الرحبانية.. رحلة العشق والأنغام: الإصغاء إلى حفيف الزمن الرحباني

الرحبانية.. رحلة العشق والأنغام: الإصغاء إلى حفيف الزمن الرحباني

بعد عشر سنوات على غيابه يحار المرء إذا ما كان عاصي الرحباني كائنا عاديا من لحم ودم, أم أنه كأبطاله مصنوع من نسيج المخيلة, وعالمها الطيفي.

هذا الرجل الذي بدأ حياته شرطيا بسيطا في دولة ناشئة استطاع بسرعة فائقة أن ينقل الوطن من واقعية الكيان إلى أسطورة الفكرة. حتى إذا ترنح الكيان تحت ضربات الحرب وبؤس طوائفه المتناحرة تحول هو نفسه إلى أسطورة تجدد نفسها في أعمال أثبتت قدرتها على العيش خارج المكان والزمان اللذين شكلا حيزها وإطارها.

ربما اشترك عاصي الرحباني ومعه منصور بالطبع, مع سعيد عقل في تلك المحاولة التي هدفت إلى أسطرة الوطن وإخراجه من مجال الجغرافيا الضيقة إلى مجال المكان المطلق الذي يبحث عن تاريخه في نثار وقائع متباعدة أو ملتبسة أو غير موجودة في بعض الأحيان. لكن الطرفين لم يتقاطعا إلا في محطات ضئيلة أبرزها مسرحية "فخر الدين" حيث تمت المزاوجة بين الواقعي والمتخيل في إطار صياغة الحلم اللبناني الذي لايجد ما يسنده لكن "هدب" الرحبانيين لم يجار "مدى" سعيد عقل وتخيلاته التهويمية التي حاولت ترويض الواقع اللبناني وتطويع تاريخه لمستلزمات المشروع المتوخى عبر أحلام السيادة على العالم انطلاقا من شطارة فينيقية مدعومة بأبجدية قدموس وخشب الأرز وهندسة إقليدس, بعد "لبننته" بالطبع.

لقد حدث الانفصال بين سعيد عقل والرحبانيين في هذه المنطقة على الأرجح, ففي حين راح الأول يحمّل التاريخ اللبناني أكثر مما يحتمل تاركا إياه مكسور الظهر تحت وطأة المبالغات الدونكيشوتية المتوهمة أدرك الرحبانيان أن هناك فرقا بينا بين الحلم والتوهم وراحا يحفران لنفسهما مجرى مغايرا يعتمد على المزاوجة بين جزر البطولة المتناثرة هنا وهناك "فخر الدين, عامية انطلياس.." وبين بطولة غير متحققة وجدا مادتها في مثال بطولي من صنع الخيال. مثال يحمل في داخله دعوة مضمرة إلى الرفض والتمرد وصياغة قيم العدالة والخير والحرية من جديد "جبال الصوان, ناطورة المفاتيح, يعيش يعيش, هالة والملك..".

من المحلية إلى الإنسانية

في مناطق الاختلاط الأولى كان صوت فيروز موزعا بين نصوص سعيد عقل التي لم تكن قد انكفأت بالكامل إلى داخل الكيان, كما في قصائده عن مكة والشام, وبين نصوص الرحبانيين التي كانت تشي منذ البداية بانبثاقها من دائرة المحلية الضيقة نحو الدائرة الإنسانية الأوسع, برغم ما تحمله من نكهة الأرض وروائحها وتشكلاتها الطيفية. وحتى في أوج انحيازها للبطولة الفردية لم يقتنع الأخوان رحباني بأن الفرد وحده يغير التاريخ بل جعلا على ضفافه بشرا آخرين يعملون ولو في الظل على تهيئة المناخ الملائم لانتصار البطل الذي هو رمزهم وضميرهم وخط دفاعهم في مواجهة المحو والاضمحلال. هذا البطل الذي ينبغي وفق منظورهما أن يحقق شرطين لا يمكن الفصل بينهما هما: القوة والعدالة, فالقوة غير العادلة هي قوة الاستبداد الذي تستلزم إزالته ثورة دموية "جبال الصوان" أو ثورة سلبية غاندوية "نسبة إلى غاندي" تؤدي إلى مقاطعة المستبد وتركه وحيدا مع بيوت بلا رعية "ناطورة المفاتيح", والعدالة التي لا تسندها القوة هي عدالة ناقصة لا تؤدي لغير الإذعان واليأس لأن الإيمان بها يستلزم الدفاع عنها حتى النهاية وإلا أصبحت باطلا أو بحكم الباطل.

يتحرك الرحبانيان دائما داخل ثنائية مطلقة يقف فيها الخير في مواجهة الشر والأسود في مواجهة الأبيض, والجلاد في مواجهة الضحية, ضمن رؤية مانوية للواقع والأشياء, فنادرا ما انتقل الصراع إلى داخل الفرد نفسه باعتباره كتلة من المفارقات المتناقضة والمحيرة باستثناء "بثرا" التي تقف فيها الملكة موقفا شكسبيريا مأزقيا يتمثل في صراعها الداخلي بين الاحتفاظ بابنتها أو بانتصارها حيث تغلب الثاني على الأولى في نهاية المطاف. من ناحية أخرى يبدو الواقع الرحباني واقعا هاربا باستمرار, واقعا يفر من ثباته إلى ما هو خارج عنه. وذلك لا يعني الابتعاد عن الواقعية بل يعني قراءة مغايرة لها تختلف عن الأدبيات الأيديولوجية والمفاهيم النهائية للواقع, ثمة عنصر مهم يمثل دور البطولة الأولى في الفن الرحباني هو عنصر الزمن, ولعل الزمن يشكل المادة الأكثر جدلية في هذا الفن. فاللحظة الرحبانية لحظة مائية دائمة الجريان, وهي تحتاج إلى التحرك كيما تحيا. إنها تنتصر للنهر ضد المستنقع وللتحول ضد الثبات. لذلك فهي تهرب من نفسها إلى الوراء باتجاه الذاكرة وإلى الأمام باتجاه الحلم. والعودة ليست ردة إلى الماضي بحد ذاته بل سعي إلى طفولة العناصر والكائنات, إلى طزاجتها وبهائها. والحلم هو مستقبل اللحظة أو طفولتها الأخرى غير المتحققة.

طفولات لم تجف

"إن أصفى حب ذلك الذي خسرناه", يقول باشلاد, كما أن "أعذب نعيم ذلك الذي نتوقعه", يقول غويو. وبين هذين الحدين يتحرك الزمن الرحباني وليست الحياة بالتالي سوى رحلة عابرة بين الجنة المفقودة والجنة الموعودة في هذه المنطقة يتحرك صوت فيروز مختلقا طفولات لم يجف ماؤها بعد وساعيا وراء أزمنة تقع خلف تخوم الصمت, لكن هذا الجريان اللذيذ للزمن يحمل في داخله عناصر الانهدام الفردي ويفضي إلى ذبول الكائن الذي يفر من مستنقعه لكي يجد نفسه في مواجهة الشيخوخة والموت. مدركين هذه الحقيقة الفاجعة, يحاول الرحبانيان أن يعترضا الطريق الذي اختاراه بملء إرادتهما وأن يوقفا الزمن عند نقطة المراهقة أو الصبا الأول فلا يستطيعان: "تعا تانتخبا/ من درب الأعمار/ وإذا هني كبرو/ نحنا منبقى زغار/ ان سألونا وين كنتو/ ليش ما كبرتو إنتو/ منقللن نسينا/ واللي نادى الناس/ تايكبرو الناس/ راح ونسي ينادينا". في إطلالات كهذه تلمع في فضاء العالم الرحباني بروق معراة من كل انتماء مكاني. بروق يندمج فيها الشكل ومعناه وتصبح الأغنية تعويذة ضد خراب العالم وفساده. وفي مثل هذه اللحظات ينتبه الرحبانيان إلى أن الزمن الذي بعثا فيه روح الحركة والنمو قد بدأ ينحو إلى الزوال ويهرب من بين الأصابع, لذلك يحاولان أن يوقفاه قليلا ويسمّراه فوق ثلج الماضي حيث يحتفظ "شادي", طفل الأغنية الفيروزية, برنين ضحكاته البريئة قبل أن يغتاله الموت.

في مواجهة خراب الواقع وتمزق الوطن أشلاء متناثرة بنى الرحبانيان عالما حلميا موازيا يتعذر تهديمه, عالما مصوغا بعناية من قصاصات أخيلة تتواصل مع ينابيعها الخام وتتناول مادتها من عناصر الحياة المطمورة وسحرها الغامض. لم يكن النص الرحباني يتلقى أوامره من العقل المجرد أو الأيديولوجية الأسمنتية بل من حمى الأحاسيس والمشاعر والرؤى المتداخلة ومن معدن الحياة المصهور تحت لهب المعاناة. كما ظلت لغتهما المصفاة برغم الاشتغال المثقل عليها بمأمن من الهندسة البلاغية وسكونية الشكل المحض, كونها حُقنت بشغاف الحنين وحرائق المكابدة. وقد استطاعت بالتالي أن تفلت من المهارات اللفظية ذات الفضاء الرخامي التي بنى عليها سعيد عقل مملكته الشعرية.

انتصار للحرية

لقد انتصر عاصي ومنصور الرحباني للحرية لغة وتعبيرا, لذلك أقاما في المناطق الملتبسة بين شاعرية الصمت واحتفالية الإيقاعات والألوان حيث تستطيع كل حاسة أن تخلي مكانها للأخرى في عملية استبدال متواصلة. ولأنهما أقاما في المناطق العذراء المشبعة برياح الطفولة فقد شكلا الخلفية الوجدانية لا للبنانيين فحسب بل للعرب بأسرهم أينما كانوا وفوق أي أرض. لقد عملا في المكان الآمن والملفوح بنسيم الطمأنينة وحفيف اللحظات الغابرة, لذلك استعصى فنهما العظيم على التصنيفات الأيديولوجية والمذهبية والقبلية ولم تستطع الحرب أن تنال من صلابة ما صنعاه بالعرق والسهر والمكابدة. وبرغم أن كل فئة من الفئات المتحاربة في لبنان كانت تحاول أن تجير الفن الرحباني لمعتقداتها وأهدافها وأن تنسبه لنفسها, فإن هذا الفن استطاع أن يرتفع فوق مزق الحرب وأشلائها وأن يظل إحدى علامات التوحيد القليلة في لبنان الممزق.

عشر سنوات على غياب عاصي الرحباني. أما منصور شطره الآخر المقيم فوق التراب, فلايزال يبدع ويؤلف ويلحن بالنيابة عن الأخوين معا, ونحن المترنحين تحت ثقل الحروب والمجازر والآلام نستعين بهما لكي نقتفي عثرات الدروب. كأنهما مع صوت فيروز, الماء الذي يحرسنا من جفاف العالم ويرفع منسوب الرجاء في حيواتنا المطعونة باليأس.

 

شوقي بزيع

 
  




تؤدي التحية لجماهيرها





عاصي ومنصور شقيقان جمعهما الفن وفرقهما الموت