محمد المنسي قنديل ومصطفى عبدالله

 محمد المنسي قنديل ومصطفى عبدالله
        

قراءاتي لوالدي بين ضحكنا وبكائنا دفعتني لأكون كاتبًا

          على الرغم من أنني أتابعه منذ نشر محاولاته القصصية الأولى، ونلتقي سنوياً في رحاب ندوة «العربي»، ونتزامل شهرياً على صفحات هذه المطبوعة الثقافية العريقة مجلة العربي، وأُعجب بدأبه ومحاولته للوصول بإبداعه إلى الصغار قبل الكبار، وأحزن حين يسيء ناشر إلى نصه، وأبتهج عندما تتذكره الجوائز فأسعى إليه مع صديقيه القديمين: جارالنبى الحلو، وسعيد الكفراوي مهنئين بالتشجيعية عن «بيع نفس بشرية»، وبجائزة ساويرس عن «قمر على سمرقند».
          لكنني أحسست بفقد محمد المنسي قنديل عندما فوجئت بأنه هاجر وتركنا دون أن نعرف كيف سنراه مرة أخرى!
          وندمت لأنني طوال السنوات التي عشتها معه لم أنتبه إلى هذه اللحظة.

  • نعم.. أقرأ لعلاء الأسواني.. وأعجب بإبراهيم عبدالمجيد.. ويفتنني خيري شلبي
  • الوضع الراهن خلق عالماً عربياً آخر خارج الحدود
  • عبده خال «فشّ» غيظي بقوله إن روايتي كانت الأحق بالبوكر

          وفجأة، وجدته أمامي في الكويت، في طريق عودته إلى كندا، بعد حضوره حفل منح «جائزة البوكر للرواية العربية» في دورتها الثالثة في الإمارات.

          وفي الكويت، التي جاءها ضيفاً هذه المرة على ندوة «العربي» بعد أن كان أحد دعائمها، أخذت أرقبه في هيئته الجديدة، وأرى كيف أن الدكتور سليمان العسكري، رئيس تحرير «العربي»، قد جدد عرضه على المنسي للعودة إلى بيته القديم.

          وفي رحاب «العربي»، حيث عاش أكثر من 15 سنة أخذنا نتحدث عن تجربته مع البوكر، التي وصل بروايته «يوم غائم في البر الغربي» إلى قائمتها القصيرة، وسألته إلى أي حد كان يتوقع الفوز فقال:

          - صحيح أنني لم أنل الجائزة الأولى. ولكن وصولي إلى قائمتها القصيرة، روج لروايتي ترويجاً كبيراً، فاهتم بها الناس أكثر مما لو كانت قد صدرت في ظروف أخرى. وفي أبوظبي التي زرتها لحضور حفل منح الجائزة لعبده خال، أتيح لي أن اكتشف في معرض الكتاب وجود ناد نسائي تهتم عضواته بالقراءة بطريقة مذهلة.وقد أسعدني أن وجدتهن جميعا وقد قرأن روايتي باهتمام، حتى أن إحداهن أطلقت عليّ «فرعون الرواية المصرية»، وعلى الرغم مما في هذه الصفة من مبالغة إلا أنها ربما جاءت تأثرا بجو الرواية.

          كنت أعرف أنه من الصعب، بعد الذي حدث في العامين الماضيين، وفوز اثنين من الكتاب المصريين بها في دورتين متتاليتين، أن افوز بها للمرة الثالثة!، فلجنة التحكيم مهما بلغت موضوعيتها لا تعمل في بيئة مفرغة الهواء، فهي تتعرض لضغوط  حتى ولو كانت غير مرئية، وقد حاولت واحدة من أعضاء لجنة التحكيم أن تفهمني هذا الامر، حين قالت لي: لقد تقارب المستوى الفني بين الروايات الست التي وصلت إلى القائمة القصيرة إلى حد بعيد، فتدخلت اعتبارات أخرى ربما يكون من بينها فوز مصر في الدورتين الأوليين، أو الرغبة في التغليب الإقليمي!

          ولكن الذي «فشّ» غيظي - كما يقولون- هو أن الكاتب السعودي عبده خال أعلن في اليوم التالي لفوزه  أن رواية المنسي قنديل كانت هي الأحق بالفوز.

          هكذا قالها على رءوس الأشهاد، «فانفشّ» غيظي بهذا التصرف النبيل من جانب عبده خال.

  • هل تحدثنا عن الملابسات التي كتبت فيها هذه الرواية؟

          - بدأت كتابة الرواية بفكرة بسيطة وهي أن أقدم قصة اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون من وجهة نظر مصرية، وقد فتنني هذا الحدث منذ أن كنت صغيرا، ولكن هذا الاكتشاف الذي هز العالم منذ 86 عاما لم يظهر في الأدبيات المصرية، على الرغم من أنه قد لفت الأنظار بشدة إلى مصر في هذا الوقت، بل ولفت أنظار المصريين إلى أنفسهم أيضا. بدأت عملية الكتابة والقراءة معا، أصبح عندي رف كامل من الكتب عن أحوال مصر والعالم في هذه الفترة من التاريخ، وببطء بدأت تتفتح أمامي مسارب جديدة لم أكن أتوقعها، وأخذت أسئلة الهوية تطرح نفسها علي بشدة، فقبل هذه الفترة كان المصريون كمًا مهملًا، بشراً بلا أسماء، ولا وجوه أو ملامح، يموت  الألوف منهم  في حفر قناة السويس وفي حروب السودان والبلقان والمكسيك وحتى في جزيرة العرب، وتحصد الأوبئة والمجاعات  آلافا أخرى، مجرد أرقام تسقط من ذاكرة التاريخ دون أثر، ولكن في تلك الفترة بالذات، وكرد فعل للاحتلال البريطاني، استيقظ  المصريون من سبات القرون الطويلة، وبدأوا يفطنون إلى أهمية البحث عن «أل» التعريف التي تخصهم.. عن أسماء وسمات وملامح تخصهم كأفراد، وكان من الطبيعي أن يخرج مصطفى كامل هاتفا: «لو لم أكن مصريا» قول عاطفي وفيه الكثير من المبالغة، لكنه كان ضروريا، وكذلك الأمر مع مختار الذي حاول أن يلملم أطراف التاريخ في تمثال لفلاحة مصرية معاصرة تضع يدها على رأس أبي الهول. ومن المؤسف أن  تلك الفترة الخصبة من تاريخنا كانت قصيرة العمر،  وعاد المصريون كما كانوا، مجرد أرقام تموت بالآلوف في حوادث العبارات، وحرائق القطارات، وانهيار الصخور فوق رءوسهم، وحتى عندما كنت أكتب  فصول  الرواية أخذت الحرائق تتوالي في: قصور وأثار ومصانع ومؤسسات، كأننا  ننسحب مهزومين من هويتنا المؤقتة ولا نترك خلفنا إلا رماد الأرض المحروقة!

          وأسئلة أخرى كثيرة كانت تطرح نفسها علي كلما تقدمت في مراحل الكتابة، لكن .. هل نجحت الرواية في إيصال هذه الأفكار؟.. وهل نجحت أنا في  اثارة المزيد من الأسئلة حول مصيرنا وهويتنا؟.. الله أعلم.

  • ما بين «بيع نفس بشرية» روايتك التي جلبت لك جائزة الدولة في مصر، وهذة الرواية «يوم غائم في البر الغربي» رحلة غير قصيرة، فهل واكبها اهتمام نقدي حقيقي؟

          - بأمانة.. لقد نلت ما أستحق. فبقدر ما قدمت كان اهتمام النقاد بي، لقد كانت رحلتي مع الكتابة طويلة، جربت فيها العديد من الأشكال ولكنها  كانت تصب في بحر الكتابة الذي لا غور له، بدأت رحلتي مثل معظمنا بكتابة القصة القصيرة، وفازت أولى مجموعاتي القصصية «من قتل مريم الصافي؟» بجائزة الدولة التشجيعية في عام 1988 وكان هذا دافعا كبيرا لي، وبالرغم من أنني أصدرت بعدها مجموعة أخرى هي «احتضار قط عجوز» إلا أن شغفي بالسرد دفعني لكتابة شكل أطول هو القصة القصيرة الطويلة، وهو أحب الأشكال إلى قلبي حتى الآن، وأصدرت كتاب «بيع نفس بشرية» واحتوى على ثلاث روايات قصيرة وقد كان كتابا محظوظا، فقد تحولت إحدى قصصه إلى فيلم سينمائي بعنوان «فتاة من إسرائيل» وترجمت جريدة «الجارديان» البريطانية القصة التي تحمل اسم الكتاب ونشرتها في صدر صفحتها الأولى إبان أزمة احتلال النظام العراقي السابق للكويت وكتبت تحتها أنها إحدى القصص التي رصدت الأزمة في المنطقة وتنبأت بالحرب، بعدها أصدرت رواية «انكسار الروح».

          وقد تم اختيارها  كأفضل رواية لعام 1990 ولايزال البعض - وأنا منهم - يعتبرونها أفضل ما كتبت،  بعدها مررت بأزمة نفسية عنيفة، ولم أعد قادرا على العيش في القاهرة..بل وفي مصر كلها، وتوقفت عن الكتابة، وتلك الفترة أصابت مشروعي الروائي بضربة قاصمة،  وغادرت إلى الكويت، وبالرغم من أنني أصدرت في تلك الفترة العديد من المؤلفات: قصص قصيرة وكتابات تاريخية وقصص للأطفال، ومقالات في أدب الرحلات في مجلة  العربي، إلا أنني كنت اعتبر نفسي خارج عملية الكتابة، موقوفاً مؤقتاً عن الخدمة، لم أحس برعشة الكتابة تنتابني من جديد إلا أثناء إحدى رحلاتي إلى وسط آسيا، كنت بالتحديد متجها إلى: سمرقند وبخارى في اوزبكستان، وكان دليل رحلتنا شيخا غريبا، يجيد العربية وواسع الاطلاع بشكل لا يتوافر لشخص عادي مثله، وأدركت على الفور أنني أمام مشروع رواية، فأخذت أسجل كل شيء يمر بي، أسماء الأمكنة والأنهر والقرى، وأدون الحكايات التي أسمعها، والأفكار التي تعن لي، وما إن عدت حتى أخذت أقرأ بتوسع عن هذه المنطقة، وكان هذا مشروع رواية «قمر على سمرقند» التي أعادت الحياة إلى قلمي.

  • قرار الهجرة.. كيف اتخذته؟ وهل هو رفض للعودة إلى مصر التي أمضيت أكثر السنوات بعيداً عنها؟

          - ليس قراراً بالهجرة، إنه غياب مؤقت من أجل تحقيق مهمة محددة، ولن ابتعد عن مصر كما ابتعدت من قبل، سوف أقضي فيها على الأقل أربعة شهور كل عام، ولكن بيني وبينك أنا أفضل الذين يعيشون على حدود الثقافات، وخاصة إذا كنت في مواجهة ثقافة جديدة ومغايرة، هناك كثير من العرب والمصريين في مونتريال، ومن الواضح أن الظروف الصعبة التي نمر بها جميعا قد خلقت عالماً عربياً آخر خارج العالم العربي.. أفضل قليلاً، ولا يعاني من القمع والتسلط من حكامه. وقد أتاحت لي اقامتي القصيرة في هذا العالم الجديد أن ألمس مدى التخلف الذي نعيشه في بلادنا، مقارنة بالتقدم الذي يعيشه الإنسان في تلك البلاد!

  • أعرف أنك لم تصل إلى هذا العالم الجديد متسلحاً بعدته، فأنت مثلاً لم تكن تتحدث الفرنسية وذهبت لتعيش في مونتريال.. كما أنك لم تقرأ بالقدر الكافي عن هذا المجتمع أو تطالع أدبه قبل أن تطأ قدماك أرضه؟

          - نعم..  فأنا بحكم تعليمي أنتمي إلى الثقافة الأنجلوسكسونية، ولم أكن يوماً فرانكفونياً يرطن لسانه بالفرنسية.

          لذا فقد كان أول هدف سعيت لتحقيقه عندما وصلت إلى مونتريال هو الالتحاق بمدارس تعليم الأجانب.. ولأن أهل مونتريال هم أقلية يعيشون وسط بحر من المتحدثين بالإنجليزية فإن الحكومة هناك تخوض معركة يائسة للحفاظ على الفرانكفونية، وجعل الفرنسية تجري على الألسنة، ومن مظاهر الحفاظ على الهوية في مونتريال منع كتابة أي لافتة في الشوارع أو أسماء المحال التجارية بغير الفرنسية.

          كما تمنح الحكومة للمهاجرين الجدد نحو 800 ساعة لتعلم الفرنسية بالمجان، بل وتعطي المهاجرين منحة مالية سخية أثناء هذة الفترة الدراسية لتأمين معيشتهم، وتشجيعهم على الاستمرار في الدراسة.

          ولأن هذا يتوافق مع رغبتي في التحدث بالفرنسية والقراءة بها باعتبارها لغة بالغة الأهمية في مجالات: الأدب والفكر والفن أيضاً. فقد التحقت بإحدى هذه المدارس..  صحيح أنني  أكبر الموجودين سناً في فصول هذه المدرسة أو المعهد الدراسي فزملائي طلبة في عمر أبنائى، أو أحفادي وأغلبهم من الصين التي تُصدر نسبة كبيرة من المهاجرين الآن إلا أنني أكون سعيداً جداً بذلك.

          المهم أنني أقضي يومي في التعرف على الحياة الثقافية في كندا، وليلي في الكتابة.. والآن أكتب رواية جديدة أعطيتها، مؤقتا، هذا العنوان «حصار الروح» وهي امتداد لـ«انكسار الروح» وربما تفرض على أحداثها عنواناً آخر.

  • وكيف ترى حاضر السرد العربي؟

          - لدينا، اليوم، موجة شبابية أثرت بقوتها وعنفوانها وزخمها وتجددها فينا نحن الكبار. وأعترف بأنني أفدت كثيرا، في روايتي الأخيرة «يوم غائم في البر الغربي»، من مغامرات هؤلاء الشباب.

          كما أرى أن إبراهيم عبدالمجيد  بروايته «في كل أسبوع يوم جمعة» ودخوله إلى العالم الافتراضي قد وصل بالرواية إلى عوالم جديدة لم تكن قد وصلت إليها قبله.

          وأنا أعرف بأن إبراهيم مشغول، منذ زمن، بفكرة توسيع رقغة الرواية العربية، وقد أعجبتني كثيرا هذه الفكرة فأخذت أطبقها على نفسي لدرجة أنني كتبت «قمر على سمرقند» وفكرته ماثلة في ذهني.

          ويجب أن نعترف بأنه أضاف لنا جميعا حقلاً جديداً، والرواية العربية مدينة له بهذا الفضل.

  • إذن كيف لم تصل هذه الرواية، وهي بهذه الأهمية، إلى تصفيات البوكر؟

          - لا أدري.. صدقني لا أعرف حتى الآن ما هو السر وراء عدم تصعيدها، واستبعادها من التصفية الأولى؟! .. كما لا أعرف أيضا لماذا لم تصعد رواية «أبناء الجبلاوي» لإبراهيم فرغلي أو رواية «فرج» للدكتورة رضوى عاشور؟! ويبدو أن زحام هذه  الأعمال المصرية الكبيرة قد أوقع القائمين على البوكر العربية في حيص بيص! وجعلهم يتخلصون من هذه الكتل الضخمة. ولو لم يحدث هذا لجاءت القائمة القصيرة وكل خاناتها مصرية.

  • نحن لم نختلف على أهمية الرواية الجديدة التي تسعى إلى ارتياد عوالم غير مألوفة كما فعل إبراهيم عبدالمجيد في روايته الأخيرة التي توافرت لها قيمة أدبية من خلال وعي كاتبها بفنه ولغته، ولكن كيف تنظر إلى ما تزدحم به الساحة الآن من مدونات بدأت في العالم الافتراضي ثم هبطت إلى عالمنا الورقي؟

          - المدونات والإنترنت أتاحتا مساحة هائلة من الحرية التي يجب ألا نحجر عليها تحت أي مسمى. ويجب أن نترك لها المجال ليحكم عليها الزمن، فيذهب الغث منها ويبقى ما هو  جدير بالبقاء.

          ويجب أن نعي أن ولادة كاتب جيد أمر لا يجود به الزمان بسهولة، وأننا إذا ما كسبنا من كل هذا اسماً واحداً أو اسمين فهذا يمكن أن يعتبر شيئاً عظيماً.

          وهذه الكتابة الجديدة هي وليدة الحرية، ووليدة اتساع الأفق، وعلينا أن نحميها ونحافظ عليها. ونعي أن الاهتمام بدأ يتحول من الصورة والفضائيات إلى الكتابة الإبداعية.

          وهذا شيء رائع فقد أعادت الإنترنت الاعتبار للكلمة المكتوبة مرة أخرى. لذا فعلينا أن نستبشر بها خيراً.

  • لكن من هم الكتاب الذين تحرص على متابعتهم  سواء على المستوى الفني أو الإنساني؟

          - كثيرون في مقدمتهم محمد المخزنجي، إنه شقيق روحي، أتابعه سواء كتب مقالة أو قصة قصيرة، وأراه من أهم الكتاب في مصر الآن وأُعجب كثيراً بحرصه على جمال اللغة ونقائها. وإذا كنا قد أخذنا على المدونين إهمالهم اللغة، وتفريطهم في قواعدها، فإن المخزنجي يعد أنموذجاً للكاتب صاحب الأسلوب الأنيق الذي يدقق في أي معلومة يكتبها، ويعد كل كتاب من كتبه إضافة للمكتبة العربية، كما أنني أحرص على قراءة كل ما يكتب إبراهيم عبدالمجبد فهو ممن أُعجب بإخلاصهم للكتابة الأدبية، وطبعا أحب كتابة خيري شلبي الذي أراه سارداً عفوياً، وحكاء تلقائياً له أسلوبه الطيع في تضفير الحكايات تماماً كما في «ألف ليلة وليلة»، ويجب ألا أنسى رفقة العمر من كتاب المحلة، سعيد الكفراوي الذي أعتبره واحدا من أفضل كتّاب القصة القصيرة في مصر وهو أصدق مَن كتب عن القرية المصرية وسبر أغوارها، وكذلك جار النبي الحلو صاحب أغنيات البساطة والقصص الصافية الروح، وفريد أبو سعدة وهو واحد من أفضل شعراء جيله.

          وينبغي أن أذكر أيضاً أنني معجب بمؤلفين من خلال روايات بعينها، مثل علاء الأسواني في «عمارة يعقوبيان». فهو كاتب يمتلك القدرة على جعلك تحب قراءة نصه، وتستمر معه.

          وأتصور أن علاء الأسواني أنقذ الرواية العربية من المخاطر التي سببها «النص المغلق».

          وأنا شخصياً أحببت «عمارة يعقوبيان»، وأدعو الأسواني أن يكرر هذه التجربة.

  • وشيكاجو..؟

          - قرأتها .. ولكن «يعقوبيان» أنضج منها فنياً وإنسانياً، وبصراحة هي لم تصلني كما وصلتني روايته الأولى التي كانت مفاجأة حقيقية لي.

  • قل لي: كيف اتجهت إلى الكتابة الإبداعية؟ ومن الذي فتح أمامك هذا الطريق؟ ولماذا درست الطب وهجرته بعد سنوات قليلة جداً من الممارسة العملية كطبيب في الأرياف؟

          - لا أعرف متى بدأت الكتابة، ولعل الكثير من الكتاب سوف يقولون لك نفس الإجابة، ولكن القراءة لفترات طويلة كانت بديلاً لي عن اللعب في الحارة، فقد كنت طفلاً بالغ النحول، لا يتمتع بأي مهارات، ولا يصلح للعب في أي مركز، وكان أبي رحمه الله «معلم» كبيراً يمتلك  قاعة مليئة بأنوال النسيج اليدوي ويعمل تحت إمرته العديد من «الصنايعية» الذين ينتجون الأقمشة الحريرية التي تشتهر بها مدينتى.. المحلة الكبرى، ولكن عندما أقيم مصنع النسيج الكبير انهارت هذه الصناعة وصمتت الأنوال، تحولت إلى كومة من الخشب، وخلت القاعة الكبيرة إلا من أبي الذي  اضطر للتحول إلى صنايعي يحاول أن يكسب عيشه من هذه المهنة الشاقة، ولأنه أصبح وحيداً وتعيساً في هذه القاعة الباردة فقد عرض علي أن أجلس بجانبه في إجازة الصيف وأقرأ عليه الكتب بدلا من أن أقرأها وحدي، وزاد من مصروفي حتى أحضر المزيد من الكتب، وهكذا امتلأت القاعة الصامتة بالفرسان والعشاق والقراصنة والملوك وشهداء الغرام، قرأت على أبي روائع الأدب العربي، وكل روايات الجيب، وتاريخ الإسلام لجورجي زيدان، وأرسين لوبين وشرلوك هولمز، وكل روايات رافائيل سباتيني، كان هو عاكفاً على العمل وأنا منهمك في القراءة وكنا نبكي ونضحك معاً، وكانت هذه أمتع لحظاتنا، وهي بحق التي علمتني قيمة الإبداع ودوره في مداواة القلوب الكليمة.

          أما حكاية الطب فمختلفة، فقد كنت أعرف كما يعرف الجميع أن الأدب لا يؤكل عيشاً ولابد من مهنة بجانبه، حتى نجيب محفوظ بجلالة قدره قضى الشطر الأعظم من حياته موظفاً، وقد أنهيت دراسة الطب وعملت في الأرياف وفي ضواحي القاهرة، ولكني في النهاية لم أجد بُداً من التفرغ للأدب، وقضيت سنوات طويلة في الصحافة، وسنوات أخرى ككاتب متفرغ، لقد تفرغت أخيراً ولم يعد ورائي إلا هم الكتابة وأرجو أن أستطيع إكمال مشروعي الروائي الذي مازال ناقصاً بطريقة فادحة.

  • «الدوحة»  ثم «العربي»  محطتان أساسيتان في مشوارك.. كيف تتأملهما الآن هل توافق على القول بأن «العربي» لها فضل على إبداعك الروائي؟

          - عرفت مجلة «الدوحة» في وقت مبكر، وكانت تجربة جميلة بالرغم من أنها لم تكتمل، لقد احتضنت أولى تجاربي في إعادة صياغة التراث، وأعطتني الثقة التي كنت أحتاج إليها وأنا بعد في بداية الطريق، وجعلتني أكتشف أنني كاتب مقروء، ولكن تجربة «العربي» كانت مختلفة، لقد بدأت علاقتي بها كاتباً، ثم تحولت إلى محرر فيها، كانت تجربة بديعة في حياتي، عيبها الوحيد أنها طالت بعض الشيء، ولكنها عرفتني بخريطة الإبداع في العالم العربي، كما أتاحت لي فرصة السفر حول العالم. العمل في «العربي» يختلف عن أي مجلة أخرى، فأنت دائما تتعامل مع كتيبة المثقفين سواء في الكويت أو في مختلف أرجاء عالمنا العربي، وقد توالت على رئاسة تحريرها نخبة من المثقفين العرب، تميزوا باتساع الأفق وبالثقافة العميقة، وقد عملت مع اثنين منهما، الدكتور محمد الرميحي ثم الدكتور سليمان العسكري،  قضيت الفترة الأكبر مع الدكتور العسكري وقد تقاربنا إلى حد كبير لأنه كان يعطي كل وقته للمجلة، وهو يتمتع بأفق واسع، ويمنحك قدراً كبيراً من الحرية في العمل، ولا يتدخل إلا عند حدوث الخطأ، وله أفكار مهمة في تطوير المجلة استطاع أن يحقق البعض منها، ومازال يحاول التغلب على العوائق البيروقراطية التي تحول دون تنفيذ بقية هذه الطموحات.

          وعلى المستوى الشخصي فقد رأيت العالم كما لم أره من قبل، وقد أتاحت لي رحلاتي لإجراء استطلاعات «العربي» شرقاً وغرباً فرصة كتابة روايتين: «قمر على سمرقند»، و«جواز سفر» التي تحدثت فيها عن قصة كل ختم وكل تأشيرة  دخول موجودة على جواز سفري، وللأسف فقدت هذه الرواية وهي مخطوطة ولم أستطع كتابتها مرة أخرى، ولكن لايزال في جعبتي الكثير من التجارب.

  • كيف تفسر عدم استقرار المنسي على شاطئ، وإلى ماذا ترجع تقلبه  بين القصة والرواية والمقالة والسيناريو والكتابة للطفل؟

          - أنا أحب التجريب وممارسة مختلف الأشكال، ولكني نادم على ذلك، لقد أهدرت كثيراً من الطاقة بعيداً عن الرواية.. فشلت في اختراق عالم السينما كما كنت أتمنى، وعدت بهزيمة ساحقة وعدة سيناريوهات لم تنفذ، كنت أريد أن أفعل شيئاً كما فعل نجيب محفوظ، ولكن ماذا أفعل مع سينما مريضة ترفض أي تجديد، في إحدى المرات التي قابلت فيها الممثل الشهير عمر الشريف قال لي في أسف كل الذين أتوا إلينا في عالم السينما كانوا كتاباً من الدرجة الثانية، لم يأت إلينا من كتاب الدرجة الأولى سوى نجيب محفوظ، ولا أدري لماذا جعلني هذا الأمر أصر على الكتابة للسينما أكثر من مرة، ولكني اكتشفت أنها سينما مريضة تقوم بطرد المبدعين.

          ويستطرد المنسي قائلاً: لكني قدمت شيئاً للأطفال ومازلت أقدم، والكتابة للأطفال هي التي تحافظ على توازني النفسي، ولا تدفعني لليأس والإحباط وخاصة في فترات الصمت والتوقف عن الكتابة.

  • تقول إن رأسك مثقل بالمشروعات الروائية.. فهل اعتدت على الدخول في حوار معه؟

          - رأسي مثل رأس كل مؤلف مليء بالأفكار، ولكنك كما تعرف فالكتابة دائماً أكبر من الكاتب، والأفكار المتوهجة داخل الرأس، تصبح باهتة على الورق، هذه المشكلة هي التي تواجهني دوما، فتجعلني أتوقف عن الكتابة، ففي لحظات مثل هذه أشعر بأنني لا أملك الإمكانية اللازمة لترجمة أفكاري، بل وأشك أيضاً في قدرتي ككاتب، فكل رواية تبدأ بطموح كبير، ولكن هذا الطموح يتضاءل مع مرور عملية الكتابة، وتدرك أن أفضل الروايات هي التي لم تكتب بعد، وعندما أقرأ أي عمل إبداعي أشعر في داخلي بشعورين متضاربين، فهناك أعمال أعرف أنني أستطيع الوصول إليها وكتابة مثلها، وهناك أعمال أخرى أدرك سلفاً أنني دون مستواها، ولن أستطيع الوصول إليها، هناك كتاب ينزعون سنة الغرور من داخلي، ويجعلونني أدرك حجم إمكاناتي.

  • نود أن نعرف كيف تكتب؟ وما هي طقوسك مع الإبداع؟

          - لا توجد لي طقوس.. لقد تعودت على الكتابة في أي وقت وتحت أي ظرف، أنا فقط أرتاح حين أكون داخل حيز ضيق، وأن تكون الورقة قريبة مني لأن خطي صغير ومتلاصق، وبالرغم من أنني أكتب كثيراً على الكمبيوتر إلا أن الرواية يجب أن أكتبها بخط يدي أولا ثم أنقلها بعد ذلك على الحاسوب.

          ويخيل لي، وأنا مخطئ بلا شك، أن الكتابة على الكمبيوتر مباشرة تفتقد العمق الذي تتيحه لك حركة القلم على الورق، البحث عن الأزرار يشتت الذهن بينما يمنحك القلم نوعا من الإنسيابية، عموماً لقد تعودت الكتابة في أي مكان، وفي أي جو من الضجة، المهم أن أصل إلى حالة الاستغراق، وبعد ذلك لا يهم أي شيء يحدث، أنا أؤلف الروايات بطريقة غريبة، أكتب فصول البداية والنهاية، ثم تكون مشكلتي ماذا أفعل في المنتصف، يخيل لي أن نقطتي البداية والنهاية هما أهم ما في الموضوع، أما ما يأتي بعد ذلك فهو رحلة على الطريق.

  • من هو الناقد الذي تحرص على أن تُصغي إليه وتطلعه على نصك قبل أن تدفع به إلى الناشر؟

          - هناك كثير من الأصدقاء لهم آراء مهمة فيما أعمل، ربما بعضهم غير معروف في مصر مثل فايز الداية وهو ناقد سوري ممتاز، لكني كما تعرف أحرص دوماً على سماع رأي صديقنا القديم الجديد محمد المخزنجي، فهو ذو رأي قاس ولكنه صائب في أحيان كثيرة، وهو دائماً ما يصر على تذكيري بفضيلة الاختزال عندما أقع في خطيئة الإسهاب.

  • هل تقرأ الواقع العربي الآن؟

          - إنه واقع مؤلم، ويكفي أننا نعيش على هامش العالم، وقد رأيت هذه الصورة بشكل أوضح عندما أطللت على هذا العالم الخارجى، إنهم يتأملوننا بمزيج من الاستهزاء والسخرية، وكل خبر يصدر عن عالمنا، أو أي تصرف يقوم به مسئول عربي يفسر في الغرب من باب التندر، وغرائب الأفعال! وهم للأسف ينظرون إلى منقطتنا على أنها إحدى بؤر الاستبداد في العالم، ويرونها بؤرة متخلفة من العصور الوسطى لا جدوى في تقدمها أو محاولة إصلاحها.

  • وفي النهاية يقول المنسي:

          أتمنى ألا تطول بي الإقامة في كندا. فهي مجرد مرحلة، كما أرجو ألا تتباعد المسافة الزمنية بين أعمالي، فأنتهي من الرواية التي تشغلني الآن بسرعة لأكتب غيرها، فأنا كما قلت لك أحس أن رأسي مزدحم بالمشروعات الروائية، والعمر يمضي بنا ولم يتبق الكثير.





د. المنسي قنديل مكرماً من مجلة العربي ويتسلم درع التكريم من الدكتور سليمان العسكري رئيس التحرير





محمد المنسي قنديل ومصطفى عبدالله





مع صديق العمر سعيد الكفراوي





نلت ما أستحق وبقدر ما قدمت اهتم النقاد بي





د. المنسي بجوار رئيس التحرير د. سليمان العسكري يتوسطان أسرة «العربي» في حفل تكريم د. المنسي





في حوار خاص مع جار النبي الحلو





المخزنجي شقيق روحي وناقدي الأول





أرجو أن أستكمل مشروعي الروائي الذي ما زال ناقصا بشكل فادح





 





 





الإنترنت أعادت الاعتبار للكلمة المكتوبة مرة أخرى