أرقام

إغرَاء السّلاح
في أوائل صيف 1991 نشطت الدعوة لتقييد التسلح في الشرق الأوسط. تقدمت مجموعة من مجلسي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة بمشروع قانون حول هذا الأمر، وأعلن الرئيس الأمريكي عن مبادرة خاصة بخفض التسلح، وردت فرنسا بمقترحات أخرى، و.. في نفس الوقت كانت اللجان المكلفة من قبل مجلس الأمن ماضية في مهمتها التي حددها مجلس الأمن: تدمير قدر غير قليل من الأسلحة العراقية غير التقليدية.

لقد تنبه الجميع فجأة لخطر امتلاك قدر كبير ومتقدم من الأسلحة، وتنبهوا أنهم بينما يقيدون ذلك في "الشمال" فإنهم لم يفعلوا نفس الشيء في "الجنوب"، بل أصبح الجنوب بما يشمل من صراعات سياسية وطائفية هو "السوق الواعد" لشركات السلاح!

بالطبع.. كانت المناسبة "حرب الخليج - 2" والتي غزا فيها العراق الكويت، وامتدت الأزمة لحرب واسعة بعد عدة شهور..

قبلها، كانت الحرب المجنونة التي جرت لثماني سنوات بين العراق وإيران، وقد استهلكت الحرب - طبقا لتقدير معهد سيبري بالسويد - ما بين (5. 168) و (6، 203) مليار دولار على بند واحد اسمه الأسلحة الرئيسية!

وقبلها أيضا، وطبقا لوثائق الكونجرس الأمريكي، اشترت دول الشرق الأوسط أسلحة تقليدية بما قيمته مائتا مليار دولار من منتصف السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات، وكان نصيب الولايات المتحدة من مبيعات لأسلحة تقليدية وغير تقليدية مائة مليار دولار في حقبة الثمانينيات وحدها.

إنه سوق السلاح المليء بالأسرار والمفاجآت، والأرباح..

وعندما استنزف الصراع العربي - الإسرائيلي، أو استنزفت حرب الخليج مئات المليارات لم يحرك الآخرون ساكنا، بل كانوا من أفضل المنتجين والتجار وباعة السلاح في المنطقة.

لقد تحولت أموال النفط، وأموال التنمية، كما تحول طعام وكساء فقراء المنطقة إلى أسلحة دمار تنتجها الدول المتقدمة، وتحسب مقابلا لها: كم فرصة عمل يتيحها كل مليون من الدولارات تقدمه صناعة الأسلحة.

ولكن.. وحين قامت "حرب الكويت" تغير كل شيء، وتحولت الدول التي طالما روجت لبيع الأسلحة، لدول تروج لتقييد بيع الأسلحة، و.. لأول مرة يتم إلقاء الضوء على ما امتلكته دولة عربية هي: العراق، والتي طالما تناولتها الحملات من زاوية الأسلحة غير التقليدية، ولم تتناولها من زاوية التسلح بشكل عام.

***

خلال الأزمة والحرب رددت الأجهزة الغربية - سياسية وإعلامية - مقولة أن العراق يمتلك القوة العسكرية الرابعة في العالم.. و.. ورغم أن المقولة محل شك فإن للأرقام دلالتها الكبيرة.

طبقا لأرقام معهد سيبري أيضا، فقد كان العراق هو أكبر مستورد للسلاح في العالم الثالث، وكان الأعلى إنفاقا في الشرق الأوسط. بلغ إنفاقه في عام واحد من الثمانينيات - وهو عام 1983 - (33.3) مليار دولار.. و.. حين تراجع (عام 1989) كان الإنفاق (15) مليار دولار..

في نفس الوقت، وفي بند واحد هو ما تسميه المعاهد الاستراتيجية: إنفاقا على الأسلحة الرئيسية، بلغ ما أنفقه العراق خلال الثمانينيات: (80) مليار دولار.. و.. ذلك هو المسجل والمعلوم.

ومعنى الرقم واضح

* فهو، أولا، يفوق ثلاثا من الدول العظمى في نفس الحقبة؛ يفوق ما أنفقته فرنسا (68.6 مليار دولار)، وما أنفقته بريطانيا (69.5 مليار)، وما أنفقته ألمانيا الاتحادية والبالغ قدره (41.3) مليار.

* أيضا، فإن الرقم يكاد يساوي مديونية العراق عندما هاجمت الكويت، وهو - بلا شك - يمثل نسبة مئوية عالية من الناتج القومي. والذي راح كله في بعض السنوات على الإنفاق العسكري.

* وبالطبع فإن العلاقة بين المديونية والتسلح واضحة. لقد استورد العراق خلال حربه مع إيران من 24 دولة، وكانت ثمانون في المائة من أسلحته عن طريق ثلاث دول عظمى: الاتحاد السوفييتي وفرنسا والصين، وكان الكثير من المعاملات عن طريق القروض، أما حجم المعاملات فقد بلغ - خلال السبعينيات والثمانينيات - (6. 32) مليار دولار مع الاتحاد السوفييتي.. و (10.5) مليار دولار مع فرنسا.. من نوع واحد هو ما أشرنا له: أسلحة رئيسية.

حتى الولايات المتحدة لم تكن بعيدة عن تسليح العراق، فقد باعت لها لعدة سنوات وبلغت مبيعاتها من الأسلحة الرئيسية عام 1988: (192) مليون دولار، وكان أهم ما في الصفقة طائرات الهليكوبتر.

***

الصورة واضحة إذن: قدر هائل من التسلح يستنزف قدرا كبيرا من الناتج ويمتص مخصصات التنمية والرفاهية.

لذا، فليس بعيدا، ذلك التفسير الذي يضع الأزمة الاقتصادية في العراق كأحد أسباب غزو الكويت.. لكن الأهم، كدلالة لما جرى، هو أن امتلاك السلاح يغري باستخدامه، وقد سجلت الدراسات الاستراتيجية أن الحالات التي تتحول فيها منازعات الدول إلى صراع مسلح مقترنة دائما بالقدرة على التسلح، وعلى العكس فإن الصراعات تهدأ وتبتعد عن العنف إذا انخفضت حالة التسلح.

المثال هنا من العراق.. وهو قبل ذلك من إسرائيل التي حرست أطماعها بقوة مسلحة متزايدة.

لذا.. لزم التنويه، والتنويه هنا في شكل حملة دولية: انزعوا السلاح من أيديهم، لقد أصبح الشرق الأوسط برميل بارود متجدد الاشتعال، متجدد الخطر.