشيطان اللامرئى الذى شخصه الكثير من المبدعين فى أنهم يصغون إلى أصوات، كما يقول فوكنر : أنا استمع إلى الأصوات وعندما أدون ما تقوله يتم كل شئ على مايرام ولا يعجبنى دائما ما تقول الأصوات ولكننى لا أحاول أن أغير شيئاً.. أما هارثون فيقول : يبدو كأن الشيطان يدخل دائماً فى محبرتى وأنى لا أستطيع طرده إلا بأن أملا قلمى كل مرة. أما كبلنغ فقول : إذا كان شيطانى يصدر التعليمات فلا أحاول أن أفكر بصورة واعية اندفع، انتظر ثم أطيعه. أما كابوت فشيطانه الورد الأصفر، ولا يدع ثلاث أعقاب سجائر فى منفضة ولا يسافر مع ثلاث راهبات فى قطار ولا يعمل يوم الجمعة، ويقول إنه قبل الكتابة يفكر بالرجل الثمل الذى كان يحمل دائما حقيبة مخرمة فسأله جاره فى الحافلة ماذا بها فيجيبه " نمس لقتل الأفاعى " ويتطلع الجار فى داخل الحقيبة ويقول ولكن ليس فيها شئ، إنه نمس خيالى فيرد أثناء يكتب عنها طوال اليوم. وهكذا فثمة شاعر يكتب وحيداً وشاعر يمارس التسكع طويلاً وشاعر يستلقى كالميت وشاعر يهب من النوم ينطلق فى الضجيج ليكتب إبداعه الرائع ولكنها على أى حال حالات بين المنطق والعقل. أو هى كما يقول - اليوت - عقلية ما قبل المنطق التى مازالت باقية فى الرجل المتحدث، ولكنها تغدو سهلة المنال للشاعر لأنها ضرب من العبقرية والذكاء، ولكن لا أحد يستطيع أن يتعلم الذكاء.

تعليم الذكاء

ولكن عندما أعلن الرئيس الفنزويلى كامبنز عزمه تشكيل وزارة للذكاء فى مستهل حكمه عام 1978 عارضه معظم أركان حكومته والتمسوا إليه نبذ هذه الفكرة خشية أن تصبح بلادهم أضحوكة للعالم. ولكنه كان رجلاً ذا رؤية وتصميم لأنه كان مقتنعاً بأفكار زميله الشاعر لويس البرتو ماتشادو الذى وضع كتاباً شعرياً بعنوان " الذكاء حق بنسف المناهج المدرسية وأعلن فى عام 1979 شعاره " العبقرى ليس رجلاً خارقاً.. ويمكن لكل رجل عادى أن يكون ذلك الرجل الخارق ".

وصرح بأنه فى حاجة إلى اكتشاف طاقات جديدة لا فى الطبيعة فحسب بل فى الإنسان كذلك. وأنا الواجب الأول للمرء هو أن يتعلم كيف يكون أشد افتتاناً بأحلام المستقبل بما هو أكثر من تاريخ الماضى. لذلك قرر تدريس الذكاء فى المعمل والمتجر والمدرسة والكلية وشكل وزارة له.

ولم يقتصر الأمر على جعل الذكاء مادة علمية تعليمية فى هذا العصر الذكاء للآله وجعلها تنظم شعراً وذلك عن طريق الذكاء الاصطناعى، ومن هذا المنطق لم يزل الكثير من العلماء يعكفون على دراسة الذكاء الإنسانى عن طريق عمل برامج للحاسب الآلى قادرة على محاكاة السلوك الإنسانى المتسم بالذكاء، وتعنى قدرة الحاسب على حل مسألة ما أو اتخاذ قرار فى موقف ما بناء على وصف لهذا الموقف بحيث يجد البرنامج نفسه طريقة تتبع لحل المسألة أو التوصل إلى اتخاذ القرار بالرجوع غلى العديد من العمليات الاستدلالية المتنوعة التى غذى بها هذا البرنامج. وتسمى هذه الطريقة بـ" تقنية المعلومات ". ويهتم هذا البرنامج كذلك بالأعمال التى نعدها ذكية فقد تكون نصاً لغوياً منطوقا أو مكتوبا أو لعبة شطرنج أو حل لغز أو كتابة قصيدة رائعة.

عبقرية الشعر

يقول ارسطو إن الشعر دلالة على مجاراة الطبيعة وماكاتها فى عملية الإبداع الفكرى ورواية الأمر لاكما وقعت بل ورواية ما عليه أن يقع منها، الشعر شكل من أشكال المعرفة ألصق بالفلسفة من التاريخ فمادام التاريخ يروى أحداثاً وقعت فإن الشعر يروى أحداثاً يمكن أن تقع.

وهو كما يصفه كروتشه. حدس غنائى وإدراك خال من أى عنصر منطقى.

والشعر كهربة جميلة لا تعمر طويلاً تكون النفس خلالها بجميع عناصرها من عاطفة وخيال وذاكرة مسربلة بالموسيقى.

الشاعر مخلوق منحه الله القدرة على الرؤية والكشف والتعبير الجميل ليدل على منابع الجمال ويكون طاقة حية لها السطوة والسحر وعنصراً من عناصر الكون التي تعين على الحياة.

الشاعر معدن كالقمر ينير المسافات الغامضة في سدف الحياة كالعين التي يتدفق منها البللور ليغسل العتم والجفاف.

والشاعر كما يقول السيد حسن الشيرازي: شخصية خصبة متدفقة يأخذ من المجتمع ليمنحه أكثر مما يأخذ ويملك الحاسة السادسة التي تؤهله للإحساس بإحساس الغبر وله القاسم المشترك الذي يوزع الإحساس بين من يرى ومن يسمع وقد وهبه الله قدرة الإدراك حتى يلمح الخافي أو المبهم والبعيد و يقرأ أفكار الناس ويسمع خفقات الكون وأزيز الأحقاد ليعبر عن إرادة الحق والخير.

أما إيستمان فيعتبر أن الشاعر يسيء فهم نفسه إذا ظن أن مهمته الرئيسية هي اكتشاف المعرفة وإيصالها بل إن وظيفته الفعلية هي أن يجعلنا ندرك مانرى ونتخيل ماسبق أن عرفناه وما سنعرفه مستقبلاً.

ويقول الشاعر أكتافيو باث في هذا الصدد: إذا كان الفيلسوف بالمعنى العادي للكلمة هو المحلل الكيميائي بالمعنى الرياضي فإن الشاعر هو محلل الأسرار الخفية بالمعنى الرياضي، يكشف المجهول بدءاً من المعلوم وهو الكائن الذي يسمح له بنقل غير المحتمل وتطوير الشيء كما يجب أن يكون، أي أنه على الشعراء ألا يتغنوا بالوردة بل عليهم أن يجعلوها تتفتح في أشعارهم.

وكأنه بذلك يتفق مع الشاعر الكبير كولريدج الذي يقول في إحدى قصائده:

ماذا لو أخذتك سنة تشبه النوم
ماذا لو حلمت أنك ترقى في السماء؟
إلى مكان عال به جنة من الزهور
ماذا لو قطفت منها زهرة رائعة؟
ثم استيقظت من نومك في الصباح
لتجد الزهرة بين أصابعك

ولا يقتصر الأمر المطلوب من الشعراء على صدق ما يقولون اليوم ولا بالأمس، بل إن أيستمان يطالبهم بما سيعرفه الناس مستقبلاً وهو طلب مستحيل، وإن تجسد في موقف الشاعرة ليلى الأخيلية حينما وقفت على قبر حبيبها توبة وهي بهودجها المقام. على جمل وقالت لمن في القبر السلام عليك ياتوبة ولما لم يجبها أحد قالت: إنك لم تكذب في حياتك ياتوبة إلا حينما قلت:

ولو أن ليلى الأخيلية سلمت

علي في قبري ودوني صفائح

لسلمت تسليم البشاشة أوزقا

لها طائر من جانب القبر صائح

وكان أن فر طائر البوم من جنبات القبر فجفل الجمل وسقطت ليلى الأخيلية، من فوق هودجها على القبر لتلتحق بتوبة. وصدق على بيتيه القول:

وإن أصدق بيت أن قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا

وجاء فى تراتنا الشعبي أن أهل الغطغط- إحدى قرى نجد- أيام احتراب القبائل قاموا بقتل مجموعة من المصلين فى المسجد، ودعا عليهم الشاعر ساكر الخمشي بقوله:

الديره اللي حل به ذبح الأجواد

تحتمل ثماني سنين مايسيل وادي

ترخص بها السلعة ويغلى بها الزاد

وتنسى بها المرضع جنين الفؤادي

تحمل ثماني لسنين مايجيه رعاد

يسكر هواها ولايطير السماد

وبالفعل سلط الله عليها جيش الإخوان فأعملوا في أهلها السيف وعم بها الخراب والدمار ولم يسكنها أحد لمدة ثماني سنوات ولم يدر بها ضرع ولم ينبت فيها زرع وبذلك تحققت نبوءة الشاعر ودعوته.

 

سليمان الفليح