موسوعة أنجزها المركز الإسلامي في اسطنبول.. إبراهيم فرغلي

موسوعة أنجزها المركز الإسلامي في اسطنبول.. إبراهيم فرغلي
        

القدس العثمانية.. بعدسات المصورين

          بينما كنا نتجول مع الدكتور خالد إيرين، في ربوع مبنى «مخزن زفيرة» الرائع للسلطان عبد الحميد الثاني في قصر يلديز التاريخي، في قلب مدينة أسطنبول، كنت أحاول أن أنسق توازن حواسي، بين تأمل المعمار الجميل للقصر التاريخي الذي يحوي بين جوانبه مبنى المركز الإسلامي لبحوث التاريخ والفن والثقافة، والإنصات إلى شرح الدكتور خالد إيرين، مدير عام المركز، ومحاولة استيعاب الرسالة التي يقدمها هذا المركز والتي تتخذ الفنون والثقافة فيها أهمية قصوى، كما تبين من الشرح المستفيض الذي قدمه لنا مدير عام المركز.

          كنا نمر في أروقة طويلة، مبلطة ببلاط عتيق، ومسقفة بسقوف عالية، تعكس ازدهار النقش الإسلامي الذي يميز العمارة التركية، قبل ان ندلف منها إلى قاعة مكتبة، أو نصعد إلى طابق تال لنشاهد قاعة بحث، ثم نخرج من مبنى لندلف لآخر يضم اقساما أخرى للبحث أو لتجهيز الكتب، أو لتنسيق وفهرسة المخطوطات.

          وفي خلال هذه الجولة كنت أتابع بفضول المعلومات المختلفة التي قدمها لنا مضيفنا، وخصوصا ما يتعلق بالمكتبة المتخصصة في الثقافة والحضارة الإسلامية، والتي تضم سبعين ألف مجلد من الكتب في 140 لغة والكتب التي تعود لبدايات عصر الطباعة وكتب الثقافة النادرة. و1500 دورية، إضافة إلى مخطوطات قيّمة وآلاف من المقالات والخرائط والمايكروفيلم.

          لكن ما كنت أنتظره هو رؤية نسخة موسوعة القدس العثمانية التي أصدرها المركز أخيرا، وتضم جميع الوثائق والصور التي رسمت للقدس في خلال الحكم العثماني، وهي أحد الإنتاجات الضخمة للمركز الذي سبق له إصدار 128 كتاباً نُشِرت بلغات مختلفة هي: العربية، الإنجليزية، الفرنسية والألبانية والبوسنية والفارسية والتركية والأوردو واليابانية والروسية ولغة الملايو، نُشِر بعضها بالتعاون مع مؤسسات أكاديمية في البلدان المعنية.

          كانت خطة المركز أن يصدر الكتاب في خلال احتفالية منظمة المؤتمر الإسلامي الاربعين، التي واكبت العام الماضي، وتعد بمنزلة توثيق فوتوغرافي اعتمد على مجموعات من الصور تم جمعها من نحو 400 أرشيف من أرجاء تركيا والعالم. توضح جميع التطورات المعمارية التي تعرضت لها القدس في العصر العثماني، وبينها قبة الصخرة في المسجد الأقصى، وكل الترميمات التي عولجت بها المباني التاريخية في القدس في ذلك الوقت، كما أوضح لنا الدكتور خالد إيرين.

          وقد جمع ذلك الكم الهائل من الصور الواردة في الكتاب من خلال عدسات المصورين الرواد الذين سافروا إلى الأراضي المقدسة بعد وقت قصير من اختراع التصوير الفوتوغرافي تقنيات في النصف الثاني من القرن 19. وتم ترتيبها بحيث تقدم حكيا وسردا تاريخيا موثقا يحكي تاريخ المدينة خلال الربع الأخير من القرن الـ 19 والربع الأول من القرن الـ 20.

          ونتصفح الموسوعة بينما يشرح لنا الدكتور إيرين أن هناك مقدمة مهمة كتبها أحد المتخصصين، وهو الدكتور كريم بالجي، أستاذ العلوم السياسية، المتخصص في تاريخ القدس، الذي استعرض العديد من التطورات التي مرت على القدس في زمن الموسوعة، بالإضافة إلى أنه قدم دراسة مهمة عن التطورات في مجال التصوير في القدس موضحا الاختلافات بين المصورين وطبيعة الصور التي كانوا يلتقطونها وفقا لاختلاف اهتماماتهم، فهناك مصورون أصحاب دوافع دينية ترتكز اهتماماتهم على تصوير الأماكن المقدسة والآثار الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية، كما كان هناك بعض المستكشفين الذين يبحثون عن الآثار المسيحية في القدس، بالإضافة إلى المستشرقين الذين كانوا يبدون اهتماما بجميع مظاهر الحياة والنشاط اليومي لأهل القدس، ثم بعض المصورين الهواة الذين كانوا يمارسون التصوير لأسباب فنية محضة، أو لأسباب مادية, حيث عرف ذلك الوقت بوجود سوق واسعة للاستثمار في الصور الملتقطة من الشرق بشكل عام.

المرحلة العثمانية.. محطة معمارية مهمة

          هناك إجماع تاريخي على أهمية المرحلة العثمانية في حكم القدس في تأثيرها على التطور المعماري حيث تشير دراسة حول الموضوع إلى أن مدينة القدس ببلدتها القديمة التي تعد إحدي المدن الاسلامية القليلة التي تم الحفاظ على سلامة طابعها التاريخي، والتي يجسد مظهرها الأثري الحالي ليس مراحل التطور في العصور الوسطي فحسب، ولكنه يمثل أيضا وبشكل جوهري المباني التي أنشأها السلطان العثماني سليمان الأول القانوني والذي تولي الحكم في الفترة 926-974هـ / 1520- 1566م.

          لقد تمكن هذا الحاكم العثماني  بعد مضي فترة قصيرة على ضم سورية وفلسطين إلى الدولة العثمانية عام 922هـ/1516م من إعادة تثبيت مكانة المدينة بصورة نهائية كمركز يشد المسلمون إليه رحالهم، وذلك بعد خضوعها للاحتلال الصليبي فترة طويلة امتدت من عام 492هـ /1099م وحتي عام 583هـ/1187م ثم لفترة أخرى قصيرة وهي 626-642هـ/1229 - 1244م.

          وبالرغم من أن الأيوبيـين هم الذين استردوا المدينة المقدسة على يد الناصر صلاح الدين يوسف (564 - 589هـ/1169 - 1193م) والمماليك من بعدهم (658 -922هـ /1260 - 1516م) قد شيدوا العديد من المباني الدينية إلى جانب إعادة بناء وترميم مكاني العبادة المركزيين وهما قبة الصخرة والمسجد الأقصي، وساهموا بذلك في صبغ المدينة بالطابع الاسلامي، إلا أن القدس خضعت لأول مرة في عهد السلطان سليمان لبرنامج تطوير منتظم وشامل.

          وقد تم تقسيم الموسوعة إلى عدد من الأقسام جاءت كالتالي: بانوراما القدس، المسجد الأقصى، المدينة وشعبها والمقدسات، وتاريخ القدس على أبوابه وفي شوارعها، شوارع القدس، الجوانب الفنية لمدينة القدس، وجوه الإنسان من القدس العثمانية، الجنود العثمانية في القدس، والدفاع عن المدينة.

مدينة الثقافات المتعددة

          تصدر الموسوعة مقالا افتتاحيا كتبه البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الذي أكد على أهمية القدس على المستوى العالمي بوصفها مدينة مقدسة للأديان السماوية الثلاثة، موضحا أهميتها على المستوى العربي والإسلامي بوصفها ثالث المدن المقدسة بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة. ويوضح الأمين العام أن هذه الأهمية التاريخية للقدس كبلد يعد مهد الديانات أدى إلى العديد من الصراعات والتي لم تحسم حتى اليوم، وفي المركز منها قضية الصراع العربي الإسرائيلي المستمرة منذ منتصف القرن الماضي، والتي تعد أولوية أولى من أولويات منظمة المؤتمر الاسلامي منذ العام 1969 وحتى اليوم.

          ولعل أحد أبرز ما تعبر عنه الموسوعة بالصور هو الطابع المتعدد الثقافات للمدينة، ويرى أوغلو في هذا الصدد أن المحافظة على الطابع المتعدد الثقافات للمدينة مع الاحترام الواجب من قبل السكان كافة لبعضهم البعض ولمقدسات كل منهم هو بلا شك جزء لا يتجزأ من أي حل مقبول للمشكلة.

          أما الدكتور خالد إيرين فيشير إلى تاريخ القدس في ظل سيادة الدول المتعاقبة، ويتناول ترميم المعالم الرئيسية التي أجريت على القدس خلال العهد العثماني، وبينها الترميمات التي أجريت في قبة الصخرة، وبناء الأسوار، ونوافير المياه، والأسواق، إضافة للعديد من الاصلاحات التي تعرضت لقنوات المياه. وتأتي هذه الموسوعة لتوضح مدى اهتمام القصر العثماني، بتطوير القدس، وتنظيمها بشكل مخطط، ولذلك حرص القصر العثماني، كما يشير د.إيرين، على الاهتمام بتصوير القدس فوتوغرافيا بالاعتماد على مصوري القصر، وتكليفهم بالتصوير بشكل مباشر.

أبرز أعمال الترميم

          تشير الدراسات المهتمة، وبينها دراسات عربية وأجنبية تعتمد على مصدر موثوق هو أولياجلبر، إلى أن أبرز مظاهر الترميم التي أجريت في العصر العثماني هي:

قبة الصخرة

          استأثرت قبة الصخرة بأول أعمال البناء الضخمة التي أنجزها السلطان لأنها المبني المركزي المقدس. وحسب نقش أزيل من موضعه في وقت لاحق فقد تم الفراغ في عام 935هـ/1528م من تجديد شبابيك هذا المبني المثمن الشكل والبالغ عددها 36 والمزخرفة بقطع زجاجية. وبما أن التجديد قد أمر به السلطان سليمان فلا يمكن أن يكون قد اقتصر على الشبابيك، وعليه يمكننا اعتبار ذلك العام تاريخا للترميم الشامل لأقدم مبنى تم تشييده في التاريخ الاسلامي. وبتكليف من السلطان تم إنجاز الترميم خلال السنوات العشر التالية. وتم في مرحلة لاحقة تزيـيـن الواجهات الخارجية بالقاشاني الملون على نمط الأبنية العظيمة في عواصم الدول.

المسجد الأقصى

          بالإضافة إلى قبة الصخرة أمر السلطان سليمان بترميم المسجد الرئيسي في الحرم ألا وهو المسجد الأقصى. ويشهد على ذلك نص مفقود كان يقع على إحدى نوافذه من الداخل ولكنه يحمل تاريخا مغلوطا وهو عام 996هـ/1587م أي أن إتمام الترميم أنجز بعد أكثر من عشرين سنة على وفاة السلطان. وعلى ما يبدو فإن التاريخ الصحيح هو عام 936هـ/1529م حيث إن تجديد النوافذ الزجاجية في قبة الصخرة قد تم في عام 935هـ/1528م. وعلى ذلك يمكننا القول إن النص الزجاجي الفني المذكور في المسجد الأقصى قد تم إعداده مباشرة بعد إتمام أول أعمال الترميم التي أمر بها السلطان في الحرم.

إنشاء أبنية متفرقة

          حسب النص المذكور الذي كان على إحدى نوافذ المسجد الأقصى، فإن أعمال الترميم التي أنجزها السلطان سليمان عام 936هـ/1529م على الأرجح لم تقتصر على المسجد فحسب، وإنما امتدت لتشمل كل الحرم. وهذا ما أكده أوليا جلبي بعبارة واضحة:

          ومن المسجد الأقصى يسير المرء عبر مرج أخضر فوق رصيف يبلغ طوله مئتا خطوة من الأحجار الرخامية اللوحية البيضاء غير المنحوتة، وتم رصفها بأمر من السلطان سليمان العظيم. ومن ثم تتجه الخطوات مباشرة نحو حوض مائي كبير مبني من الرخام الذي اقتطع من كتلة واحدة حسب تعليمات السلطان سليمان بنفسه. إنه مَعلم فريد لا مثيل له على الأرض. إنه رائع ويقع في وسط الرصيف.

القلعة

          حسب أقوال أوليا جلبي فقد كان تحصين مدينة القدس من أكبر هموم السلطان سليمان. وبالفعل فقد كان أول إجراء أمر به السلطان بعد الفراغ من ترميم الحرم القدسي ضمن جهوده الرامية إلى إعادة تفعيل النظام الدفاعي هو تجديد بناء القلعة الواقعة في الجهة الغربية من المدينة. لقد تم ترميم القلعة في أوائل القرن الثامن الهجري أي الرابع عشر الميلادي بعد طرد الصليبيين من المدينة المقدسة بوقت طويل، لكنها خربت في أوائل القرن التاسع للهجرة أي الخامس عشر للميلاد ولم تعد صالحة للاستخدام وأصبحت المدينة بلا قلعة تدافع عنها. إلا أن الترميم الذي جرى عام 938هـ/1531م وأضيف خلاله ممر شرقي للقلعة قد أخرجها من وضعها البائس بشكل نهائي.

تزويد المدينة بالمياه

          بعد استراحة قصيرة أعقبت ترميم الحرم القدسي وتجديد القلعة أمر السلطان سليمان عام 943هـ/1536م بإنجاز مشروع معماري مهم آخر، يهدف إلى تأمين وصول المياه من بركة السلطان الواقعة جنوب غربي المدينة إلى الأسبلة الخمسة التي تم إنشاؤها في الحرم القدسي وحوله. وتزودنا النقوش المنحوتة على تلك الأسبلة بمعلومات تفصيلية عن المراحل الزمنية لتلك الأعمال.

سور المدينة

          بعد الفراغ من مشروع تزويد المدينة بالمياه أخذ السلطان سليمان على عاتقه مشروع بناء ضخم آخر، ألا وهو إعادة بناء سور المدينة، والذي تم فيه اختتام مرحلة حاسمة من التاريخ الاسلامي في المدينة. وكان القائد الأيوبي الناصر صلاح الدين يوسف قد جدد سور المدينة بعد استردادها من الصليبيين عام 587هـ/1191م، ولكن تم تخريبه بعد حوالي 30 عاما بحجة تعرض المدينة لخطر حصار صليبي وذلك في عام 616هـ/1219م. وتم تدميره مرة أخري في عام 624هـ/1227م. وبناء على ذلك فقد تمكن فريدريك الثاني من تسلم المدينة المقدسة عام 626هـ/1229 دون أي مقاومة.

          وهكذا فقد بقيت المدينة لأكثر من ثلاثة قرون تالية تفتقر إلى نظام دفاعي فعال، إلى أن أمر السلطان سليمان عام 944هـ/1537م ببناء سور جديد للمدينة. وقد تم بناؤه في غضون أربع سنوات فقط وبالضبط فوق أساسات البناء المتهدم التي كان الأيوبيون قد شيدوها. وهناك الكثير من مظاهر التطوير والترميم مما تضيق هذه المساحة عنه.

تاريخ المركز

          أخيرا تبقى الإشارة إلى أن المركز الإسلامي لبحوث التاريخ والفنون والثقافة قد انشئ عام 1976.

          وكما أوضح د. إيرين وضع المركز عدة مشاريع للحفاظ على التراث المعماري والتراث المدوّن اللذين شاركت فيهما ثقافات عدة عززت التفاهم الفكري بشكل عام ومعرفة التراث الإسلامي بشكل خاص.

          ووضع المدير المؤسس للمركز، الأمين العام الحالي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلى، نهجاً عملياً وإبداعياً في آن واحد وفر لعمل المركز توجهه العالمي وصلته بالعالم الإسلامي والمجتمع العالمي بأسره.

          وبعد تولي الدكتور خالد إيرين مهمة مدير عام المركز، تواصلت النشاطات المتعلقة بالبرامج الموضوعة للمركز كما ابتدرت برامج ومشاريع جديدة.  والمركز الآن في صدد تنفيذ مشروع القدس 2015 وهو برنامج دولي طويل المدى يستهدف دراسة التراث المعماري للقدس.

          أخيراً تجدر الإشارة إلى أن الصور المستخدمة في الموضوع مصورة من الموسوعة، وهي تعود لعدد من المصورين من مدارس فنية وحقب زمنية مختلفة.

 

 

 

إبراهيم فرغلي   




صورة الغلاف





 





د. خالد إيرين يتصفح إحدى مخطوطات مكتبة المركز الإسلامي في اسطنبول





تضم مكتبة المركز (أرسيكا) فريقاً يعمل على الفهرسة والحفظ وترميم المخطوطات





الأتراك والفلسطينيون في باحة الحرم





أحد أحياء القدس التي صورت في نهاية القرن التاسع عشر، حيث كان الزي العثماني هو السائد و«الحنطور» وسيلة المواصلات





من اللوحات التي صورها الفنانون في العصر العثماني للمسجد الأقصى





المسيحيون يمارسون طقوسهم بحرية في القدس





أحد أزقة القدس في القرن الماضي





فلسطيني في القدس في القرن التاسع عشر