دهشة الفن في سجاجيد الرخام الإسلامية

دهشة الفن في سجاجيد الرخام الإسلامية

تجشم المستشرقون عناء البحث في تأصيل مفردات الفنودن الإسلامية وطرزها والعمل على عقد مقارنات بينها وبين فنون الحضارات السابقة على ظهورالإسلام وجاءت المحصلة النهائية لأبحاثهم على شكل نظرية - حازت إجماعهم - مفادها أن العرب قبل ظهورالإسلام أمة من البدو لايشتم للتمدين رائحة في ديارهم، وأن اختلاطهم بالأمم ذات التقاليد الفنية - إبان الفتوحات الإسلامية - أنتج فنا مقتبسا تم "تلفيقه" من فنون شتى وأطلق عليه "الفن الإسلامي".

وما بين مطرقة البداوة وسندان الاقتباس غمط المستشرقون، الفن والفنان المسلم حقه، مما دعا المنافحين عن فنون الإسلام إلى الدفاع عنه بمنهجين، أولهما: إثبات الأدلة وإيراد الأمثلة علي انتشار نشاط فني وصناعي بين عرب ماقبل الإسلام يعول عليه كمصدر أصيل لفنون الإسلام، وثانيهما: إبراز الفنون الإسلامية خالصة الأصالة للدلالة على نفي الاقتباس والتلفيق الكاملين.

وفي تقديرنا أن درء شبهة الاقتباس والتلفيق عن الفنان والفن الإسلامي تقتضي مواجهة المقولة الإستشراقية مواجهة صريحة مباشرة لنقضها، وهو ما يتطلب تتبعا تاريخيا فنيا للأنشطة الفنية مظنة الشبهة.

ولعل صنعة رصف أو "تبليط" الأرض بالرخام وزخرفته تعد من أبرز الفنون الزخرفية المعمارية التي هي من مظان الشبهة نظرا لمكان وظروف نشأة هذا الفن، وجهل العرب به قبل الإسلام ثم ذيوعه في الفن الإسلامي، وقد اتخذنا من عمائر القاهرة الإسلامية شواهد للموضوع.

نسب مؤرخو الفنون للرومان ابتكار صنعة رصف الأرضيات بالرخام وفن زخرفتها بالأشكال الهندسية والموضوعات التصويرية.

والحق أن صنعة رصف الأرضيات بالمواد الصلبة المصقولة، قد نشأت على يد المصري القديم، وإن لم يستخدم خامة الرخام في صناعتها، إلا أننا عثرنا على الرخام مستخدماً في فنون مصرية قديمة أخرى منها: تمثال رخامي صغير بمتحف برلين لمؤسس الأسرة الفرعونية الأولى "نعرمر".

وبرغم أن الأسلوب الصناعي "رصف الأرضيات" والخامة الفنية "الرخام" قد سبق الفراعنة فيهما الرومان فإننا لانستطيع سلب الرومان سهم التطوير في فن صناعة وزخرفة الأرضيات، حيث أبرز الفنان الروماني الخامة الفنية والأسلوب الصناعي في استخدام جديد، ونظم أرضياته الرخامية بالزخارف الهندسية أحيانا، وبالتصاوير الدينية كثيرا.

فتح المسلمون بلدانا خضعت ردحا من الزمن للرومان، فقابلوا فنونا لا م يرتدوها من قبل وكان فن صناعة وزخرفة الأرضيات من ضمنها، فهل اقتصر دور الفنان المسلم على الاقتباس والنقل أم تعداه إلى الإضافة والتطوير بما ابتكر من أساليب صناعية وعناصر زخرفية لم تظهرمن قبل؟

يعود لعصر الأمويين باكورة الاستخدام الفني الإسلامي للأرضيات الرخامية، حيث ظهرت في الجامع الأموي بدمشق "88 - 96هـ/ 707 - 715م" أرضيات رخامية قسمت الألواح فيها إلى أرباع، ورصفت بحسب تكملة العروق "اللونية"، كما ظهرت في بعض غرف "قصير عمرة" بالأردن، حيث رصفت الأرضية بألواح رخامية سمكها "3 سم " وظهرت أيضا في عدد آخر من قصور بني أمية.

وساد الاستخدام ذاته في عصر العباسيين في كل أنحاء الدولة الإلامية، وفي مصر ظهرت الأرضيات الرخامية في قصور الطولونيين ومساجدهم، ففرشت على سبيل المثال أرضية نافورة "فوارة" جامع بن طولون "263 - 265 هـ/ 876 - 879م" بالرخام وقد احترقت في سنة 376 هـ- 986م.

وتوسع الفاطميون في استخدام الرخام في أرضيات قصورهم، ومع نهايات عامر الأيوبيين وبدايات عصر المماليك، بدأت تبرز طفرة في أساليب الصناعة وعناصر الزخرفة، أبرزتها خبرات نضجت في القرون الخمسة الماضية، وظهرت أرضيات الرخام في ثوب جديد، تضاهي فيه بتعدد ألوانها ودقة زخرفها، أروع قطع السجاد المنسوج مما سارع بذيوعها ذيوعا لايكاد يخلو بسببه أثر معماري مملوكي أو عثماني من أرضية رخامية.

طرق الصناعة

كان يتم استجلاب قطع الرخام من محاجره إلى مصانع المرخمين أو إلى المنشأة المراد تبليطها بواسطة الطريقة العجالي أو عن طريق المراكب (ولقد أثبت الجبرتي في حديثه عن أرضيات منزل محمد بك الألفي المرادي بالأزبكية هذه الطريقة ذاكرا أن الرخام جلب من طرة بالمراكب "النيلية")، فيقوم المرخم بنشر الألواح بالمناشير الكبار، ئم يتعهد كل قطعة بالصقل والتهذيب، بحسب الحجم والسمك المطلوبين، وتكون المرحلة الثانية رسما لزخارف الأرضية المراد ننفيذها بالرخام بواسطة خيوط تضرب "تشد" بين مسامير مدقوقة في الأرض، بحيث تحدد بدقة ارتفاع وحجم قطع الرخام وأشكالها الزخرفية وقد أطلق الصانع المسلم على طريقته هذه اسم صنعه ضرب الخيط الصغير"، بالنسبة للأرضيات الرخامية ذات الزخارف شديدة الدقة، و"ضرب خيط كبير" على الأرضيات المرصوفة با لألواح الرخامية الكبيرة، عى أن اختيار نوعية الخيط المضروب الم تأت اعتباطا، بل كانت تخضع لطبيعة المكان المراد تبليطه، إذ لاحظ الفنان المسلم أن الأماكن المكشوفة مثل أفنية الجوامع والمدارس وغيرها لايصلع لها إلا ضرب الخيط الكبير لتقيل اللحمات بين الرخام حتى لاتنفر قطعه بتأثير الحرارة والماء عن بعضها، بعكس الأماكن المغلقة التي لجأ فيها إلى ضرب الخيط الصغير والإكثار من الزخرفة الرخامية الدقيقة. وكان يتم تثبيت قطع الرخام بمونة من جبس قوي الشك، بينما كانت حواف قطع الرخام المضروبة خيطا صغيرا تطلى بمادة صمغية إمعانا في تثبيتها.

وهذا التطوير في الأسلوب الصناعي واكبه تطوير وابتكارات زخرفية عديدة أضحت به الأرضيات أشبه بلو حات فنية زخرفية حافلة بأدق وأعقد التكوينات الهندسية. وعنصر الزخرفة الهندسية من أبرز عناصر الفن الإسلامي، حيث وجه الفنان المسلم جل اهتمامه إلى إيجاد تكوينات هندسية مبتكرة، بخلاف الفنان الروماني الذي تنم تصميماته الهندسية عن فقر في الخيال، لذا فقد كانت محدودة غير متنوعة، وهي حقيقة تجليها فنونهم، وصرح بها المستشرق كريزول، أضف إلى هذا أن اختيار الفنان المسلم لعنصر الزخرفة الهندسية "بالذات" لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة تجربة وخبرة ولدت إدراكا وفهما لطبيعة الخامة الفنية، والحق أنه كان موفقا جدا، إذ إن التكوينات الهندسية هي الأنسب للرخام، وهي حقيقة تؤكدها بشدة تلك الملامح الجامدة للتصاوير الآدمية الدينية الرخامية للفنان الروماني، فضلا عن أن طبيعة التصوير الديني "والتصوير الديني لا وجود لة في فنون الإسلام"، لم تسمح للفنان الروماني بأي محاولة للابتكار، إذ إن الفنان ملزم بشروح وقواعد دينية لايمكن مخالفتها إطلاقا، ولعل تصفح بعض كتب المؤرخين للوقوف على مدى ذيوع هذا الفن الزخرفي المعحاري في عصرهم ثم استعراض نماذج باقية له يجلي حقيقة الأرضيات الرخامية.

مرحلة الانتشار

ولقد أسهمت هذه الطفرات الزخرفية والصناعية "مع ندرة الرخام" في ذيوع فرش الأرضيات بالرخام الملون وهو ما تؤكده كتابات المؤرخين.، القدامى، وما سجلته الوثاثق الأثرية.

وقد سجل قلم المؤرخ ابن إياس الحنفي المصري، سقطات لبعض السلاطين المماليك ارتبطت في كثير منها بالتهافت على استخدام الرخام تهافتا شائنا، فيذكر أن السلطان المؤيد شيخ كان رجاله يكبسون "يهجمون" على البيوت للحصول على الرخام قهرا ليتمم عمارتة، وقد أوجعة ابن إياس ببيتين من الشعر على ذلك.

كما أثبت ابن إياس ذات المسلك على الغوري، إذ إنه أمر بفك رخام قاعة "نصف الدنيا" ليجدد بعض على أنه لم يلبث أن امتدح في الغوري همته في إنشاء مدرسته الشامخة بالغورية "909- 910 هـ/ 1504 - 1505م" ويخص ابن إياس رخام المدرسة بثلاثة أبيات قال فيها:

بنى بمصر لله بيتا

رخامه قائم ونائم

فجاء في حسنه فريد

من كل عيب يقال سالم

فليس يبنى له نظير

في سائر المدن والأقاليم

على أن الوثائق التاريحبة تجلي لنا مقدار الاهتمام بأرضيات الرخام أكثر من ذلك، فنقرأ على سبيل المثال في وثيقة للأمير محمد كتخدا ابن عبدالله "وهي وثيقة إنشاء ووقف من عشر العثمانيين" وصفا للمنشأة يحرص فيه الواقف على إثبات رخام الأرضيات جنبا إلى جنب مع باقي عناصر المنشأة، بل ويستخدم كلمة موحية بما استقر في نظر الرائي لرخام الأرضيات حيث تقول الوثيقة: "مقعد معروش مطل على الحوش مفروشة "لاحظ كلمة مفروش" درقاعة المقعد المذكور بالرخام".

ولعل الوصف والتتبع التاريخي الفني لصنعة الأرضيات الرخامية وزخرفتها كفيل بأن يعطينا الثقة في أن نصف تلك الأرضيات الرخامية الإسلامية بأنها سجاجيد وهو ما يؤكده تقديم النماذج التالية.

سجاجيد مدهشة

من أروع نماذج السجاجيد الرخامية تلك السجادة الرخامية المفروشة بصحن مدرسة الأمير المملوكي مثقال من سنة "763 هـ/ 1361 - 1362م"، إذ يشغل كامل صحن المدرسة سجادة مساحتها تقريبا 6×6 أمتار يحتل مركزها دائرة "مدورة بلغة أهل، الصنعة" رخامية حمراء يحصرها معين بالرخام الأزرق ثم مربع بالأحمر الأبيض، وعلى جوانب السجادة أشكال زخرفية مربعة تحصر مدورات وأشكالا مستطيلة تحر كرندارنات "الكرنداز هو عبارة عن شكل زخرفي مجدول" وقد تخللت الزخارف السابقة قطع الرخام الأبيض كأرضية لزخارف السجادة.

وتحفل مدرسة السلطان المملوكي برقوق "من سنة" 1386 م/788هـ" بسجاجيد الرخام متعدد الألوان والزخارف، فنري في إيوان القبلة صفوفا متوازية من سجاجيد عريضة رخامية تمتد من الجدار إلى الجدار المقابل، وتتكون كل سجادة من مجموعة من السجاجيد الصغيرة بحيث تكفي كل واحدة منها مصليا واحدا، والسجادة عبارة عن زخرفة تمتل عمودين من رخام أسود يحملان عقدا بأسفله، شكل نافذة معقودة مشغولة بنجوم الرخام الملون، بينما نرى سجادة أخرى في مدخل القبة تقارب شي زخرفها سجادة مدرسة مثقال.

وفي مدخل مجمع الغوري بالغورية " 909/ 910 هـ - 15.4/ 1505م" تقابلنا سجادة رخامية مفروشة في أرضية المدخل "رخام نائم بحسب تعبير ابن إياس" مركزها، مدورة بزخارف دالية "زجزاجية" تحيط بها مجموعة من المدورات المترابطة متنوعة الألوان.

ويحتفظ منزل آمنة بنت سالم بطولون من سنة "1540م/945هـ" بنموذج رائع للسجاجيد الرخامية العثمانية، إذ تشغل نافورة ضخمة مركز القاعة ويحصر أجنابها مجموعة من السجاد المستطيل والمربع، ويبرز من مركز النافورة "النوفرة الكبرى" ليتدفق منها الماء، بينما فرشت أرضيتها بدوائر الرخام شديد الدقة "ضرب خيط صغير" بقطع من انرخام الأصفر والأحمر والأزرق والأبيض والأسود، بينما يبرز من على حافة الحوض "نوفرات صغيرة" أخرى لزيادة دفق المياه. ويحيط بالنافورة أربع سجاجيد متقابلة مربعة ومستطيلة، المستطيلة منها زخرفت بالأشكال المتعدده للطبق النجمي، وتتميز بالدقة المتناهية في التنفيذ مع حسن انتقاء الألوان، بينما زخرفت السجاجيد المربعة بزخارف الدرالات والمعينات و المربعات.

ويحتفظ منزل جمال الدين الذهي كبير تجار مصر بنموذج لسجادة رخامية عثمانية من سنة "1637م/ 1047هـ" تتميز بالضخامة مع انتقاء الألوان الزاهية، وتتكون السجادة ومن مدورة كبرى تحصر مجموعة من المدورات بداخلها باللونين الأحمر والأ صفر، ويحصر مربع هندسي مجموعة الدوائر السابقة كلها، وعلى الأطراف مجموعة من السجاجيد المستطلية والمربعة ذات الزخارف الهندسية الرائعة.

بينما انتقى الذهبي لسبيله الملحق بوكالته من سنة "1637م/ 1047هـ" سجادة رخامية مزخرفة بالطبق النجمي فرشت في أرضية حجرة السبيل، ونظم الطبق النجمي بالرخام الأبيض الذي تخللته قطع الرخام الأسود الحالك كأرضية له.

ولعل هذا العرض التاريخي الفني يجلي لنا مانالته الأرضيات الرخامية على يد الفنان المسلم من تطوير وإضافة تجعل صلتها بالأرضيات الرومانية تماثل صلة الأخيرة بأرضيات المصري القديم الحجرية المصقولة.

 

هشام عبدالعظيم