الرحبانية.. رحلة العشق والأنغام: الرحبانية.. كما شدت بهما فيروز

الرحبانية.. رحلة العشق والأنغام: الرحبانية.. كما شدت بهما فيروز

ثم ماذا عن الصوت الذي شدا باللحن وباح بالكلمات.. ماذا عن فيروز والعاطفة المتدفقة من حنجرتها?

فيروز حنجرتها كما اسمها حجر كريم صاف مصقول رنان يأخذ بالأسماع والأبصار إلى أفق الأحلام المديد, يدغدغ خيالاتنا ويسمو بأذواقنا ويلمس الهواجس منا, فيروز تحملنا مع صوتها المخملي إلى عالم السحر والجمال, إلى الأمسيات الصيفية الهادئة, إلى الغابات والأنهار والتلال, بصوتها الشجي المفرح, القوي الخفيت, الذي يفتح الأذهان على الإبداع لأنه يحقق أهم ما نحتاج إليه من سكون واستقرار نفسي وارتياح عقلي. فيروز هذه الأسطورة التي تولد كل صباح, ومع كل ترنيمة من صوتها الملائكي يستيقظ ورد الروح فينا لينبعث أريجه في جسدنا, فيسري دون استئذان إلى مكامن الفؤاد منا, يحثنا على المضي بيوم كله نشاط وحيوية, بروح مشبعة بالحب والهدوء, بفكر متأهب على المضي بيوم كله نشاط وحيوية, بروح مشبعة بالحب والهدوء, بفكر متأهب للإبداع والعطاء, بحس مرهف شفاف, وصدى صوتها العذب يتردد في اللاشعور من عقلنا ليبقى خالدا في النفس أبدا.

والغناء العربي لم تجتمع فيه أقطاب النجاح من صوت ولحن وأداء وإحساس كما اجتمعت في أغنيات فيروز, وحنين صوتها, ورقة كلماتها, وجمال مواويلها.

ولهذا كله تستحق أن نكتب عنها, وعن صوتها وعن.. وعن..

فهي تحملنا مع الأمل إلى الحب والصفاء والنقاء والألفة والأنس.. فما الصفات العاطفية التي يمكن ملاحظتها في ثنايا الأغنية الفيروزية العذبة?.

السمو : سمو العاطفة وشرفها يتعلقان بالموضوع والفكرة. فكلما كانت الموضوعات والأفكار سامية, كانت العاطفة سامية, ويا لكثرة ما تحقق من السمو في الأغنية الفيروزية:

يا الله تنام ريما يا الله يجيها النوم
يا الله تجيها العوافي كل يوم بيوم
يا الله تحب الصلاة يا الله تحب الصوم

أيوجد أسمى مما يلاحظ في هذه الكلمات من مشاعر..?

فما أسمى وأعذب هذا الدعاء, ففي النوم الاطمئنان, وفي العافية السلامة من الأمراض والخطوب.

وتسمو هذه المشاعر أكثر عندما نشعر أنها موجهة للطفل من أعطف وأحنى مخلوق, ومن أدفأ صدر, من الأم.

الصدق : يتجلى الصدق العاطفي بصدق الإحساس, وصدق التعبير عنه ونستدل على ذلك بالنفاذ من الحروف إلى أعماق مدلولاتها النقية الصاحية الساعية في الوجدان والبحث عن صدق العاطفة, يتطلب مجهودا من الباحث, ويعتبر من العمليات النقدية والجمالية الصعبة والممتعة في الوقت نفسه.. فإلى أي حد وصل مقياس الصدق في أغنية فيروز..?

حاجة تعاتبني يئست من العتاب
ومن كتر ما حملتني هالجسم داب
حاجة تعاتبني وإذا بدك تروح
روح وأنا قلبي تعود عالعذاب

الإحساس الصادق باللوعة, وبالمعاناة يظهر واضحا في هذه الكلمات المعبرة بكميتها القليلة عن مدلولات كبيرة نابعة من الوجدان لأن الحب والعتاب والعذاب أمور وجدانية عميقة تتصف بالصدق, ووصلت هنا إلى حد الاستسلام.

وبتصوري أن هذا أفضل ما يعبر عن الصدق وحالاته.

القوة : إن قوة العاطفة تقاس بمقدار تأثيرها في النفوس, فما مدى تأثير الأغنية الفيروزية في نفوس مستمعيها الكثر??, وهل هنالك قوة تأسر العاطفة وتحرك كل ما في السامع من مشاعر أكثر من كلمات فيروز هذه??

لما بغني اسمك. بشوف صوتي غلي
إيدي صارت غيمة وجبيني علي
الشمس بتطلع سودة, وبيبس الموج
إذا بفكر إنو ترابك مش إلي

العمق : يتلازم مقياس العمق في العاطفة تماما مع قوتها, ويرتبط معه حتى كأن العمق في العاطفة شجرة عروقها في أحشاء التراب, وكذلك العاطفة القوية تستغرق صاحبها في أعماقه وأعاليه, وبهذا يمكن اعتبار نفس الأغنية شاهدا على العمق العاطفي وعندما نتقصى العدد الكبير لأغنيات السيدة فيروز نجد أمثلة عدة على ذلك:

من عز النوم بتسرقني
بهرب لبعيد بتسبقني
يا حبي صرت بآخر أرض
عم أمشي وتمشي في الأرض
لوينك بعدك لاحقني

إننا نشعر ونحن نقرأ أو نسمع هذه الكلمات على حد سواء بعمق ما فيها من صدق حيث إنها نابعة من الصميم.

التنوع : التنوع بكل شيء جميل ومحبب حيث يجعلنا أمام عدة خيارات ويبعدنا عن الرتابة, ومن أعذب وأرق تنوع المشاعر, إن تنوع المشاعر العاطفية له دور أساسي في بناء العمل الفني الذي هو وحدة متنوعة, والنقاد العرب اعتبروا تنوع الأغراض في العمل الأدبي والفني دليلا على تنوع العواطف, وذلك لأن لكل غرض منبعه الذي يتدفق منه, وفحول الشعراء العرب هم من تنوعت عواطفهم.

ولنلحظ هذا التنوع في الأغنية الفيروزية:

حيدوا الحلوين قالوا ميت مسا
قلنا شو هالغيبة الطويلة والأسى
يا هوى الأيام كن رح تنسى
خلي الوفا بها الكون يفدي عالسفر

يا لجمال ما شدت به فيروز, وكم تنوعت المشاعر في هذه الكلمات الرقيقة وتعددت..?? فهي تنقلنا مع هذه الألفاظ السحرية بصوتها الملائكي المفعم بالإحساس والحنان, من السلام إلى العتاب إلى الأسى إلى التعجب, وفي النهاية ما نفع الوفاء إذا لم يبق حب..?

الاستمرار : من يبحث عن قوة العاطفة ويريد لها الاستمرار في جميع أجزاء العمل الفني يكن عظيما. نستنتج من هذا الكلام ضرورة أن تكون قوة العاطفة موفورة بالنسبة لكل غرض على حدة, والاستمرار في المشاعر العاطفية نجده في جميع الأغنيات الفيروزية لأن الأداء العالمي الذي تؤديه في أغنيتها قد تعاون مع الكلام واللحن والصوت وخلق عملا فنيا متكاملا ومنسجما ومستمرا من أول كلمة في الأغنية حتى نهايتها, فمن كان لديه إحساس بالجمال لابد أن يستسلم للمشاعر وللأحاسيس الجميلة التي تبعثها فيه الأغنية.

فيحس أنه يطير إلى عالم الأحلام الجميلة وتنتفي عنه الهموم والمتاعب النفسية وكما قلنا: إن الصوت الفيروزي هو الراحة النفسية.

خليك حدي تايروق الجو ورندح وسمعني
ولما بيطلع يا راعي الضو تبقى تودعني
وقفت قلبي عالدرب ناطور تفات ألف نهار
وغابت الشمس وزقزق العصفور
وما إجت جلنار

يظهر الاستمرار في كل كلمة بوضوح فمن صفاء الجو إلى شروق الشمس, ومن الترنم إلى الوداع إلى الانتظار إلى خيبة الأمل, تسلسل منطقي في النتائج إلى نتيجة طبيعية معقولة.

وحدة النسيج : تحافظ قوة العاطفة على وحدة النسيج, فإذا كانت العاطفة قوية كان النسيج الفني قويا وإن كانت ضعيفة جاء النسيج ضعيفا. يتوافر للنسيج الفني في الأغنية الفيروزية مستوى عال من التعبير, وسوية عالية من الإحساس, فنهاية الأغنية نتيجة لبدايتها:

تسأل إذا بهواك..
هالقلب مين الـ دوبوا
مين الـ ضناه وعذبوا
ودول على الغصات
ما دريت بالليالي البكى
وما سمعت شو صفوا حكي
وشو ألفوا حكايات.....

في النهاية نقول: إن الأغنية الفيروزية المؤثرة والمستساغة على آذان الكبار والصغار والكهول استطاعت أن تحافظ على سويتها المميزة منذ انطلاقتها وحتى الآن, ومازالت تقدم الكثير وقد جسدت أساسا جديدا للإبداع الغنائي وأثبتت مقدرة عالية على الأداء الفني الصادق الموحي والممتع بكافة مجالاته.

(بصوت فيروز نكتشف الجديد دائما), هذا قول مأثور للشاعر محمود درويش.. ويبقى أن نسمع ونستمتع بسحر أغاني فيروز وألحانها الشجية ونتحسس العاطفة الكامنة فيها أفضل بكثير من أن نكتب أو نقرأ عنها بكلمات جامدة.

 

فاتنة الحرفوش