العودة إلى الله محمد الرميحي

العودة إلى الله

حديث الشهر

"العودة إلى الله " هو اختياري لترجمة عنوان الكتاب الذي وضع له مؤلفه الفرنسي جيليه كيبل Gilles Kepel عنوانا أكثر إثارة هو "ثأر الرب"، والكتاب صدر بالفرنسية سنة 1991، ثم ترجم إلى الإنجليزية وصدر سنة 1994. وهي الطبعة التي اعتمدت عليها في تقديم الكتاب هنا.

أولى الملاحظات الرئيسية التي تواجه الكتابة في مثل هذا الموضوع هي مشكلة "المفاهيم"، فإن كانت أقرب إلى الدقة وأكثر تأطيرا في اللغات الحية الأخرى فإنها فى اللغة العربية قد تأخذ مستعملها إلى مداخل لا يريدها ولا يقصدها، إلا ان الأمانة العلمية تدعو دائما إلى أن نتقيد بما جاء به المؤلف في مفاهيم مثل " الأصولية " أو " التطرف " أو "الأسلمة" و"التمسيح" و " التهويد" "بمعنى العودة من جديد إلى هذه الأديان " من قبل معتنقيها.. وهذا الأمر يضعنا في نوع من التناقض، فإن كان مسلما فلماذا "العودة" إلى الإسلام؟ وإن كان مسيحيا فلماذا العودة إلى المسيحية؟ وإن كان يهوديا فلماذا العودة إلى اليهودية؟ المعنى بالطبع هي " العودة " إلى الأصول أو الرجعة المعاصرة "للأصول" كما يراها الجيل الحالي.

حسب ما هو متوافر فإن الكاتب يحاول تفسير العودة من جديد إلى الدين بشعائره وتطبيقاته على فترات زمنية متفاوتة قبل عصر الصناعة، وفي عصر الصناعة وما بعد الصناعة، وهي ظاهرة كما يراها الكاتب "عالمية" في كل الأديان ولها تماثلها في بعض الجوانب وخصوصياتها في جوانب أخرى.

وعرض الكتاب ومفاهيمه وانطلاقاته لا يعني إلا الإشارة إلى أهميته، وبالتالي لا يعني الإحاطة بما يريد، فهو كتاب يجلب لقارئه تداعيات كثيرة ويطرح قضية من أهم قضايا العصر الفكرية والسياسية في عالم يموج بالمتغيرات والتبدلات، عالم السنوات الأخيرة من القرن العشرين، فبعد أن سارت البشرية في تطورها خطوات كبرى، يعود الإنسان من جديد ليرى نفسه "حائرا" يقلب بصره ويشحذ بصيرته ليتعرف على ما حوله لكثرة المتغيرات التى يواجهها كما وكيفاً.. ولكنه كتاب أيضا يضعنا أمام مسئولياتنا، فليس من المهم أن نوافق على ما جاء في الكتاب أو نختلف معه، المهم أن يثير فينا ملكة التفكير، فهو يقوم بعقد دراسة أو مقارنة بين ظواهر عالمية ليست مقصورة على وطن أو دين ثقافة بل هي عالمية بشمولها، ونحن المسلمين والعرب جزء منها عودة ظهور الإيمان بالدين واتساعها في مجتمعات شتى مع ظهور المعاناة والصراع الاجتماعي والسياسي وبمقارنة ظواهر هذه العودة ومسبباتها في ثلاث ديانات سماوية هي الإسلام، والمسيحية، واليهودية هو محور الكتاب وموضوعه، ولكنه يدعي- دون أن يفعل- أن نفس الظواهر تنتشر في الهندوكية والشنتو والبوذية، فهي ظواهر تلخص "أزمة العصر".

الأصولية في مواجهة العلمانية

ويفترض الكاتب أن هناك تماثلا في العودة إلى الديانات السماوية الثلاث، فالجميع "يعارض" القيم التي أفرزتها المجتمعات العلمانية والتي أنجبت الليبرالية والديمقراطية والروح الفردية، وأن العودة إلى "الأصولية" في الديانات الثلاث قد استفادت من الشعور المتنامي لدى جمهور واسع بعدم الرضا واستحالة التكيف الأيدلوجيات السياسية التي أفرزها القرن العشرون وسادت لفترة طويلة. ويعترف الكاتب أن هذه العودة في الديانات الثلاث وكل على حدة، هي ليست واحدة بل إنها حركات تتنوع في كل واحد منها، وتتعدد كألوان الطيف، فهناك حركات "ثورية" تريد التغيير "من أعلى" وهناك حركات دعوة "سلمية" ترغب في التغيير "من أسفل "، هناك من يريد القفز على السلطة لتغيير الواقع غير المرغوب، وهناك أيضا من يريد أن يستخدم المؤسسات التبشيرية للوصول إلى أهدافه، وأخرى ترى أن دعوة الجماهير الى الطريق القويم وتحويل حياتهم اليومية إلى طريق الهداية هو ما سوف يقود في النهاية إلى إصلاح المجتمع.

قيمة الكتاب أنه ينظر إلى الظواهر هذه من منظور "محايد" وليس له موقف مسبق مع أو ضد، كما أنه يتابع بشكل تاريخي قريب إلى الدقة فترة الحضانة لهذه الحركات الداعية إلى العودة إلى الأصول والدين، وهي فترة حضانة قصيرة في بعض المجتمعات، وأطول نسبيا في أخرى، ولكنه بشكل عام يعتقد أن عقد السبعينيات من هذا القرن هو عقد التئام العلاقة بين الدين والسياسة، بعد طلاق بدا للبعض أنه نهائي ولا عودة عنه، بين الاثنين في العقود الأولى من القرن العشرين، نتيجة تراكمات طويلة سعى اليها فلاسفة التنوير منذ القرن الماضي "التاسع عشر" وأصبح تأثير الدين أو "نفوذه" على السياسة ضعيفا في السنوات اللاحقة للحرب العالمية الثانية، وانحصر تأثيره في المجتمعات على السلوكيات الفردية والعائلية، وفي مجتمعات أخرى "مثل المجتمعات التي كانت تدعو إلى الشيوعية" انحسر الدين بعد أن حاربته الدولة التي تسعى إلى العلمانية بل وأعلنت انها ملحدة أيضا إلى أقل نقطة ممكنة..

ذاك التوجه العام في فصل الدين عن السياسة الذي واكب الحداثة وانتصار التكنولوجيا الحديثة وأصبح يعرف بعنوان عريض اسمه "التقدم " كانت له مظاهر عديدة ومتفاوتة في العمق ومختلفة حسب الثقافات في المجتمعات المختلفة، ففي بعض الأوقات كان هذا التقدم واعتناق فصل الدين عن السياسة أو الدين عن الدولة معمولا به من قبل النخبة، تكبر الشريحة أو تصغر حسب ظروف البلد المعني وحسب تصور هذه النخبة للعالم، في حين أن الجماهير الأوسع متمسكة بسلوكياتها الدينية، وكانت بلاد إسلامية وعربية عديدة من هذه الفئة. وفي بعض المجتمعات، من جهة أخرى كان الارتباط بين العلمانية والحداثة، يتعدى النخبة ليصل إلى قطاعات أوسع في المجتمع، ومثال لذلك المجتمعات الصناعية الغربية. ولكن هذا الغطاء العام للعالم بفئاته المختلفة كان يخفي عملية تغير غير ظاهرة تحت السطح لم تحقق اتساعا وانتشارا الا في عقد السبعينيات وما بعدها من هذا القرن.

ومن الملاحظات المهمة التى يراها الكاتب أن عقد الستينيات- مباشرة قبل الوعي الديني الجديد في السبعينيات- قد شهد الدرجة الأضعف في العلاقة بين الدين والسياسة إلى درجة وجد دعاة إحياء الدين- خاصة في الغرب- أنها مقلقة، ومهددة بانفصام نهائي، ووجدت مؤسسات دينية في الغرب- خاصة رعاة الكنيسة الكاثوليكية- أن عليها أن تجاهد لتكيف رسالتها الدينية، مع قيم الحداثة التي بدت مستقرة وقتها، والبحث ما أمكن عن نقاط مشتركة بين القيم الدينية والعلمانية وتأكيدها ومحاولة تأصيلها، وأبرز ظاهرة في هذا الاتجاه ما وصل اليه المجمع المسكوني فى الفاتيكان في دورته الثانية (62- 1965)، وما عرف لاحقا بتبنيه لمبدأ "الأجرامنتو" Aggramanto، والتي تعني تحديث أو عصرنة وتطوير الكنيسة، وهي ظاهرة لم تكن مقصورة على المذهب الكاثوليكي، فقد شارك دعاة المذهب البروتستنتي في هذا الاتجاه وظهرت كتابات كثيرة في فترة الستينيات تحاول مواءمة الحداثة وقيمها مع قيم الدين، ولعلني أستطرد حتى يمكن أن نتتبع هذه الظاهرة في الإسلام فنجد كتابات من الخمسينيات إلى السبعينيات تحت عناوين مثل اليسار في الإسلام أو الاشتراكية والإسلام، أو الإسلام والعلم الحديث وكذا الديمقراطية والإسلام.

في حوالي منتصف العقد السابع من هذا القرن- يرى الكاتب- أن تلك الخطوات اتجهت تقريبا إلى عكسها، توجه دينى جديد أخذ شكلا لا يهدف للتكيف مع القيم العلمانية فقط بل يطرح نفسه كبديل قائم على "الأسس الدينية" لتنظيم المجتمع عن طريق تغييره- إن كان ذلك ضروريا- إما من أعلى أو من أسفل، هذا التوجه- يلاحظ الكاتب- ليس جديدا فجذور بعض حركاته ضارب في القدم منذ بداية القرن العشرين، وقد تمثلت في ظاهرتين جماهيريتين هما اتساع القاعدة الشعبية المؤمنة بالدين والمتعلقة بتعاليمه، والثانية ارتباطه بالسياسة، إنه شعور بالتحرك ضد "حداثة" فشلت، وكان سبب فشلها بل موتها البعد عن اليقين الديني، ظاهرة أخذت شكلها في التيار العريض بالدعوة "للتنصير الثاني لأوربا" وفي الحركة الإسلامية لم يكن الهدف- كما حاول البعض أن يفسر- هو تحديث الإسلام بل "أسلمة الحداثة".

منذ ذلك التاريخ- النصف الثاني من السبعينيات- أخذت الظاهرة الدينية في الانتصار وهي تظهر في حضارات تختلف فيما بينها في الأصول الثقافية ومستوى التطور الاقتصادي والاجتماعى، ولكنها حيث تظهر تضع نفسها أمام "أزمة" في المجتمع، أزمة فجرتها الحيرة والتذبذب وضياع الطريق أمام مجتمعات عديدة، وتدعي تلك الحركات أنها تعرف الأسباب الكامنة خلف تلك "الأزمة"، وهي أزمة أبعد وأعمق من الأعراض الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تحاول أن تفسرها نظريات الحداثة على مستوياتها المختلفة، وأن تفسيرها باختصار يقع تحت عنوان "البعد عن الله ".

ظاهرة الدعوات الدينية تمتد من مصر إلى براغ، ومن الجزائر إلى الولايات المتحدة ومن إيطاليا إلى حركة "جوش أمونيم " اليهودية المتعصبة في إسرائيل.

لم تعد دعوات هامشية

الأعضاء والدعاة والمنتمون لهذه الحركات الدينية الحديثة لم يكتفوا بدعوة الفئات الهامشية في المجتمع، فلم يعد التدين توجها صالحا لكبار السن وأنصاف المتعلمين وسكان الأرياف والمحرومين في المجتمع من ذوي الدخول البسيطة أو المتوسطة، ولكن عددا كبيرا من الشباب ومتوسطي الأعمار ومتوسطى الدخل والمتعلمين في المعاهد العلمية الحديثة مع ميل نحو العلوم التقنية والفنية، كل هؤلاء وجدوا طريقهم إلى هذه التجمعات، التي يناسبهم توصيفها للحلول لعلل المجتمع ورسم طرق العلاج التي تدعو إليها هذه الحركات الدينية، المهم أن طريق العلاج والشفاء له علاقة وثيقة بطريقة التفكير التي تعلموها في المدارس الحديثة التي هي نتاج الحداثة التي يريدون تقويضها وتغييرها.

ولا يبدو الأمر متناقضا كما يخيل للبعض لأول وهلة، فعند تناولهم لشرح النصوص المقدسة لتأكيد ومعاضدة ما يدعون إليه لا يكتفون بالطرق التقليدية التي قال بها الأحبار أو الحاخامات أو العلماء السابقون أو الحاليون والذين هم غالبا ما تأتي تفسيراتهم إلى جانب "المحافظة الاجتماعية"، بل يرفضون بعض هذه التفسيرات إلى درجة اتهام بعض اجتهادات هؤلاء بأنها تدعو إلى "الدين الرسمي" والذي تنتقده هذه التيارات بشدة، بل تستخدم القيادة الفكرية الجديدة مناهج البحث العلمى الحديث، وحتى إنجازاته للتدليل على حجة فاصلة بين الطرق "العلمية" والأهداف والقيم "العلمانية".

للوهلة الأولى وعند قراءة أدبياتهم هذه، يبدو أن قيادات وأعضاء هذه الحركات لها مظهر "مثقفي الطبقة البروليتارية" كما دعاها عالم الاجتماع الألماني ماكس فير، فكلاهما يشترك في عناصر مشتركة أهمها تحدي ونقد الطريقة التي ينظم بها المجتمع القائم نفسه، كاعتماده على أسس علمانية كما في فرنسا أو ابتعاده وانحرافه عن أصوله ذات الجذور الدينية كما في الولايات المتحدة، أو في البلدان الإسلامية. وكذلك فإنهم يشككون في الأرضية العلمانية التي يقف عليها المجتمع، وغياب مثاليات عامة تستحق ولاءهم، هم لا يحاربون أخلاقيات علمانية بالنسبة لهم غير موجودة، ولكنهم يؤمنون أن التحديث الذي نشأ على الفكرة الفلسفية الداعية إلى السببية أو الذرائعية أضعف الانسجام الاجتماعي الذي حاولت "دولة الرعاية" الغربية أن تغطي شروره، وكأن هذه الشرور قد ظهرت في العالم كاشفة عن مآس اجتماعية وإنسانية، ما كان لها أن تظهر لو أن المجتمع انقاد لمشيئة الرب وعمل بأوامره ونواهيه.

أزمة السبعينيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالنسبة لهؤلاء الدعاة إيجابيات لأنها قد عرّت الليبرالية والماركسية والعلمانية، وأظهرت فراغها من محتوى إنساني، إنها أيديولوجيات قد قادت إلى مجتمعات استهلاكية أنانية في الغرب، وإلى شمولية وقمع في الدول الاشتراكية وإلى فقر واضطهاد وحرمان في العالم الثالث.

المعارضة الاجتماعية/ السياسية التي تبنتها الحركات الدينية ليست معارضة "ملحقة" أو "ذات ملابس صورية" لحركات قديمة حتى لو تماثلت مفرداتها بمفردات حركات سابقة كالحديث عن المضطهدين، والمضطهدين بمفهوم المستضعفين والمستكبرين، إنما هي حركات ذات مفاهيم جديدة.

علامات مميزة

سنوات 77، 78، 1979 شهدت تغيرا في التوجه لدى الحركات الدينية في الأديان الثلاثة، ففي مايو سنة 1977 لأول مرة في تاريخ الدولة اليهودية- إسرائيل- يفشل حزب العمل الذي واصل حكم الدولة الإسرائيلية منذ إنشائها سنة 1948 لأول مرة في الحصول على أغلبية في الكنيست الإسرائيلي وأصبح مناحيم بيجن اليميني رئيس وزراء إسرائيل.

وصول تحالف الليكود اليميني إلى الحكم جاء على خلفية من نمو حركات يهودية في داخل وخارج إسرائيل تدعو للعودة "إلى اليهودية" والمفاصلة مع المجتمع العلماني وعدم الاختلاط بالآخرين "غير المؤمنين " والتي هي التهديد الأكبر "لشعب الله المختار" حركة العودة انتشرت بدرجات مختلفة وتبنتها فئات تيارات متدرجة في التعصب لدى الشعب الإسرائيلي، وأصبحت حركة "جوش أمونيم" وهي حركة تعني "جهد المؤمنين" هي العمود الفقري للتيارات اليهودية الدينية/ السياسية المتعصبة، وقد ظهرت الحركة إلى العلن مباشرة بعد الحرب العربية/ الإسرائيلية سنة 1973، والتي اعتبرت "هزيمة نفسية لإسرائيل "، وتحولت هذه الحركة إلى حركة إرهابية من جهة وداعية إلى إقامة مستوطنات يهودية في الأرض المحتلة من جهة أخرى، داعية إلى تبديل مفهوم "دولة إسرائيل" إلى "أرض إسرائيل"، وقامت هي أو مجموعات متعصبة أخرى مماثلة بالعديد من الهجمات الإرهابية على المدن والتجمعات الفلسطينية واستهدفت المؤسسات الإسلامية والعربية، ولعل المذبحة التي حدثت يوم الجمعة الخامس والعشرين من فبراير الماضي في الحرم الإبراهيمي والتي قامت بها عناصر من حركة "كاخ" اليمينية المتطرفة جزء من هذا التيار المتشدد، وبعد عشر سنوات من وصول الليكود الي الحكم تم في إسرائيل في ربيع 1987 استطلاع رأي عن أفضل شخصيات إسرائيل منذ 1967 "منذ حرب الأيام الستة" فكان مناحيم بيجن والحاخام موسى لينفجر- رئيس جوش أمونيم- على رأس القائمة.

في الجو الذي أعقب حرب 1973 العربية/ الإسرائيلية تساءلت قطاعات واسعة من اليهود في إسرائيل حول معنى وهوية اليهودية، والعديد من اليهود أعادوا حساباتهم بشكل نقدي حول شمولية التقاليد الصهيونية التي جاءت بهم إلى إسرائيل، والتي كان محتواها اشتراكيا/ علمانيا، وكانت مسيطرة على السياسة الإسرائيلية في ذلك الوقت، وبدأت الأحزاب الدينية الإسرائيلية تستقطب أعدادا أكبر من الأنصار، وتراوحت في توجهاتها بدءا من الرفض القاطع "للصهيونية" حيث تتبنى أصولية مغرقة في الفهم الديني القديم، وجماعات تتبنى الاحتفاظ بأرض إسرائيل كما جاءت في التوراة لكنها جميعا رفضت مفهوم أن اليهودية انتماء بسيط ومباشر وهوية عامة ذات محتوى تحديثي، لقد صممت هذه التيارات والأحزاب على التمسك بالتقاليد اليهودية مع التشدد في فهم الذات، وممارسة الطقوس بحذافيرها، من أقل ما يقوم به الفرد في حياته اليومية تجاه جسده إلى تنظيم الحياة الاجتماعية. حركة العودة انتشرت بدرجات مختلفة ليس في إسرائيل فقط ولكن في التجمعات اليهودية في الخارج، وتحالف الدين والسياسة في إسرائيل للوصول إلى الحكم فى سنة 1977، وقد نجح.

إلا أن ذاك التحالف لم يستمر وخسر الليكود أغلبيته في سنة 1992، ولكن لتبقى الأحزاب الدينية اليهودية عنصرا مهما في التكوين السياسي الإسرائيلي لا تقوم حكومة الا بالتحالف مع بعضها على الاقل.

الأصولية المسيحية ضد الشيوعية والليبرالية

أما الحركة الأصولية المسيحية خاصة الكاثوليكية فقد سلكت طريقين في العودة من جديد إلى الدين، طريق محاربة الشيوعية في أوربا الغربية والشرقية على السواء، والآخر محاربة " البرجوازية الليبرالية" في المجتمعات الغربية خصوصا، ولقد التبست هذه الدعوة في بعض شعاراتها مع شعارات يسارية، وبرزت مشكلة استخدام "المصطلحات "فهي في بعض الأوقات تعني استخداما معينا، وفي بعض الأوقات الأخرى تعني المعنى المضاد تماما، فبعض الحركات الدينية تتبنى فكرة القفز على السلطة من أجل صلاح المجتمع وهي بذلك تتبنى مصطلحات "ثورية" أو "انقلابية" وبعضها يعمل لتشكيل مجتمعات من المواطنين المؤمنين، الذين يفاصلون بينهم وبين ملذات الحياة الدينية لينذروا حياتهم للرب، ومن ثم يصلح المجتمع.

هذه الحركات الأخيرة تنشط اليوم في الكاثوليكية والبروتستانتية، وتجد تشابها لها بحركة "التبليغ " في الإسلام، هذه الحركات "الدعوية" تزداد- مع الوقت- في الحجم والأهمية، ولأنها تعتمد الإنقاذ الشخصي والبعد عن تعاطي السياسة فهي عادة ما تترك لذاتها دون مضايقات من السلطة القائمة، هذه الدعوات بدأت لدى الأقليات التي تعيش في وسط ديني أكثر مغايرة، فقد بدأ اليهود في الولايات المتحدة وفي فرنسا بدرجة أكبر يحافظون على هويتهم من الذوبان خاصة في فرنسا- التي تسمح قوانينها الليبرالية بالذوبان - فقد أكدت الأقليات اليهودية تصميمها على الاحتفاظ بـ "الجيتو" فيها لأنها الأقرب إلى عزلهم عن المجرى العام، بل وصل بهم الأمر إلى إدانة "تحرير اليهود" بمعنى دمجهم في المجتمع، تلك الفكرة التى يدعو لها الليبراليون والمثقفون الفرنسيون، وكذلك حركة "التبليغ" التي نشأت بين المسلمين في الهند. وفي سبتمبر 1987 عندما انتخب الكاردينال البولندي "كارل فوجتابل"- الشهير بيوحنا بولس الثاني- بابا جديدا في روما، قرر إنهاء مرحلة التردد والمراوحة التي تمثلت بتعاليم المجمع المسكوني الثاني ودعوته "الأجرامنتو" التي حاولت التوفيق بين التعاليم الكاثوليكية وقيم المجتمع العلماني، تلك الدعوة التي شوشت على عدد كبير من القساوسة الكاثوليك والتي حاولت أن تتخلل طقوسهم ببعض مظاهر الحداثة التي لم يكونوا يرغبونها أو يفهمونها.

لقد رصد يوحنا بولس الثاني الحركة الصاعدة للقساوسة من أهل اليسار والذين كانوا في مقدمة المتصدين للفساد والفقر خاصة في مجتمعات أمريكا اللاتينية التي كانت الصحافة تطلق عليهم لقب "القساوسة الحمر" والذين كانوا يعتبرون أنفسهم ضمير الكنيسة، رصد هذه الظاهرة وكيفها على أنها سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى انتصار ليس لتعاليم الكنيسة بقدر ما هو انتصار للأفكار اليسارية والتي هي قد فشلت في أماكن أخرى في التطبيق خاصة مسقط رأسه "بولندا"، وأن انتصارها ولو المؤقت سوف يعزز من العلمانية والإلحاد المتمثل في المجتمعات الرأسمالية والاشتراكية. إن القساوسة الحمر يتبعون نظرية السببية في الوقت الذي يجب أن يتجهوا فيه لإنقاذ البشرية عن طريق العودة إلى تعاليم الرب، تبنى يوحنا بولس الثاني نظرية معاكسة لذلك وهي الفصل بين العلمانية وبين تعاليم المسيحية، ويهدف من هذه الدعوة إلى إعادة النظام والأخلاق إلى مجتمعات ما بعد الحداثة خاصة بعد انهيار كل اليقينيات التي بنيت عليها.

في الغرب فرضت إعادة " الهيكلة الاقتصادية"، و"أزمة الطاقة"، و"اتساع البطالة" و"التلوث " و"سباق التسلح "، فرضت كل هذه الأزمات والمشاكل بعض التساؤلات حول مسيرة هذه المجتمعات، واهتز اليقين الذي كان مفروغا منه في المجتمع الصناعي، في الوقت الذى جلبت فيه ثورة المعلومات وشبكات التلفاز الدولية مستويات من القيم الاخلاقية لم تكن منتشرة بهذا القدر من قبل، وتهددت سلامة العائلة ووحدتها، وعلاقتها بالآخرين، وأصبح العديد من الأفراد عديمي القدرة على التأثير في مسار هذا التغير الكاسح. وفي أوربا الشرقية وبعد سقوط حائط برلين وانحسار الشيوعية وظهور مساوىء تطبيقاتها الإنسانية، حررت عقول الملايين من الأفكار القطعية الماركسية، كما حرر سقوط وتفكك الاتحاد السوفييتي العقيدة الكاثوليكية في بولندا، والإسلام في الجمهوريات الإسلامية، ففرض أول رئيس وزراء كاثوليكي في بولندا سنة 1989. بولندا كانت أحد أهداف البابا بولس الثاني في دعوته لربط الكاثوليكية بالممارسة السياسية، والتنصير الثاني لأوربا. بعض رجال الكنيسة، وجدوا في هذه المظاهر الجديدة دليلا على "نهاية العصر الحديث " الذي بدأ منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر، والذي كان من نتائج فلسفاته المختلفة فصل الدين عن الدولة.

أحد الأسباب التي جعلت من الحركة الدينية في أوربا وفي الولايات المتحدة أقل تأثيرا في المجتمع، هو ممارسة الديمقراطية والتي تتيح مجالا للنشاط السياسي الذي يعطي فرصة أكبر للتيارات المختلفة، ويكون للتيار الديني موقف تنافسي وليس قطعيا حول حلول للمشكلات الاجتماعية والسياسية السائدة في المجتمع.

التنصير الثاني لأوربا في نظر دعاته هو تقديم "أخلاق كاثوليكية" لعالم ضائع بلا هدف، والأخلاقيات الوحيدة التي لها مستقبل هي الأخلاقيات الدينية.

عودة المسيحية إلى أوربا هي ردة فعل على التشاؤم المنتشر حول مستقبل العالم، والخوف من أن التقدم العلمي والتقني سوف يبعد سيطرة الإنسان على مقدراته وهو من جانب آخر رفض عبودية الإنسان للإنسان، ووضع مخلوق في مرتبة الخالق.

الإنسان هو عبدالله فقط، والمسيحية الجديدة أو العودة إلى الدين تدعو إلى أن كل الرجال والنساء اليوم مهددون بالعبودية، العبودية للمادة وآليات السوق والعرض والطلب، ولا توجد آلية لإنقاذهم إلا العودة إلى تعاليم الدين، ويعتقد معتنقو هذا التيار أن الصراع مع "عالم علماني" لا بد قائم ولا سبيل إلى الوفاق بن الفكرتين، كما اعتقد المتفائلون من أعضاء المجمع المسكوني في الستينيات.

إنهم ينتقدون سيادة العقل على الدين، ويستخدمون- يبدو ذلك تناقضا- توجهات علمية حديثة في العلوم الاجتماعية وفي الفلسفة الوضعية بما فيها التحليل النفسي لأفكار البنيوية وأفكار "مارتن هايدجر" الوجودية، في التدليل على صحة نظريتهم هذه.

هذه التوجهات العلمية التي تؤكد حاجة الإنسان للدعم الروحي والإيماني، لعبت دورا ثانويا ولكن مؤثرا في دعم التوجه الرئيسي. اللاهوتية أصبحت جزءا من حركة عدم رضا على الحداثة وما جلبته على الإنسان ومفاصلة مع الأفكار العلمانية التي هي "تكبر" إنساني يدعو الإنسان لعبادة الإنسان.

إنقاذ أمريكا

في العالم الجديد أصبحت العودة الي المسيحية الطريق لإنقاذ أمريكا، في سبتمبر 1989 ضرب إعصار عاصف شرق الولايات المتحدة، ودمر جزيرة "الكاديلوب " في البحر الكاريبي، ثم أفرغ شحنته الأخيرة على مدينة شارلوت- شمال ولاية كارولينا الأمريكية- يومها كان يحاكم في إحدى محاكم شارلوت داعية أمريكي بروتستانتى وزوجته "جم بيكر" و"تما بيكر" بتهمة التلاعب وتبديد أموال تبرع بها الأتباع للداعية المؤمن، يومها اضطرت المحكمة إلى أن توقف المحاكمة بسبب الإعصار، وفسرت مجاميع كبيرة من أتباع ذاك الداعية أن هذا الإعصار هو غضب من الرب، حيث إن الداعية البروتستانتي/ التلفزيوني قد أقنع بشخصيته الطاغية وبطريقته في الدعوة عشرات آلاف من المؤمنين بدعوته، قادهم للتبرع بملايين الدولارات، الإعصار على كل حال لم يمنع المحكمة بعد ذلك من إدانة الداعية وزوجته وخليلته أيضا، بتهمة تبديد ملايين الدولارات واستخدامها في طرق وأبواب لم تكن قد تبرعت بها الناس من أجلها.

الدعوة المتلفزة أو "التيلي افنجلست" أو أقربها إلى العربية "التليتبشير" ظاهرة أمريكية تنادي بالتخلص من الشرور والآثام، وفي بعض الأوقات تدعي شفاء أنواع من المرض، و"المعالجة الروحية" وفي بعض الأوقات يتم كل ذلك أمام عشرات المشاهدين المباشرين وملايين من مشاهدي التلفزيون.

"التبشير من خلال التلفزيون " واكب حاجة متنامية لدى المجتمع الأمريكي، كما انه قام بنوع من سد الحاجة إلى "خبرة دينية" لدى مجتمع مادي، وقام بسد هذه الثغرة عشرات الدعاة التلفزيونيين، منهم من اتبع هواه فأثرى، فوقع في شباك القانون، والعديد منهم ما زال مستمرا في دعوته. ولكن الظاهرة كانت ولا تزال موجودة، تمتليء بها شبكات الهواء المذاع والمرئي في أمريكا. وأصبحت قياسات الرأي العام تشير في السبعينيات والثمانينيات إلى نسب متزايدة ممن يعتقدون أنهم "مؤمنون " بجانب من يرون أنفسهم أنهم بروتستانت مستنيرون أو ليبراليون أو حتى ملحدون، وتحولت الظاهرة "الاتجاه إلى المسيحية" من ظاهرة فردية إلى جماعية عن طريق ظهور "الأغلبية الأخلاقية" في نهاية عقد السبعينيات والتي تؤمن بقضايا اجتماعية، منها عدم إباحة الإجهاض وضرورة إقامة الصلوات في المدارس.

هذه الظواهر ومثيلاتها شهدت توسعا في الثمانينيات وعرفت في أمريكا بـ " الأصولية" وهو مفهوم أمريكي ظهر منذ عشرينيات القرن، والأصولية الجديدة تفترق عن الأصولية القديمة حيث إن الأخيرة اهتمت بالفرد والحياة الخاصة في حين أن "الأصولية الجديدة" اهتمت بالمجتمع، ولم تقتصر الأصولية الجديدة على سكان الأرياف وغير المتعلمين والولايات الجنوبية الأفقر في الجنوب الأمريكي أو فيما كان يسمى "حزام الكتاب المقدس "، بل انتشرت في المدن الشمالية الصناعية الحضرية، وأقبلت عليها جماهير واسعة إلى درجة أن مجلتين أسبوعيتين هما التايم ونيوزويك أشارتا إلى عام 1976 "العام الذي انتخب فيه رئيس لأمريكا معمداني متشبع بالقيم الدينية هو جيمي كارتر"، ان ذلك العام هو عام "الكتاب المقدس"، لقد كانت الظاهرة موجودة ولكن انتشارها وارتباطها بالسياسة منذ ذلك التاريخ لفت نظر الصحافة والدارسين إليها، فقد جاء انتخاب جيمي كارتر على خلفية فضيحة "ووتر جيت "، والضعف الأخلاقي الذي اعترى الممارسات السياسية الأمريكية. كارتر كان مرشح الحزب الديمقراطي وهو معروف بليبراليته كحزب إلا أن كارتر كشخص كان "متدينا" من الجنوب. في انتخابات 1980 و 1984 التي انتخب فيهما رونالد ريجان وأعيد انتخابه ظهر دعم "الأغلبية الأخلاقية" للرئيس الجديد بشكل واضح وجلي. وأصبحت هذه المجموعات ليست مجموعات ضاغطة دينية فقط وإنما سياسية أيضا وتكونت بهدف التأثير على القرار السياسي. ثقافة دينية سياسية بدأت تظهر في الولايات المتحدة تحث الناخبين على ان يوصلوا إلى البيت الأبيض قيادة تقود أمريكا بشكل عادل وبتعاليم المسيحية إلى الأفضل، وقد فرضت هذه التيارات اهتماماتها على جدول أعمال السياسة الأمريكية حتى أن تحليل انتخابات 1980 و 1984 أظهر أن أكبر نسبة من "المؤمنين " قد أدلوا بأصواتهم في تلك الانتخابات عنها في أية انتخابات سابقة، ولقد تجاوزت هذه التيارات الجديدة النظرية البروتستاتنية القديمة التي تقول إن المسيح سوف يعود الي الأرض ليملأها عدلا بعد أن امتلأت ظلما، هذه الفكرة نظر إليها "الدعاة الجدد على أنها فكرة متشائمة وآمنوا بقدرة الإنسان على العمل للأفضل وللرب في الحياة الدنيا شعارهم هو God and good.

الأصولية الإسلامية ليست صورية

يفرد الكاتب مكانا رحبا في كتابه لدراسة الحركات الإسلامية الحديثة كونها أكثر تعبيرا ووضوحا، إلا أنه يعتقد أن "التغيير من أعلى" لم يتحقق عن طريق حركة دينية إلا في مجتمع إسلامي هو إيران. يرصد الكاتب منتصف الستينيات لبداية الحركة الإسلامية السياسية المعاصرة، بالطبع دون انقطاعها فكريا وتنظيميا عن أصولها التي بدأت في زمان سابق كحركة الإخوان المسلمين في مصر 1927، وكي نتتبع جذور الأصولية الإسلامية المعاصرة لا بد من العودة إلى الستينيات عندما حصلت العديد من الدول العربية والإسلامية على استقلالها وكانت حركات التحرر قد جنبت الحكام الجدد أي تعقيدات عن طريق تغطية أو التقليل من مخاطر الصراع الاجتماعي بالصراع مع المستعمر، فقد كانت النخبة الحاكمة تدعو إلى الحداثة والتغيير استنادا إلى قاعدة الشرعية الثورية بسبب دورهم في الصراع ضد المحتل. ولكن المشاكل بدأت عندما فشلت هذه النخبة في إدارة الاقتصاد والقفز خارج حلقة الفقر، بل وورطت نفسها في صناعات ثقيلة غير ناجحة، امتدت من ضفاف النيل إلى عمق الصحراء، في الشمال الإفريقي ولقد مهد فشل النخبة العسكرية والسياسية- على الرغم من كل التجارب التي قامت بها- لظهور الحركات الإسلامية السياسية. ولعل مصر والجزائر وهما من أكثر الدول العربية معاناة لمشاكل التطرف، تعطينا صورة لبعض أسباب انتشار هذه الظاهرة، ففي الجزائر عندما كانت الفرنسية هي لغة التعليم الجامعي كان الطابع اليساري غالبا على الاتجاهات الفكرية، وجاء تعريب الجامعات كي يخرج أعدادا كبيرة من الطلاب الذين تواجههم مشكلات الوظائف التي لم تتخلص بعد من الآثار الفرنسية، وما بين "تعريب " التعليم، و" فرنسة" الوظائف تراكمت أعداد كبيرة من العاطلين كانت وقودا مناسبا لحركات التطرف.. وفي مصر ساعدت بعض الجهات الحاكمة في صعود الجماعات الدينية المتطرفة حتى تقف في وجه اليسار الجديد الذي كانت موجاته تغمر الجامعات المصرية في السبعينيات، وكانت النتيجة- بعد أن ضرب اليسار- أن انفردت هذه الجماعات المتطرفة بالساحة وبدأت تمارس دورها الإرهابي.

إلا أن عقد السبعينيات جاء بالحركة الإسلامية إلى وسط المسرح السياسي من ماليزيا حتى السنغال، ومن ضواحي المدن الأوربية ذات التجمعات الإسلامية حتى الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي السابق، يلاحظ الكاتب الظن الخاطىء لبعض الكتاب الغربيين أن العودة إلى الإسلام هي ظاهرة صورية وشكلية، فهو يعتقد أنها تمثل- كمثيلتها في الغرب- الطلاق في النظرة والدافع مع العلمانية الحديثة والتي تحملها هذه الحركات كل أسباب تخلف المجتمعات الإسلامية وفي العالم والتي من مظاهرها عدم المساواة الاجتماعية والاضطهاد والبطالة المزمنة والفساد الواسع.

عدد كبير من أعضاء هذه الحركات مؤهلون تأهيلا عاليا خاصة في العلوم التطبيقية والبحثية، وهم يهدفون إلى فصل التقنية المتطورة الحديثة والتي يرغبون في فهمها والسيطرة عليها وتسخيرها، يفصلونها عن قيم العلمانية التي يستبدلون بها قيما نابعة من تعاليم الدين، قيما فرضها الله.

في العالم الثالث ككل في جل سنوات القرن العشرين، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، نظرت قطاعات من أبناء هذه البلدان المنبهرة بالحداثة إلى الدين على أنه معوق للتقدم، أي معوق للتحديث من أجل التصنيع والعمل واستنفار المجتمع خلف قياداته الجديدة. إلا أن هذه الفكرة لم تكن سائدة في جميع الأحيان والأماكن، فقد كان هناك احتياج للدين لتحفيز الرأي العام الشعبي ضد المستعمر، واستخدام الشعور الدينى ولو لفظيا كسلاح بيد "التقدميين" المطالبين بالاستقلال، فهو يوحد المواطنين، ويبرز الهوية الوطنية، إلا أن هذا الاستخدام ظل في إطاره المنفعي لدى الوطنيين والقوميين، وما أن يصل هؤلاء إلى سدة الحكم حتى يزجوا بالدعاة في السجون. والحركة السياسية/ الدينية التي واكبت القوى الجديدة في طريق الاستقلال سرعان ما تضطهد أو تحطم، عبدالناصر مثال واضح فقد استفاد من حركة الإخوان المسلمين في مصر، وأجل حتى حلهم كحزب سياسي، ولكنه سرعان ما أطاح بهم، ولم تقم لهم قائمة فكريا الا بعد 1967 سنة هزيمة النظام الناصري بما يمثله، ثم تنظيما بعد وفاته سنة 1970.

التغييرات التي أصابت المجتمعات الحديثة في الربع الأخير من القرن العشرين، نوقشت نتائجها بتوسع وإسهاب، ولكن أسبابها ليست بالضرورة مدركة كليا بل تحتاج هذه الأسباب إلى دراسة وإعمال فكر.

إذا أردنا أن نأخذ هذه الحركات كما في ظاهرها على أنها حركات "منفعية" أو حركات "أخلاقية" ففي كلتا الحالتين علينا أن نأخذ بجدية كل ما تدعو اليه هذه الحركات، ونتفحص الخيارات المجتمعية التي تريد بناءها، إن "التشوش" الذي تشعر به هذه الحركات ليس مقصورا عليها في عالم معالمه التي نعرفها تكاد تختفي ليظهر عالم آخر لم نتبين معالمه بعد.

افتراضات الكاتب، أن ما تقوله هذه الحركات وما تفعله له معنى وهي لا تنطلق من التخلص ومحاربة العقلانية والذرائعية والدنيوية، وهي ليست مكونة من قوى اجتماعية ضعيفة بل إن وجودها وانتشارها في حد ذاته شاهد غير مشكوك فيه على وجود انحراف عميق في المجتمع، لا يمكن تفسيره بالصورة التي تعودناها تقليديا حسب التقسيمات المعروفة والموضوعة مسبقا.

أخذ هذه الحركات بالجدية كما يقول الكاتب لا يعني أن نقف مدافعين عن وجهة نظرهم أو تجعلنا نسارع لإدانتهم، بعض من يؤمن بهذه الحركات هو كشخص تفتحت عيناه على مشكلات يواجهها، وهو ليس بالضرورة أن يكون عضوا في حزب إرهابي، العالم اليوم يترك العصر الصناعي الثاني خلفه، ويدخل عصرا جديدا تختلط فيه العلاقات الاجتماعية بالعلاقات الدولية وتتعقد هذه العلاقات إلى درجة يصعب فيها تصنيفها أو فصلها، وربما ظهور الحركات الدينية/ السياسية تجعل من التصنيف أكثر قربا في الفهم- إنهم أبناء شرعيون لزماننا- ربما هم أبناء لعصر الكمبيوتر، والبطالة والانفجار السكاني وزيادة الأمية وسكنى المدن، ومدن الصفيح، والأحياء العشوائية. وشكواهم في السنوات الأخيرة من القرن العشرين أنهم يبحثون عن آبائهم وعن يقينهم.

مثل الحركات العمالية بالأمس الحركات الدينية السياسية اليوم، لها قدرة أحادية لإظهار أمراض المجتمع، والتي هي عندهم لها تشخيص محدد، هذا التشخيص يظهر فكرة العلاج التي علينا أن نختبرها ونتحقق منها.

دون أن نفعل ذلك فإننا نسير مع القائلين- دون إثبات أو نفي- إن القرن القادم سيكون إما قرنا دينيا أو عكس ذلك!.

***

وبعد..

هذا كتاب مشبع بالأفكار الجديدة، بعضها ناضج، وبعضها يحتاج إلى مناقشة وتمحيص، مثقل بالدروس والعبر بقدر ما فيه من المعلومات والحقائق، لقد درس المجتمع من منظور جديد وفي صيرورة متحولة، مرتكزة على الدعوة إلى الله في ديانات سماوية ثلاث فيها من الاختلاف وفيما بينها من التعصب والتسامح ما يحتاج إلى توافق، ولكنه تعبير عن قناعة بحث عنها العوام والمثقفون، قناعة البحث عن ثوابت ويقين جديد في عالم متغير وعلى مشارف قرن جديد..

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف كتاب العودة إلى الله





جيليه كيبل مؤلف الكتاب