بين الانفعال الدرامي والغناء موتاً المسرح والأوبرا .. عالمان لايلتقيان

بين الانفعال الدرامي والغناء موتاً المسرح والأوبرا .. عالمان لايلتقيان
        

          بين العرض المسرحي الدرامي والعرض الموسيقي الأوبرالي علاقة انتماء شرعي بقدر ما بينهما من اختلافات في مادة العرض، ونوعية المؤدين وأسلوب الأداء ونوعية المشاهدين وميكانيزمات التلقي. فبينما تنتمي «مادة العرض» أو النص الدرامي إلى جنس أدبي دون شك... حتى بعد انتقالها إلى حزمة «العرض المسرحي المرئي» أو مجموعة عناصره المكونة والمجسدة له بصريا وسمعيا معا، والتي مع أهميتها لعملية التجسد الحي - في العرض - ينبغي أن تظل محتفظة للنص الأدبي بكونه حجر الأساس على الأقل في العروض المسرحية التقليدية أو المنتمية لمسرح الكلمة!

          في حين ينتمي العمل المسرحي الأوبرالي إلى فن الموسيقى في الدرجة الأولى - ويحكم عليه وفق مستواها أولاً - على الرغم من وجود عناصر العرض المسرحي ذاتها وأهميتها في تحقيق متعة المشاهدة التي هي أساس العرض المرئي. لأن الاكتفاء بالاستماع إلى الأوبرا مؤداة فقط - أي مغناة ومعزوفة دون دمجها ونسجها في مركب العرض المرئي والمسموع معا - ممكن ويفوق في متعته مجرد الاكتفاء بالاستماع إلى العمل المسرحي - في تسجيل صوتي دون مشاهدته. حيث تعتبر «الأذن» أو حاسة السمع هي الوسيط التاريخي الأصلي الأول في عملية تلقي الموسيقى قبل أن يعرف فن الأوبرا وعروضه المسموعة المرئية بأزمنة كثيرة. وفيما يمكن قراءة النص المسرحي «مباشرة» والاستمتاع به دون وجود الممثل/ الوسيط، يتعذر ذلك في الموسيقى المكتوبة لضرورة وجود الوسيط - المقابل للممثل - والذي هو العازف، ومن دونه تصبح عملية التلقي ناقصة ومتعته غير مكتملة، حتى بالنسبة لأولئك الذين يستطيعون قراءة النوتة الموسيقية وحل رموزها وشفراتها إذا ما كنا بصدد مؤلف موسيقي لمجموعة آلات وعلى أي شكل من أشكال التأليف، سيمفونية كانت أم كونشيرتو أم غير ذلك من الصيغ والقوالب العالمية المعروفة!

الإنصات الذهني!

          وهكذا تمثل صعوبة التلقي المباشر للموسيقى من النوتة دون عزفها والإنصات إلى جميع الأصوات والآلات معا في الوقت نفسه «إنصاتاً قبلياً أو ذهنياً» - بمعنى تمثل أصواتها ونغماتها وموازين أدائها وإيقاعاتها قبل عزفها ومن دونه - ضربا من استحالة تحقق المتعة الفنية أي متعة التلقي الكامل للعمل الموسيقي. في حين يصبح بإمكان أي شخص يستطيع القراءة - أو حتى السمع والإنصات - أن يحقق الاستمتاع الأدبي الدرامي بقراءة النص الدرامي وحده، أي في حالته «الأدبية» الأولى شأنه بقية أصناف الجنس الأدبي شعراً كانت أم سرداً روائيا مهما كان حجمه. بينما يتشارك كلا «العرضين» الموسيقي والمسرحي في إمكان الاكتفاء بالإنصات إليهما، أي التلقي بحاسة السمع دون مشاهدة العرض الحي وبواسطة الأذن وحدها - على الرغم من عدم اكتمال المتعة - كما في مباريات الكرة المذاعة على سبيل المثال!

          أما عن «المؤدين».. ونعني بهم الممثلين في العرض المسرحي.. والمغنين في العرض الأوبرالي، فإن الاختلاف بينهما واضح والمسافة بين فنيهما شاسعة بلا شك. فبينما ينهض فن الممثل على موهبة الأداء اللغوي، يتأسس فن المغني على موهبة الغناء وعلى درجة تميز حاسته أو أذنه الموسيقية Absolute Pitch.. والتي لا يمكن اعتبار توافرها شرطا ملزما للممثل وإنما شرط للتميز فحسب. إذ إن كثيرا من الممثلين لا يتمتعون بأذن موسيقية، في حين يصبح توافرها شرطا أساسيا لدى القلة الموهوبة منهم بامتياز! فإذا كنا بصدد الإحساس أو ما يسمى بالعاطفة الوجدانية أو الانفعالية، تحتم ضرورة تحقق قدر مهم من الحساسية الانفعالية لدى كل من الممثل والمغني الأوبرالي بالتحديد. ذلك لأن الأخير هو ممثل أيضا.. ممثل يعيش الدور وينفعل به ويؤديه وإنما «غناء». وإن كان في ذلك «الأداء الغنائي» تكمن إشكالية مهمة تتعلق بالتقمص، تقمص المغني للدور أو الشخصية التي يعيشها وتجسيده لها «غناء»!

الغناء موتا

          فمن المتفق عليه أن كلا من الممثل والمغني إنما «يعيش الدور» بدخوله في جلد الشخصية، وحيث لا يجد الممثل الموهوب عسراً في تلك العملية حين ينطق كما يفترض أن تنطق ويخرج ألفاظه طبيعية بما يتفق مع الموقف ومشاعره وأحاسيسه المصاحبة له أوالناتجة عنه، في حين أن مغني الأوبرا - على الرغم من ضرورية التزامه بالصدق الفني - عليه أن يعيش حالة صعبة إن لم تكن متناقضة أو متعاكسة في الوقت نفسه حين يتعين عليه أن «يغني» بينما هو يموت.. وأن يخرج صوته رائعا جميلا بينما هو ينزف!.. وهو ما يتعين على من تغني دور «ديدمونة» مثلا أن تفعله بينما طعنة عطيل غائصة في صدرها. بل وأن ينتج هذا الصدر الممزق صوتا أوبراليا واضحا مجلجلا! وكذلك يفعل عطيل نفسه.. أو أن ينساب صوت «جولييت» ساحراً أخاذاً بينما هي قد تجرعت المخدر، ثم يتدفق صوت حبيبها روميو بالقوة نفسها وهو ينزف دماً بعد أن وضع حداً لحياته!

          علاوة على التقيد بانضباط إيقاعي ولحني كامل ليس لهما منه فكاكاً، والذي تتحكم فيه «عصا المايسترو.. وهو ما من شأنه - لو تأملناه مليا - أو يعوق الاندماج ويقف حائلا بين «المؤدي/ المغني/ المتقمص وبين اكتمال دخوله في دوره والاندماج فيه! فيما يملك الممثل/ المؤدي/ المتقمص - على العكس منه - حرية ليس لها حدود في الإحساس بنفسه «في الدور» دون رقيب أو مراقبة ودون إطار زمني يمثل له سجنا لو تحقق، بينما يمثل للغناء الأوبرالي وللعزف على الآلات الموسيقية ولأي نوع من أنواع الغناء خطوطاً لحنية وإشارات ومساحات إيقاعية تعرض العمل للتدمير الكامل لو حدث أي إخلال بها.

          الغناء «التمثيلي» الصادق المعبر للأوبرا إذاً عملية ليست سهلة كما قد يتوهم البعض لأنه لا يقتصر على مجرد جمال الصوت أو قوته وحدها، لأن على الفنان الأوبرالي أن يجمع في اقتدار بين وظيفة الممثل وموهبته وأدواته - كالقدرة على النطق الصحيح وتوافرالخبرة والثقافة والذاكرة الانفعالية والصدق الفني - وبين حلاوة الصوت وجماله وقدرته على التعبير غناء وتمثيلا في الوقت نفسه.. وحيث يمكن القول إن «مغني الأوبرا هو صاحب صوت جميل وممثل أيضا.. بينما الممثل هو صاحب قدرة تمثيلية يرفع من شأنها يكون صاحب صوت جميل كذلك». كما يتطلب التمثيل للأوبرا المهارات الحركية والرشاقة نفسها التي يتطلبها فن الممثل. ومن هنا جرى ذلك التمييز المهم - الذي لا تأخذ به معاهدنا العربية في تعليمها لفن الغناء الغربي - وهو ضرورة الفصل والتقسيم والتمييز بين طلاب يدرسون فنون الغناء الغربي المعروفة في اللغة الألمانية باسم «الليد Lead» أي أغنيات ومفردها Lead. وبين الغناء الديني المعروف باسم Oratorio - Oratorium. اللذين يؤديهما المغني أو المغنية وقوفا إلى جوار الآلة الموسيقية أو مجموعة الآلات ولا يتطلبان في أدائهما رشاقة أو مهارات حركية خاصة منهما، كما لا يتطلبان «عرضا مسرحيا بالأزياء ولا خطة حركة مسرحية يلتزم بها كل الممثلين في المسرح والمغنين في العرض الأوبرالي.

          أما بخصوص المشاهد، فإنه يظل من حقه أن يطرح ودائما هذا التساؤل التاريخي عن مدى الصدق في الأداء لممثلة تقوم بدور «ديدمونة» وهي تختنق بين يدي عطيل, فما هي مجبرة على أن يخرج صوتها - وهي تموت ومن خلال حنجرتها المهمشة نقيا مجلجلا واضحا كما يليق بأداء طبقتها السوبرانو ليريك أو الغنائي! وينطبق ذلك تماما على مغني/ مؤدي دور عطيل الذي يجب أن يخرج صوته حاداً صداحاً كما يليق بصاحب صوت «تينور» حقيقي وبحسب تصنيفه داخل إطار هذه الطبقة الصوتية.

الطبيعة والمبالغة

          في الأوبرا إذاً يحكم على جمال الصوت وموسيقيته وقوته وعلى مدى صدقه وتأثره وصدق انفعاله كمغني أو كمغنية، وفي المسرح كذلك يحكم على قوته ووضوحه وتحميله بالانفعالات المطلوبة لصاحبه «كممثل» وكممثلة.. والفارق بين ذلك كبير وواضح دون أدنى شك، كما أن طريقة الأداء أو النطق في المسرح هي طريقة طبيعية تماما حيث تخرج الحروف معتدلة على كامل هيئتها ومخارجها الأصلية مهما تتطلب فن الإلقاء أو التمثيل من تغييرات في النطق يحتاج إليها متطلبات الوقوف والتركيز، مثلما توصل إليها الحالات النفسية ومقتضيات المحاكاة أو الرغبة في التقليد الجاد أو الساخر. وهي احتياجات يتطلبها الأداء الأوبرالي أيضا باعتباره «فنا تمثيليا» هو الآخر لكنه فن تمثيل «غنائي» في الدرجة الأولى.. وهذا الفن يسمح بتغيير طرائق النطق المعتادة ليكسب الكلمات نوعا غير مألوف من «المط والمد والتطويل» يهدد بتعرضها لفقدان المعنى حينما تتغير «صيغها» الصوتية أو قوالب أدائها النغمي المتعارف عليها حتى لتكاد تصبح «لغة أخرى» ولذا ظهرت الحاجة إلى كتابة النص - حديثا - على شريط ضوئي/ ديجيتال يتيح للمشاهد الفهم والمتابعة ولكن مع بقاء القاعدة الأصلية في الاستمتاع بالعمل الأوبرالي قائمة مؤداها أن نستمع بصوت المغنين في الأوبرا باعتبارهم «آلات موسيقية بشرية» داخل الأوركسترا!

          ولهذا السبب أيضا درجت دور الأوبرا على توزيع «ملخص» بأحداث العرض تعويضا عن «افتقاد النص» المغني للوضوح اللغوي الصوتي كما هو متوافر في عروض المسرح!

          أما عن نوعية المشاهدين أو جمهورهم، فمما لا شك فيه أن لمرتادي الأوبرا وعشاقها خصوصية لا يمتلكها المسرح الدرامي. حيث يتطلب الاستماع إلى الأوبرا - حتى في دولها الأوربية المنتجة تاريخيا لها - دراية خاصة ودربة على الإنصات مع ثقافة سمعية وموسيقية لا يمكن الزعم بتوافرها للجميع أو لعامة المتفرجين. ولهذا السبب بقيت الأوبرا فنا خاصا وللخاصة أيضا، مثلما لاتزال الهوة تتسع بينها وبين جمهورها كذلك.

 

 

نسرين رشدي   





أنتوني كوين





بافاروتي





ماريا كلاس أسطورة الأوبرا الإيطالية





الممثلة العالمية صوفيا لورين





ريتشارد بيرتون في فيلم كليوباترا





لورانس أوليفيه في دور هاملت