صلاح محمد وهناء طيبي

صلاح محمد وهناء طيبي

* الأمية الثقافية لا تستطيع أن تصنع فيلما جيدا

* العلاقة بين النقد والإبداع هي علاقة الثابت بالمتحول

* أجمل ما كتب عن الحضارة العربية هو ما خطته أقلام المستشرقين

صلاح الدين محمد, من الشخصيات المهمة في الثقافة والفن السوريين المعاصرين, وأحد الأعلام الكبار في مجال الإعلام المرئي. تألقت مواهبه مابين الفن التشكيلي, مبدعا وناقداً له, والأعمال التلفزيونية, توثيقاً وتجديداً, وهو في الأصل مهندس معماري. ولد في حلب عام 1949 وعمل عضواً في هيئة تحرير العديد من المجلات الفنية وقدم تعليقا على أكثر من 40 فيلما وثائقيا كما أعد فيلما عن النحت السوري وأعد جزءاً من فيلم (مذكرات وطن) عن سوريا بالإضافة إلى العديد من الأفلام السياحية والوثائقية. تعاقب على مناصب إدارية عديدة, وشغل منذ عام 1991, منصب رئيس دائرة البرامج الثقافية في التلفزيون العربي السوري, وكان عام 1970, وهو البداية, عضواً في هيئة التحرير والمستشارين في عدد من المجلات المحلية والعربية, وكاتباً عن الفن التشكيلي في سوريا والبلاد العربية, ثم بدأت أعماله التلفزيونية تتوالى. ومابين الخطوة الأولى.. واللحظة الراهنة, تولدت محطات مهمة في مساره الثقافي والفني.وقد قامت بإعداد هذا الحوار معه الصحفية والأديبة السورية هناء طيبي التي تهتم كثيراً بقضايا الفن التشكيلي وقد مارست هذا الإبداع النقدي في الصحف المحلية والعربية, بالإضافة إلى مشاركتها في الندوات التلفزيونية حول كل الأنشطة الفنية وقد سبق لـ (العربي) أن نشرت لها أكثر من مواجهة.

* سأعترف منذ البداية, بأن الحوار معكم لابد أن يكون متشعباً, وسأبدأ بجانب إعلامي عربي مهم, وهو مآل رغبة جامعة الدول العربية, في إنتاج أفلام عن الحضارة العربية, لعرضها في محطات التلفزة الغربية, وبصفتكم أحد المشاركين في اجتماعات خبراء الإعلام العرب حول هذا الموضوع, فإلى أين وصل الإنجاز بعد سنين من المناقشات بين وزراء الإعلام العرب?

ـ نعم, لقد أقر مجلس وزراء الإعلام العرب في عام 1989, خطة إعلامية عربية على الساحة الدولية ومن ضمنها إنتاج مسلسل تلفزيوني حول الحضارة العربية, حيث عقدت اجتماعات عديدة منذ ذلك الحين, إن كان على صعيد الوزراء أو لجان الخبراء, وآخرها الاجتماع الذي تم في مقر الجامعة بالقاهرة, وكنت مشاركاً فيه, ولم يسفر إلا عن تقليص عدد الأفلام (خمسة أفلام بدلاً من عشرين), إضافة إلى أنه تم تحديد محاور الأفلام بشكل نهائي, وقد أمكن التغلب على مشكلة التمويل, بأن تتحمل كل دولة عربية راغبة في إنتاج فيلم من هذه الأفلام, كلفة الإنتاج على أن تقوم الدول العربية بشراء نسخ منها.

* لنعد قليلاً إلى الوراء, حيث كتبت الصحف العربية وقتئذ عن التمويل وحجمه الذي لم تتمكن دول الجامعة العربية من تأمين التكلفة (2.5 مليون دولار), والسؤال هو: هل تعتبر هذه التكلفة مناسبة? لاسيما أننا نعرف أن هذه الأفلام ستعرض على الشاشات الغربية, بهدف تغيير صورة العرب التي لحقها الكثير من التشويه في الإعلام العالمي?

ـ لا.. فالتكلفة تعتبر متواضعة جداً, بالمقاييس المتعارف عليها عالمياً, متواضعة إلى الحد الذي يشك فيه أن يتم إنتاج أفلام ذات مستويات رفيعة بهذه الميزانية التي روعت خبراء وزراء الإعلام العرب, ولكي نقف على مستوى التمويل العالمي أذكر بأن الإيطاليين الذين ينتجون عشرين فيلماً عن معطيات الحضارة الرومانية, سخروا (25) مليون دولار لإنتاج الفيلم الواحد, وسخروا إمكانات تقنية عالية لتنفيذه, ولمست ذلك بنفسي بصفتي كنت المشرف على سيناريو ماتم تصويره في سوريا من آثار, تعود إلى الفترة الرومانية, وذلك بتكليف من الدكتور محمد سلمان وزير الإعلام السوري, إضافة إلى أن الفيلم الذي قرر تصنيعه عن الحروب الصليبية قدرت ميزانيته بمائة مليون دولار, وحتى لانذهب بعيداً, أود أن أوضح كيفية تعامل الغرب مع معالجة الحضارة العربية تحديداً, فقد خصص لتوماس. ج. أبر كرومبي, مائة ألف دولار لكتابة مقال واحد في مجلة (الناشيونال جيوجرافيك), عن ابن بطوطة والأماكن التي زارها, وقد نشر المقال في نهاية عام 1991, خلاصة القول: إن مواجهة العقل العربي بخطين متقاطعين أو متوازيين لاتتم بمحاكمة عقلية لاتستوعب هذه الحقائق.إن إنتاج أي فيلم وثائقي هو في الواقع صناعة, أحد أطراف هذه الصناعة, هو معد المادة العلمية, وبكل صراحة أقول: إن معدي المادة, أي أصحاب الاختصاص في المادة النظرية هم أميون بصرياً, أما المنفذون فهم أميون ثقافياً, وبالتالي فإن الأمية البصرية لاتستطيع أن تقدم مادة جيدة للمنفذ, والأمي الثقافي لايستطيع أن يصنع فيلماً جيداً يترجم أفكار المعد النظري, هذا هو واقع الحال, ولابد لصناع أفلام كهذه أن يمتلكوا خبرة البحث الجاد والتجربة التلفزيونية معاً, هذا من جانب, ومن الجانب الآخر, فإن مواجهة العقل الغربي لتصويب صورتنا المشوهة ولنقل صورة صادقة, لاتتم بالنقل عنهم والإبحار في مياههم بقواربهم, فلتسمحي لي بأن أتطرق إلى هذا الموضوع بكل صراحة, إن الباحثين العرب في كل ماكتبوه عن الحضارة العربية بمعطياتها وتأثيرها في الحضارة الغربية, إنما اعتمدوا على الكتابات الغربية في هذا الصدد, لقد ترجموا حرفياً ونقلوا مطابقة, منهم من نسبها إلى المصدر, ومنهم من صمت عن ذلك احتيالاً, كانت البداية مع غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) في نهايات القرن التاسع عشر, ولاحقاً مع (توماس أرنولد) في مجموعته (تراث الإسلام), وبعده شاخت, وهونكه, ومتز, وريسلر, ومارسيه, وجيب, وأندريه مايكل.. وغيرهم, حتى أن الكتابات عن تاريخ العرب أمنياً واجتماعياً وحضارياً لم تخرج عن كتابات بروكلمان وسورول وبرنارد لويس ومكسيم رودنسون, وفي مجالات الفنون, نسخت كتابات اتينكها وزن, وتالبوس رايس, وأرنست كونل, وبابادوبولوس, إن هذا الأمر ليس بجديد علينا مع الأسف, أي أن نتعرف أنفسنا من خلال مرآة الآخرين, فالتاريخ العربي بقسمه القديم سقط في فخ التوراتية من حيث التاريخ القديم للشعوب, وهم بذلك قدموا خدمات جليلة لعلم الآثار الغربي المعاصر, حينما بحثوا عن المطابقة القسرية بين التوراة والمكتشفات الحديثة, ذلك المنهج الذي كرسه لاياردو المشبوه وخلفاؤه من جيوش علماء الآثار الملفقين, هل تعلمين بأن كل ماكتب عن الجغرافيا العربية التاريخية إنما يحوم فقط حول ماكتبه الهولندي دي خويه, والفرنسيان بلاشير ودرمون, والروسي كراتشكوفسكي, بل إن الكتب التي بين أيدينا لأبي الفداء وابن خروذيه والمقدسي وغيرهم إنما هي من تحقيق غربيين وحتى فترة قريبة كانت تقدم هذه الكتب إلى القارىء العربي تصويراً عن مطبوعاتهم. إن الهوس بهذا الأمر وصل إلى حد طباعة كتب أندريه مايكل المشبوه عن الجغرافية الإسلامية بنسخها العديدة من قبل إحدى وزارات الثقافة العربية وهي تزيد على كل ماطبعته هذه الوزارة عن مؤلفات الجغرافيين العرب وهذه حتى عندما نشرت للمقدسي مثلاً اكتفت بمختارات من كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم), وكذلك شيخ الـ(بوه) في كتابه (نخبة الدهر في عجائب البر والبحر), وبعد كل ذلك نتحدث عن الغزو الثقافي وعن تشويه صورتنا في الغرب وهكذا.. إن الملاحظات عديدة في هذا المجال فهناك مؤرخون بنوا أمجادهم على مؤلفات الكتّاب غير العرب الذين كتبوا عن حروب الفرنجة (حروب الصليبيين) وباتوا اليوم مرجعيين في هذا الصدد مع أن ما ألفوه هو ترجمة أو نسخ, وكل ماعملوه أن وضعوا أسماءهم بخطوط بارزة على أغلفة الكتب, بل وصل الأمر بهؤلاء الذين يتبجحون أكثر من غيرهم بالغيرة على التاريخ العربي إلى التباهي في مؤلفاتهم بعرفان برنارد لويس المشكوك في إنصافه للعرب, وهو الذي يضيق مفهوم العربي, ويخرج السوريين والمصريين من دائرة العروبة الأصلية, ويخرج الموارنة في لبنان, والأقباط في مصر نهائياً منها, كل ذلك في كتابه (العرب في التاريخ), ليس هذا فحسب فإن فارمر مازال مسيطراً تماماً على كتاباتنا عن الموسيقى العربية, وأخيراً بابادوبولوس وتأثيره في دراساتنا في الفنون والعمارة العربية, وقد أخبرني بعض الزملاء في باريس بأن الأخير متذمر من سرقة كتاباته وصوره ونشرها بالعربية كاملاً, وبالطبع بعد أن يتهموه وينتقدوه بالانحياز والإساءة, وهكذا.

* هل نفهم من هذا بأن المستشرقين والمستعربين قد أساءوا إلى حضارتنا?

ـ أنا لم أقصد ذلك, ولايجوز أن أقصد ذلك, إذ إن أجمل ماكتب عن الحضارة العربية إنما جاء من الألمانية هونكه, ولن ننسى أبداً مؤلف غوستاف لوبون الذي طبعه في نهاية القرن التاسع عشر عن حضارةالعرب والذي نبه الغرب في ذروة استعباده للشعوب إلى أن التاريخ لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب, وكذلك سيديو الفرنسي بمؤلفه المهم, (تاريخ العرب), الذي ألفه بعيد منتصف القرن الماضي, والذي لفت انتباه أوربا إلى الآثار الجليلة للأمة العربية وعلو شأنها, وتفرد جمال أخلاقها, وعوائدها, منذ أربعة آلاف عام, هذه التعابير له, بل قصدت أننا توقفنا في فهمنا لحضارتنا عند حدود ماكتبه الغرب, ورددنا أقوالهم, واكتفينا باستنتاجاتهم دون أن نضيف ونبحث ونستقرىء, ولا أقول في الوقت نفسه إن ماكتبه العقاد أو مؤنس أو عكاشة أو الريماوي في العمارة خاصة, لم يكن مفيداً, بل مازلت أصر على أن البحوث العربية في هذا الشأن مازالت نظرية وتجميعية ومعلوماتية, بعيدة كل البعد عن الإبداع والابتكار واستخلاص النتائج والقيام بمقارنات جدية لاستخلاص معطيات الحضارة العربية برؤية شمولية.

تجميع القطرات

* إذا كنت تنتقد بهذه الصورة العنيفة, فهل أقدمت على خطوة من هذا النوع في كتاباتك أو أعمالك التلفزيونية ?

ـ ليس بمقدور فرد واحد أن يعمل كل شيء, وأقول بشكل محدد أكثر, إن المرء يسهم في إضافة بضع قطرات إلى بحر, بضع قطرات فقط, ومادمت قد سُئِلت هذا السؤال, فأقول إنني حاولت أن أكون في عملي عينياً, وفي طريقة بحثي مادياً وليس نظرياً, ففي المرحلة الأولى ولسنين عديدة جمعت المعلومات من الكتب أو ميدانياً من خلال الأسفار, من استونيا إلى جورجيا, ومن موسكو إلى باريس, ومن تونس إلى الكويت, ومن القاهرة إلى فيينا, ومن استانبول إلى برلين وروما, لقد أردت أن أطلع على المتاحف وعلى المجموعات الخاصة, وعلى كل ماقد يساهم في توسيع دائرة إطلاعي, وفي المرحلة الثانية التي أتت موازية مع الأولى, جمعت آلاف الصور والشرائح الضوئية (السلايدات) والخرائط القديمة وأعمال الجرافيك النادرة وقد كان طموحي أن أحصر المعطيات والموجودات لكل مايتعلق بوطننا العربي, وكانت المرحلة الثالثة التي أتت موازية للأولى والثانية هي القيام بتحليل مقارن للحضارة العربية مع الحضارات الأخرى, وقد وظفت القليل من ذلك في أعمالي, لاسيما في أفلام من قبيل (آفاق حضارية), ومن (ديلمون إلى أوغاريت), و(الحضارة الإسلامية في سوريا), ومع اقتناعي أن تقديم الجديد أمر صعب جداً, علينا أن نفكر بالإضافة مهما كانت صغيرة, فالجديد تماماً أمر نسبي, زيغريد هونكه, مثلاً, كتبت عن الكلمات العربية التي تسربت إلى اللغات الأوربية, إنه أمر جميل, ولكنها لم تكن الرائدة في هذا المجال, حتى أن أحمد زكي في رحلته الأندلسية في نهاية القرن التاسع عشر كتب عن ذلك, أحمد فارس الشدياق انتبه إلى هذا الموضوع أيضاً, إن أصحاب الحضارات هم الأكثر حساسية تجاه حضاراتهم.

* بمناسبة الحديث عن الوثائق التي تملكها, فقد كتبت الصحافة أكثر من مرة عن ذلك, وقد تساءل أحد كتاب الزوايا, عن كيفية الاستفادة من هذا الأرشيف الضخم, وأضيف بأن هذا الأمر قد انكشف في منتصف الثمانينيات حينما كتبت في مجلة الحياة التشكيلية مصححاً بالوثائق, وكذلك في المقابلات التلفزيونية, وجاء برنامج (آفاق حضارية) خير دليل على ذلك كله, فهل لك أن تكشف محاور الوثائق التي تملكها?

ـ إن الوثائق التي أملكها ليست ضخمة, بل هي نوعية, إذ تستطيع أن تخدم أي موضوع وطني أو عربي, وأعترف في البداية بأن كل هذه الوثائق هي موجودة في مكان ما, ولكن الوثائق بمجموعها, كما أعتقد أنها غير موجودة في مكان واحد, وهذه هي نقطة القوة فيما جمعته, فمثلاً في مجال الفن التشكيلي, وثقت الفن السوري توثيقاً واسعاً, إن كان على صعيد اللوحات أو الصور الشخصية, أو أدلة المعارض, وقد كرست جزءاً صغيراً من هذا الأرشيف في الافلام التليفزيونية الثلاثين تحت عنوان (الفن التشكيلي في سوريا) والتي عرضت في عام 1982, وقد وثقت الفن التشكيلي العربي المعاصر, بما يقترب من الإحاطة إن كان على صعيد الصور أو المقالات أو الكتب, وأما على صعيد الفلكلور المحلي أو العربي, الفنون التقليدية أو الأزياء, فإنني كلما راجعت الأمر أستغرب كيف استطعت تجميع هذا القدر من الصور النادرة التي تعود إلى القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا, أما بخصوص الحضارة العربية فقد انصب اهتمامي على الفنون الدقيقة والرفيعة, وعلى التصوير العربي والمنمنمات ورسومات الكتب وبالطبع جمعت عن العمارة الإسلامية, والعلوم العربية والجغرافية العربية الشيء الكثير, ولكن أهم مجموعة في الوثائق هي لصور لوحات الاستشراق أولاً, فبالإضافة إلى معظم مجموعات الكتب الفنية التي صدرت في العالم, فقد جمعت معظم مانشر في المجلات والصحف, وكتب الرحلات القديمة وصور المعارض الخاصة بذلك, وثانياً مجموعة الخرائط التي أملكها, فبالإضافة إلى أطالس نادرة أجنبية وعربية, وأطالس تاريخية جغرافية صدرت عن المؤسسات الضخمة, فقد جمعت خرائط أصلية تعود إلى القرنين الثامن والتاسع عشر بما فيها أطالس عثمانية, أما فيما يتعلق بسوريا فأعتقد أنني أملك معظم ماصدر منها أو عنها من خرائط. أما عن نسخ الخرائط أي الطباعة المعادة فأملك منها الكثير, إن كانت بريطانية أو فرنسية أو هولندية أوغيرها..., وأود هنا أن ألفت الانتباه إلى ضرورة اهتمام المؤسسات العربية بهذا الجانب, وأعتقد أن العرب لم ينتبهوا إلى هذه الخرائط إلا مرتين, مرة عندما اغتصبت فلسطين, ومرة ثانية حينما غزا العراق الكويت, وباختصار فإن ما أملكه من وثائق يستطيع أن يغطي رحلة ابن بطوطة في الأماكن التي زارها كافة, مدينة أو بلدة أو جبلاً أو زياً, إن كان في جزر المالديف أو مجاهيل الهند أو صحارى مالي, وأتمنى أن تكون هذه الرحلة يوماً أحد أفلامي الوثائقية التي سأنفذها, إن عاجلاً أم آجلاً.

العالمية وطغيان الثقافة

* إن لك موقفاً مما يتم تسميته بالحضارة العالمية أو الثقافة العالمية, ولعل المناقشات الحامية التي حدثت في بينالي القاهرة الأخير حول العالمية في الفن أو الثقافة والتي كنتم أحد أطرافها دليل على ذلك, أليس العالم قد تحول إلى قرية صغيرة كما يقال, فلماذا الحذر من العالمية?

ـ لايقصد من العالمية, كقصدك الحيز, فالعالمية هنا تعني طغيان الثقافة الواحدة, أي هيمنة ثقافة الشمال على الجنوب, وجعل ثقافة الجنوب تدور في فلك الشمال, وبتحديد أدق أن تصبح الثقافة الغربية ثقافة البشرية, ويراهنون على ذلك من خلال سيادة النمط الجمالي الغربي, وسيادة اللغة البصرية ذات التقنية العالية عبر الأقمار الصناعية, من خلال اللباس الغربي, والوجبات السريعة الغربية, من خلال نمط المعيشة وطريقة الحياة والتفكير, إن ذلك يساعد فعلاً ليس على استقرار أوربا فحسب, بل وعلى رفاهية الغرب, كل شيء مدروس لديهم, كل شعار له هدف, اجتمعنا في استانبول في المؤتمر العالمي الأول للسكان (المنظم من قبل الأمم المتحدة, ومنظمةاليونسكو) يطالبون بتحديد النسل وليس تنظيمه, إنهم يخشون من طوفان البشر في عالم الجنوب, يعرفون أن زيادة السكان ستؤدي إلى نقص في حصة الفرد من كل شيء, ومن الديمقراطية بشكل أساسي, وبالتالي يخافون من الهجرة واللجوء إلى الغرب, إن تنظيم النسل أمر جيد ومطلوب, ولكن الغرب ينظر إلى الأمر من زاويته الخاصة, ونحن نقبل بالثقافة العالمية, إذا كانت ديمقراطية, فالحضارة الإسلامية, كانت حضارة عالمية أيضاً, بمعطياتها وديمقراطيتها, لم يتساءل المصري لمدة تزيد على ثمانية قرون لماذا لايكون حاكمها مصرياً, ولم يتساءل المسلم هل هذا العالم زنجي أو أصفر, أو زبكي أو رومي, والحضارة الرومانية كانت ديمقراطية أكثر من ديمقراطية الغرب اليوم, كان الرعايا الرومانيون متساوين في الارتقاء إلى أعلى المناصب, كثير من السوريين أصبحوا أباطرة هناك, فيليب العربي من جنوب سوريا دليل على ذلك, أما في الغرب اليوم, فلا يعطى حق التصويت حتى للإمبراطور, فالحضارة العالمية هنا تعني الحضارة الغربية تحديداً, ومن هنا كانت المناقشة حامية مع جاك رينارت رئيس اتحاد النقاد التشكيليين العالميين, الذي يعتبر حضارات الشعوب جزءاً من الماضي, وعلى العالم أن يتقبل الحضارة العالمية ضمن منطق أثار استياء عربياً واسعاً, حينما صرح عبر( رويتر) وبعيد المناقشات بوقت قصير, بأنه ليس هناك من فن عربي معاصر, بل هو فن غربي في الشكل والمضمون.

ملامح الفن العربي

* هل هناك فن عربي, بمعنى فن تشكيلي ذي ملامح واضحة?

- أعود إلى رينارت للإجابة عن تساؤلكم, إن رينارت لم يتعمق في الفن العربي, لقد أخبرني شخصياً بذلك, وصرح أمام المشاركين في الندوة العالمية بالقاهرة, بأن الفرصة لم تتح له للاطلاع على الفن العربي إلا من خلال البينالي ومتحف الفن الحديث في القاهرة, إضافة إلى بضعة فنانين مقيمين في الغرب, أعود فأقول إن كل ذلك, لايمكن الناقد أي ناقد من تلمس الفروق بين الفن الغربي والفن العربي, وبالتالي تلمس شخصية الفن العربي, فعابر السبيل يرى اليابانيين متشابهين في الملامح, ولكنه كلما اختلط معهم وعايشهم لمس الفروق, وسيتوصل في النهاية إلى تحديد ملامح كل ياباني, فالشخصية الفنية العربية واضحة في بناء اللوحة ودائرة ألوانها, والحلول التشكيلية التي تقدمها خلال مضامينها, وليس من الصعب كثيراً على الناقد أن يحدد لوحة لفنان عربي عن سواها, ليس بسبب المفردات التراثية أو الجغرافية أو البيئية فحسب, بل لوجود طريقة تفكير خاصة, وبعد نفسي مميز, إن قول رينارت يذكرني بذلك الناقد الذي لايميز بين منمنمة فارسية أو عربية, أولا يميز بين خزف اليزنيك أو دمشق أو قاشان, فكل هذا الخزف يحمل توريقاً, ويوشح بالأزرق, والغريب في الأمر, أن هؤلاء هم الأكثر حرصاً على تصنيف الفن الكنعاني, إلى فن فينيفي, في شرقي المتوسط, وبوني في غربه, ولايعترفون في النهاية بأن الهندي وإن تكلم الإنجليزية كلغة الأم, تبقى الخصوصية الهندية تفتت الصخر.

الثابت المتحول

* أخيرا كيف تفهمون العلاقة بين النقد والإبداع?

ـ إن العلاقة بين النقد والإبداع في حالتها البسيطة والاعتيادية, هي علاقة الثابت بالمتحول, فالنقد يتبع الإبداع, بل يسير في حافلته وبمعيته, بمعني أن النقد نتيجة والإبداع هو المقدمات, والمقدمات هي التي تؤدي إلى النتائج, إذ لايمكن أن يكون هناك نقد أصيل دون وجود فن أصيل, وبكلمات أخرى أقول: أعطني فناً جيداً, أعطك نقداً جيداً, قلت هذا منذ زمن بعيد, منذ عقدين أو أكثر على صفحات الجرائد, وهنا تأتي الدراسات الجمالية استثناء, فعلم الجمال هو علم طبيعي, قد يأتي أولاً, ثم يأتي الفن, وتأتي المدارس الفنية, فعلم الجمال يوجد ويخلق إطاراً للاتباع, والنقد الفني يواكب ويتبع, روجيه غارودي ماكان له أن يكتب كتابة شامخة, لو لم يكن الموضوع بيكاسو, في (واقعية بلا ضفاف) وماكان لليونورو فينتوري أن يكتب بعبقرية لو لم يكن الموضوع بمستوى موديلياني, لأعترف بأن من أكثر الأمور إثارة فيما كتبت إنما كان عن فنانين من أمثال, عمر حمدي, ولؤي كيالي, وفاتح المدرس, وإليهم وحدهم يعود الفضل في تعريف المتلقين بجدوى النقد وأهميته في سوريا.

ومن جانب آخر قلت وأقول إن النقاد هم من أقل المتلقين تذوقاً للإبداع, والعمل الإبداعي, فالإنسان العادي يتحسس ويتذوق جمالية اللوحة أكثر من الناقد, لأن الناقد يفسد عملية التذوق فهو ينظر إلى اللوحة نظرة تحليلية استقرائية, بنائية, يبحث عن الإشكالية ليجدها والخطأ ليتحدث عنه, بمعنى آخر, يقوم بتفكيك اللوحة, كعالم النبات الذي يجزىء الزهرة ليكتب عنها, لذا قيل دائماً إن أفضل من كتب عن الفنانين هم الفنانون أنفسهم أو الأدباء, لأن كتاباتهم تدغدغ المشاعر وترضي غرور الفنان وتشعره بقدسية الفن, ولكن النقد أمر آخر تماماً, فعملية تسهيل قراءة الفن عبر التاريخ إنما كان من مهمة النقاد وهم الذين اخترعوا الاصطلاحات الفنية وصنفوا الاتجاهات الفنية وحددوا المراحل الفنية, وهم الذين عرفوا الجماهير العريضة بالفنانين وهم الذين عمقوا الوعي الجمالي والفني, إن كل ذلك هو الذي حمل عالم الجمال المعروف كروتشه على تسمية النقد بالإبداع الآخر, إذ عندما يصل النقد الحقيقي إلى مستويات متألقة يصبح النقد إبداعاً آخر, ولهذا السبب حفظ التاريخ أسماء من قبيل هربرت ريد, ومارلو, وحتى مؤرخين فنيين من أمثال فازاري الذي لولاه لغابت عنا معطيات عديدة عن فناني عصر النهضة الأوربية العظام.

 



 
  




صلاح الدين





هناء طيبي





العلاقة بين النقد والابداع





أحد مؤلفات صلاح الدين محمد