الجات وتحرير التجاوة الدولية مجدي صبحي

    الجات وتحرير التجاوة الدولية

دورة أورجواي هزيمة للعالم النامي

أخيرا تم إنهاء الجولة السابعة للاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) وهي ما عرفت باسم دورة " أورجواي " لتحرير التجارة الدولية. والواقع أنه حتى 13 ديسمبر الماضي أي قبل الموعد المحدد لإنهاء الدورة بيومين، راودت الكثيرين الشكوك في إمكان إنهاء الدورة في موعدها المحدد، فالخلافات كانت لاتزال محتدمة بين الأطراف الفاعلة الرئيسية حول العديد من الموضوعات. لكن وبشكل مفاجىء تمت تسوية الخلافات بين المجموعة الآوربية ولا سيما فرنسا من جانب وبين الولايات المتحدة من الجانب الآخر.

حينما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها فكرت البلدان الكبرى في كيفية إعادة بناء ما دمرته الحرب، بل وكيفية الحئول دون نشوب الحرب من جديد. ولأن هذه البلدان كانت قد شهدت حربا تجارية ضروسا فيما بينها خلال عقد الثلاثينيات وهو ما يعرف باسم "حرب إفقار الجار" إلى الحد الذي دفع البعض إلى القول بأن هذه الحرب غير المسلحة كانت من بين الأسباب التي دفعت للحرب العالمية، ولذا فقد تم الاتفاق على إنشاء منظمة تجارية دولية تحول دون الممارسات التجارية الخاطئة التي أدت إلى خراب اقتصاديات هذه الدول. وبدأت من ثم اتفا قية " الجات " الدولية اجتماعاتها في العاصمة الكوبية في نوفمبر عام 1947 ووقعت 53 دولة على ميثاق هافانا في مارس عام 1948. وقد تأسست الجات على أساس عدة مبادىء رئيسية هي:

أولا: مبدأ الدولة الأولى بالرعاية. حيث ينبغي أن تتم التجارة على أساس عدم التمييز، فكل البلدان المتعاقدة عليها أن تقدم للأطراف الأخرى معاملة تفضيلية متساوية في مجال إدارة وتطبيق الرسوم والجمارك على الصادرات والواردات.

ثانيا: أن تقوم حماية الصناعة المحلية على أساس التعريفات الجمركية وحدها. وذلك بهدف جعل مدى الحماية واضحا ولأجل جعل المنافسة ممكنة.

ثالثا: أن الأساس اللازم لتحقيق استقرار ونمو التجارة يتم من خلال الالتزام بمستويات التعريفة الجمركية التي يتفق عليها البلدان الأطراف. وهذه المواد الملزمة مسجلة في جدول التعريفات الذي يعد جزءا لا يتجزأ من الاتفاقية العامة. والعودة إلى فرض تعريفات أعلى أمر لا يشجع عليه بالنص، على أن أي زيادة ينبغي أن تقابل بدفع تعويضات مقابلها وإن كان هذا الشرط نادرا ما تحقق. كما أن التشاور لتجنب الأضرار التي يمكن أن تصيب مصالح البلدان الأطراف يعد مبدأ أساسيا آخر من مبادىء الجات. ومن حق هذه الأطراف الاتصال بالجات للتدخل في الحالات التي ترى أنها تشكل أضرارا بمصالحها والناجمة عن تصرفات وممارسات الأطراف الأخرى.

وأخيرا فإن الجات تقدم إطارا يمكن من خلاله أن تتم المفاوضات لخفض التعريفات الجمركية، وكذلك القيود والعقبات الأخرى أمام انسياب التجارة، وكذلك توفير هيكل لوضع نتائج مثل هذه المفاوضات في شكل مواد قانونية ملزمة.

مفاوضات وجولات

تتكون معظم أعمال الجات من مشاورات ومفاوضات في مشكلات تجارية معينة تؤثر على سلع محددة تهتم بها جميع البلدان الأطراف أو بعضها على الأقل. ومن وقت لآخر تتم مفاوضات رئيسية متعددة الأطراف في ظل رعاية الاتفاقية العامة. وفي هذا الإطار تمت سبع جولات من المفاوضات هي:

1 - دورة جنيف في عام 1947.

2 - دورة فرنسا 1949.

3 - دورة إنجلترا 1951.

4 - دورة جنيف مرة أخرى 1956.

5 - دورة "ديلون " وتمت في جنيف أيضا خلال الفترة 1960- 1961.

6 - دورة "كيندي " بجنيف أيضا في الفترة 1964- 1967.

7 - دورة "طوكيو" التي استغرقت سبع سنوات 1973- 1979، وقد سميت كذلك لأن المفاوضات لهذه الدورة على المستوى الوزاري تم افتتاحها في العاصمة اليابانية.

ثم كانت الدورة الأخيرة 1986- 1993 وهي المسماة بدورة أورجواي، وذلك لأن افتتاحها تم في مدينة "بونتا دل ايستا " بدولة أورجواي.

تمت الأعمال التحضيرية لدورة أورجواي خلال 1985- 1986 وافتتحت رسميا في سبتمبر 1986 وكان من المأمول أن تنهي أعمالها في أربعة أعوام.

ومنذ البداية اتضح وجود معارضة كبيرة من جانب الدول النامية لوجهة نظر الولايات المتحدة الداعية إلى إدراج قضية تحرير التجارة في مجال الخدمات (مثل السياحة والبنوك والتأمين) وهو مجال لم تكن تغطيه اتفاقيات الجات من قبل. ويعود إدراج هذا المجال في مباحثات التجارة الدولية إلى ازدياد أهميتها في الدول الصناعية المتقدمة، فأكثر من 60 % من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في تلك الدول ينتج في هذه القطاعات، إضافة إلى أن أكثر من 20% من إجمالي التجارة العالمية هو عبارة عن تجارة في منتجات هذا القطاع.

وقد تم في النهاية التغلب على هذا الخلاف بالاتفاق على أن تتم مناقشة الخدمات في إطار لجنة منفصلة تشرف عليها الجات ولكن تبقى خارج الاتفاق القانوني للاتفاقية. والخلاف الآخر الكبير هو الذي نشب بعد إدراج اقتراح الولايات المتحدة ودول مجموعة الكارينز (14 دولة مصدرة للمواد الزراعية) بمناقشة قضية الانحرافات في التجارة في المواد الزراعية عن طريق دعم الصادرات وسياسات دعم المزارعين، إذ عارضت المجموعة الأوربية منذ البداية هذا الاقتراح. ويعد هذا الخلاف هو المسئول عمليا عن تأخر المفاوضات كل هذا الوقت.

وحتى منتصف عام 1989 كانت قد تحققت النتائج التالية:

اتفاق على تحرير التجارة في المنتجات الاستوائية، وتأسيس آلية لحل المنازعات ومراجعة السياسات التجارية. وقد قام وزراء التجارة بمراجعة الدورة وما نجم عنها في ديسمبر 1988 ثم أبريل 1989، ووافق الوزراء على أن خفض التعريفات الجمركية يجب أن يتم بشكل ملموس وبحيث يتساوى على الأقل مع ما تحقق في دورة طوكيو (أي أكثر من 30 %). وكان عدد الدول المشاركة في المفاوضات قد بلغ 107 دول في سبتمبر 1990.

وخلال عام 1990 كانت أمام المفاوضات عدة خلافات خطيرة هددت بفشل الدورة، منها الاتهام بالاستغلال الخاطىء للإجراءات المضادة للإغراق (وهي الإجراءات التي تتخذ للحئول دون تصدير المنتجات بأسعار تقل عن الأسعار التي تباع بها نفس المنتجات في السوق المحلية للدولة المصدرة) وذلك لحماية الصناعات المحلية للبلد المستورد. كما كان هناك الخلاف الأهم بين الولايات المتحدة ومجموعة الكارينز من جانب والمجموعة الأوربية من جانب آخر حيث طالبت الأطراف الأولى بإزالة المعونات التي تقدمها المجموعة الأوربية للصادرات الزراعية والحد من عملية تقييدها للواردات من نفس المنتجات . هذا إلى جانب الخلاف حول اتفاقية التجارة في المنسوجات والمعروفة باتفاقية "الألياف المتعددة ".

وفي ديسمبر 1990 التقى وزراء التجارة مرة أخرى بهدف إنهاء الدورة، وكان قد تم الاتفاق على خفض التعريفات الجمركية على مدى خمس سنوات تبدأ من تاريخ إنهاء الدورة، ولكن استمرار الخلاف حول مسألة دعم السلع الزراعية أدى إلى قرار بتمديد الدورة حتى نهاية عام 1991، ثم تكرار هذا التمديد مرتين أخريين لتنتهي الدورة بالفعل في 15 ديسمبر 1993.

وقد شهد عام 1992 بوادر لانفراج الخلاف بين المجموعة الأوربية والولايات المتحدة بالتوصل إلى ما عرف باتفاق "بلير هاوس" والذي نص على خفض الدعم الأوربي للسلع الزراعية والمقدر بنحو 300 مليار دولار سنويا بمقدار 36% وعلى مدى زمني قدره ست سنوات.

نتائج الجات.. حلول وسط

بدت الشهور الأخيرة قبل الميعاد المحدد لإنهاء الدورة وهو 15 ديسمبر الماضي محمومة بالمفاوضات بين المجموعة الأوربية والولايات المتحدة، فقد عادت فرنسا لإنكار اتفاق بلير هاوس وأضافت إلى ذلك رفضها لتحرير التجارة في مجال المنتجات السمعية والبصرية (المسلسلات وبرامج الإذاعة والتليفزيون والأفلام السينمائية.. وغير ذلك) وذلك لتخوفها من أثر الغزو الثقافي الأمريكى على الهوية الثقافية الفرنسية.

وبعد عدة مفاوضات جرت بين المفوض التجاري الأوربي ووزير التجارة الأمريكي تم التوصل إلى حلول وسط اعتبرها كل من الطرفين انتصارا له.

فقد وافقت الولايات المتحدة والمجموعة الأوربية على أن يتم تنحية موضوع الإنتاج الثقافي (المنتجات السمعية والبصرية) لمناقشته في مفاوضات تجرى لاحقا، ويمثل ذلك قبول أمريكا بمطالب المجموعة الأروبية "بالاستثناء الثقافي" وهو ما أدى بوزير الاتصالات الفرنسي إلى التعليق بقوله "بهذا الاستثناء الثقافي نكون قد حصلنا على ما كنا نريده من البداية".. وهذا الاستثناء انتصار جميل لكل الذين يريدون الحفاظ على هوية ثقافية أوربية.

أمريكا تقود العالم

ومع التوصل أخيرا إلى حل لمشكلة دعم السلع الزراعية رأت الولايات المتحدة في ذلك نصرا كبيرا لها إلى الحد الذي دفع الرئيس الأمريكي إلى القول بأن الاتفاق يعد دعما لأمريكا لقيادة الاقتصاد العالمي. ورغم هذا يصعب القول بأنه تم التوصل إلى حلول وسط في شتى المجالات، فلم يتم الاتفاق على تحرير التجارة في النشاطات المصرفية والمالية، بل تم التوصل إلى صيغة مرنة تمكن الولايات المتحدة من مبدأ المعاملة بالمثل في السنة المقبلة أي حينما توضع اتفاقات الجات موضع التنفيذ في الأول من يناير 1995. والواقع أنه لا يمكن اعتبار أن هذه القضية تعد موضع خلاف كبير بين الطرفين، إذ إن الاتفاق بينهما قائم للضغط على اليابان ودول جنوب شرق آسيا ودول كبيرة في العالم الثالث مثل الهند والبرازيل.

ولم يتم الاتفاق على تحرير التجارة في مجال الملاحة البحرية، وكان هذا يعد أمرا حيويا لأساطيل كل من اليونان والدانمرك، إذ لم تقدم الولايات المتحدة أي تنازلات للسماح للأساطيل الأجنبية بالقيام بنشاطاتها في الموانىء الأمريكية. وتمكنت الولايات المتحدة من استبعاد هذا القطاع من نطاق المفاوضات المتعددة الأطراف.

وأخيرا فإنه لم يتم إدخال صناعات الطيران المدني في الاتفاقات متعددة الأطراف وحصل الأوربيون على تنازل أمريكي وهو مواصلة العمل بالاتفاق الجاري فيما بينهما منذ عام 1992. وكانت الولايات المتحدة ترغب في دمج الطيران المدني في الاتفاق لمنع المعونات الحكومية بأمل أن تعود شركة بوينج الأمريكية للسيطرة على الأسواق العالمية بعد أن نجحت شركة "ايرباص" في توسيع حصتها من السوق في الأعوام الأخيرة.

وأخيرا فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي استفادة دول العالم المختلفة من هذا الاتفاق؟.

قبل الاجابة عن مثل هذا السؤال ينبغي أولا أن نذكر أن الاتفاق الحالي يعد أضخم اتفاق تجاري دولي، إذ شاركت فيه 117 دولة استوعبت مواده نحو 550 صفحة. أما عن أهم المكاسب والخسائر فهي تتمثل في زيادة الدخل العالمي بنحو 200- 270 مليار دولار سنويا تتحقق بعد نحو 10 سنوات من تنفيذ الاتفاق أي في عام 2005 ويتوزع هذا الدخل كالتالي:

المجموعة الأوربية 61 مليار دولار.

الصين 37 مليار دولار.

الكتلة السوفييتية السابقة 37 مليار دولار.

اليابان 27 مليار دولار.

الولايات المتحدة 36 مليار دولار.

دول العالم الثالث 16 مليار دولار

أوربا غير الأعضاء في الجماعة الأوربية 8 مليارات دولار.

كندا 4 مليارات دولار.

استراليا ونيوزيلاند مليارا دولار.

آخرون 19 مليار دولار.

إلى جانب ذلك ينبغي ذكر أن دول القارة الإفريقية ستخسر نحو 2.5 دولار نتيجة فقدانها بعض المزايا التفضيلية التجارية. أما الوطن العربي فلا جدال في خسارته من هذه الاتفاقية إذ نتيجة لتقدير ارتفاع أسعار السلع الغذائية بمقدار 10%- 15% وحيث تقدر الواردات العربية الغذائية بما يزيد على 22 مليارا فإن الخسائر العربية في هذا المجال وحده تتجاوز ملياري دولار على أقل تقدير. هذا ناهيك عن أثر تحرير التجارة في مجال الخدمات.

وربما يلخص موقف العالم النامي ما صرح به سفير الهند لدى الجات بأن "هناك خللا كبيرا في ميزان تبادل الامتيازات وخاصة في المجالات التي تكمن فيها مصالح لدول النامية وبالتحديد المنسوجات والزراعة ".

فبعد إنهاء الدورة لاتزال الحواجز التجارية كبيرة أمام المنسوجات ومنتجات المناطق الاستوائية والسلع التي نعتمد على الموارد الطبيعية وهي بعض من أهم الصادرات الأساسية للدول النامية.

 

مجدي صبحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات