إبداع من نوع جديد: أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ

إبداع من نوع جديد: أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ

اختار نجيب محفوظ "الأصداء" لتكون طريقا إلى المناطق النائية من عقله وإلى فكره الخالص في أعمق صورة فخرج بعمل لم يسبق أن تضمنته أي كتابة من كتاباته.

جاءت الأصداء على غير ما ألفناه من قبل في أعمال محفوظ، فهو يمضي بنا إلى تكوين فني غريب أشبه بالغابة، ثم يتركنا بعد ذلك لأنفسنا، نمضي في دروبها حائرين، نتلمس مواطىء لأقدامنا من خلال أشجارها المتشابكة، ونلتمس من بين فرجات أغصانها الكثيفة ضوءا هاديا.

لم يشأ نجيب محفوظ أن يترك السبيل إلى اكتشاف فكرة ميسرة أمام دارسيه وقارئيه كما فعل غيره من الأدباء العظام أمثال طه حسين والحكيم، وإنما اختار طريقاً لم تطرق من قبل، أن يكتب آخرون سيرته، وأن يودع هو خلاصة فكره ورحيق عمره عملاً إبداعيا فكريا خالصا، غير تقليدي، وغير مسبوق، في أسلوبه وفي مضمونه، ليكمل به الدائرة التي تناولت سيرته من مختلف جوانبها.

واختار أن يكون عمله هذا في شكل مقطوعات شديدة القصر بالغة التركيز، لاتتطرق بشكل مباشر، أو تتضمن إشارات واضحة، إلى تاريخ حياة كاتبها أو إلى فكره، وإنما تخفي داخلها ماطبعته هذه الحياة على فكر صاحبها، وماطبعه فكره على مسار هذه الحياة. وعلى قارىء الأصداء أن يستخرج منها ما أودعه فيها كاتبها من قيم فكرية، بعد عناء قليل أو كثير، وأن يتحمل وحده مسئولية ما استخرجه منها ومافهمه، ولايحق لى، ولا لسواه، أن يتذرع بها في مواجهة كاتبها.

حين نقلب أوراق الأصداء محدودة العدد، فسوف نجدها تحتوي على ست وعشرين ومائتي مقطوعة، يمكننا أن نقسمها إلى قسمين متميزين، أولهما يضم تسع عشرة ومائة مقطوعة، ويضم ثانيهما سبعاً ومائة مقطوعة تبدأ بتلك التي تحمل عنوان "عبدربه التائه".

وبينما يتكون الجزء الأول من الأصداء من مقطوعات متفاوتة الطول، أو بالأحرى متفاوتة القصر - مابين أربعة سطور وسبعة وثلاثين سطرا، فإن العدد الأكبر من مقطوعات القسم الثاني - حوالي ثمانين مقطوعة منها - بالغة القصر، لايزيد طولها على خمسة سطور، وقد يقصر بعضها ليتكون ثلاث كلمات أو أربعاً.

ويستتبع الطول النسبي لمقطوعات القسم الأول من الأصداء سيادة استعمال. الرمز فيها. وفي مقابل ذلك فإن القسم الئاني يحتوي على أكثر من سبعين مقطوعة - حوالي ثلثي مقطوعاته - تتضمن ومضات فكرية مباشرة خالية من الرموز، هي أشبه بالحكم والأقوال المأثورة، وبالتالي فهي يسيرة الفهم على العكس من معظم مقطوعات القسم الأول.

وبينما تنطلق مقطوعات القسم الأول بغير رابطة واضحة، فإن القسم الثاني كله يدور حول شخصية "الشيخ عبدربه التائه"، ونجد فيه بالتالى وحده شكلية ورابطة من نوع ما. وبالرغم من هذه الوحدة الشكلية، فإن القسم الأول يعكس في خلفيته وحدة فنية أكثر عمقاً وأشد ترابطاً، باعتباره مكونا من قطع صغيرة من صورة واحدة مجزأة Jig-saw Puzzle تحتاج إلى أن تضم الوحدة منها إلى القطع المجاورة لها، لتشكل في مجموعها الصورة الكلية لفكر وفلسفة نجيب محفوظ. ومقطوعات هذا القسم هي أكثر ما يصدق عليها وصف الأصداء، وهي التي سنقتصر على تناول نماذج منها في هذه الدراسة. على أن الأصداء بقسميها تشكل وحدة فنية متكاملة تعكس فكر نجيب محفوظ في أصفى وأكمل صوره.

صياغة الأصداء

يتفق أسلوب محفوظ في كتابته للأصداء مع الأسلوب الذى اتبعه في كتابة قصصه القصيرة في كثير من ملامحه، مع تطويره لتكون له سماته الفنية الخاصة، فتصبح المقطوعات أكثر قصرا، وأشد تكثيفاً، وأعقد رموزا. وفي صياغته لمقطوعات الأصداء، يبدأ محفوظ برسم الصورة الذهنية لفكرة المقطوعة، ويحدد الخطوط العامة لها، ثم يقوم بتحويل هذه الفكرة بكل عناصرها ومكوناتها إلى رموز، ثم يقوم بنظمها في كلمات وجمل وفقرات محدودة. ثم يعطيها بعد ذلك عنوانها الموحي، لتستوي في النهاية بناء ضغيرا محكما، هو، ما يمكن اعتباره المعادل الموضوعي للفكرة التي يعرضها.

ولنقرأ معاً هذه المقطوعة:

هيهات
ماضنت علي بشيء جميل مما
تملك، فنهلت من ينبوع الحسن حتى ارتويت
ولكن البطر بالنعمة قد يرتدي قناع الضجر
ومن، أمارات خيبتي أني فرحت بالفراق
وعلى مدى طريقي الطويل لم يفارقني الندم
وحتى اليوم يرمقني هيكلها العظمي ساخراً".

ولنتتبع بعد ذلك خطى نجيب محفوظ في نظم هذه المقطوعة. فهو أولا يقوم برسم صورة ذهنية لفكرته: إنسان ينهل من متع الحياة حتي الارتواء. ثم يصيبه الضجر فيفرح بانتهاء عهده بها، ولكنه يدفع الثمن، ندما. هذه هي فكرة المقطوعة في خطوطها الرئيسية. ئم تأتي الخطوة التالية بأن بحول فكرته بمكوناتها إلى رموز: فمتع الحياة، تتحول إلى أمرأة كل ماتملكه جميل. وفيض المتعة، يصبح ينبوع الحسن. وتجاو ز مرحلة إعتراف هذه المتع بالتقدم في العمر، هو الفراق.

وحياته، هي الطريق الطويل. أما ماتبقى من ذكرى هذه المتع التي انقضى عهدها، وباعد الزمن بينه وبينها، فهو ذلك الهيكل العظمي الساخر.

وتأتي الخطوة التالية بعد ذلك بأن يجمع نجيب محفوظ فكرته في نسيج حريري رقيق، لتصبح الجمل الست التي قرأناها معا.

وبعد ذلك تأتي اللمسة الأخيرة، بأن يختار للمقطوعة عنوانها "هيهات"، بما تحمله من معنى ومن إيقاع، ويكون العنوان بذلك بمنزلة تعليق على مضمون المقطوعة، بمنزلة خاتم يضعه نجيب محفوظ عليها.

أمامنا إذن ثلاثة عناصر تشكل منها كل واحدة من مقطوعات الأصداء:

الأول: الفكرة. الثاني. الرمز. الثالث: اللغة.

وسوف نتناول كل عنصر منها بالحديث، ليس بنفس ترتيبها في عملية الإبداع، وإنما بترتيب استقبالنا للعمل الفني في صورته النهائية، بعد أن استوى أمامنا بناء جميلاً محكم الصنعة دقيق الملامح.

في لغة سلسلة محكمة، تتوالى مقطوعات الأصداء في ومضات سريعة متلاحقة. ما إن نبدأ في قراءتها حتى نجد أنفسنا نسعى لاهثين وراءها، مقطوعة به أخرى. ربما لا تأخذ أقصرها غير بضع ثوان ولاتستغرق أطولها أكثر من دقيقة، ولانجد طيلة قراءتنا لها فسحة من وقت لالتقاط أنفاسنا من خلال كلمات زائدة أو عبارات وصفية أو جمل استطرادية.

ولغة الأصداء لغة فريدة. فهي أحيانا لغة رفيعة على درجة عالية من الشاعرية، غير أنها ليست شعراً، فليست فيها قيوده وأساليبه. كما أنها ليست نثرا، فإيقاعها وتركيزها، ومذاقها يجعلها أسمى من أن تكون نثرا. وهي لاتنتمي إلى ذلك الجنس الثالث قصيدة النثر، كما تصور البعض، فبناؤها ومحتواها أعمق من أن يجعلها شبيهة بتلك التهويمات التي قد تكون مغرقة في الغموض والإلغاز، لكن بغير أن يكون ثمة مضمون حقيقي وراءهما. وهي أحيانا لغة بسيطة، متدفقة كماء النهر، فيها الوضوح والشفافية، والانسياب والألفة، وفيها البساطة والقوة. ثم هي أحيانا أخرى لغه شديدة الصلابة بالغة الحدة. وفوق هذا كله فهي لغة فيها من التكثيف مايجعل من كثير من مقطوعاتها قصصاً مركزة في وسطور معدودة.

هي "سبيكة" لغوية فريدة، كونتها وانصهرت فيها كل هذه العناصر مجتمعة. ولنقرأ معاً هذه المقطوعة.

رسالة

"وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرت عليها وراء صف من الكتب وأنا أعيد ترتيب مكتبتي.

ابتسمت. انحسرت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر. وأفلت أن قبضة الزمن حنين عاشت دقائق خمسا. وند عن الأوراق الجافة عبير الهمس. وتذكرت قول الصديق الحكيم. قوة الذاكرة تتجلى في التدكر كما تتجلى في النسيان".

اللغة في هذه المقطوعة عالية الشاعرية، ثرية غاية الثراء. قدمت صورها الفنية المركبة في ألفاظ محدودة ذات رنين رومانسي: "انحسرت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر"، "أفلت سن قبضة الزمن حنين عاشت دقائق خمسآ"، "ندّ عن الأوراق الجافة عبير كالهمس" لكن يجب ألا تصرفنا هذه الرومانسية الرقيقة عن المعاني المستترة خلفها. فالوردة الجافة ذات الأوراق المبعثرة، رمز لقصة حب قديمة تناثرت أجزاؤها. في ذاكرته. وصف الكتب الذي عثر على الوردة وراءه، هو فيض الذكريات التي ضمت قصة هذا الحب. أما المكتبة التي كان يعيد ترتيبها، فهي ذاكرته التي تحوي كل هذه الذكريات.

يبتسم، وينحس ظلام الماضي عن ومضة نور، وتنطلق من قبضة الزمن دفقة حنين، وتهمس قصة الحب القديم بعبيرها الذي لم يذبل.

وتختم المقطوعة بواحدة من مأثورات الصديق الحكيم - وهي قليلة في الأصداء - تقول إن الذاكرة تتجلى قوتها في استرجاع الماضي كما تتجلى في نسيانه، في أن تحمل من أغوار الماضي، ثم، بعد ذلك، تستعيدها إلى أعماق خزائنها، حيث تنسى مرة أخرى.

ثم نقرأ معاً هذه المقطوعة.

العقاب

"رآه ماثلا أمامه كالقدر. غاب طويلاً ولكن لم ينحن له ظهر أو يرق بصر. بسرعة انقضاض الزلزال جرى شريط الذكريات الدامية. وسحب وراءه أسرته البريئة التي عرفته مثالاً للاجتهاد والرزق الحلال، جاهلة ماوراء ذلك.

- اتفقا أن نفترق إلى الأبد.

فقال الزائر بهدوء.

- للضرورة أحكام وإني مهدد بالإفلاس.

وقال لذاته. إن طوفان الابتزاز يبدأ بقطرة.

- كنا شريكين فما، يصيبني يصيبك.

فقال الزائر:

- عند اليأس أقول: علىّ وعلى أعدائي يارب!

أسرته هي مايهمه، حتى إذا كان الانتحار هو الحل".

المقطوعة كما نرى قصة، وربما رواية قصيرة، تركزت في حوارية من ذلك النوع الذي يستهوي نجيب محفوظ.

تبدأ القصة بزائر غير منتظر، وتمر بالابتزاز، وتنتهي بالانتحار. فالرجل ذو ماض دام. ثم يفاجأ بشريكه الذي اتفقء معه أن يفترقا إلى الأبد، والذي قدم بعد أدن تهدده الإفلاس، ليبدأ حملة ابتزاز له. ولايجد الرجل سبيلاً أمامه، سوى الانتحار. لكن ماحقيقة القصة؟

القصة حوار داخلي - مونولوج - بين الرجل وضميره. ذلك الذي فارقه طويلا، لكن لم ينحن له ظهر أو يرق بصر. صحا أخيراً، وعاد ليحاسب صاحبه على ماضيه وطالبه بأن بعترف بما اقترف، فهو يواجه الإفلاس - خلقيا لامادياً - الذي يتهدد ضميرا صحا. لقد بلغ حافة اليأس، ولن يضيره أن يضيع ويضيع صاحبه معه. ويعرف ما الرجل أن لامنجي أمامه من مطاردة ضميره له. وأنه إذا أراد أن يحفظ لأسرته كرامتها فلاسبيل أمامه سوى لانتحار. هكذا يوم الضمير على صاحبه العقاب الذي يستحقه.

حوار أجراه محفوظ في لغة تناسب جو هذ ه القصة التقليدية في ظاهرها. العميقة في باطنها، قصة الإنسان في مواجهة ضميره، فاستعمل لغة مفرطة في الشيوع "أتفقنا أن نفترق"، "للضرورة أحكام"، "علي وعلى أعدائي يارب"، وهي كذلك لغة حادة الإيقاع، "رآه ماثلاً أمامه كالقدر"، "لم ينحن له ظهر أو يرق بصر"، "بسرعة انقضاض الزلزال"، "طوفان الابتزاز". لغة جمعت بين البساطة والقوة، وعكست الأجواء المأساوية التي تكتنف المقطوعة.

هكذا يقوم محفوظ بتوظيف أهم أدواته الفنية، اللغة، في إبداعه للأصداء. ينتقي لكل مقطوعة ألفاظاً وتراكيب وعبارات ذات إيقاعات مميزة موحية، تضفي على بنائه الفني أقصى قدر من التأثير، وتشكل في مجموعها تلك اللغة الفريدة التي تسود الأصداء وتعطيها سماتها الخاصة. فهي لغة دقيقة، موجهة، بالغة الإحكام، لاتحتمل إضافة أو حذفا أو تعديلا، وتخلو من كل الزوائد اللغوية المألوفة. ئم هي لغة شديدة التكثيف، تنوء كلماتها وعباراتها بمعان ودلالات أعمق وأوسع مما اعتادت أن تتحمل، وماتعود القارىء أن يتلقى. وهي مع هذا لغة بسيطة تصل بساطتها في بعض الأحيان إلى استعمال، ألفاظ شائعة وعبارات دارجة. ولاتمنعها هذه البساطة من أن تعلو إلى آفاق رفيعة من الجمال والثراء والشاعرية. وهي بعد ذلك كله لغة سلسة متدفقة، تتوالى كلماتها وجملها وفقراتها في إيقاع فني وفكري سريع، يتساوى مع الثواني المعدودة التي تعيشها كل مقطوعة في الأسماع والأذهان من بدايتها إلى نهايتها.

استخدام الرمز

استخدم محفوظ الرمز في معظم أعماله في حقبة مابعد الثلاثية، ابتداء بأولاد حارتنا وانتهاء بالأصداء. لكن استخدا مه في الأصداء بلغ من التعقد والتي التشابك والعمق حداً يدفع قارئيها ودارسيها إلى تكلف الكثير من العنت والجهد في محاولات غوصهم إلى، الأعماق البعيدة، لكي يصلوا إلى اللؤلؤ التي استودعها محفوظ محارته الصغيرة.

الأمر المثير للدهشة، أن محفوظ يجد رموزه في يسر بالغ ودون تكلف، يجدها في الناس من حوله، وفي الأماكن التي عاش فيها، ويجدها في النماذج البشرية التي نراها كل يوم في محيط حياتنا، فالأم والأب والزوجة والأولاد والضابط والمحامي ومعلم اللغة العربية والمقهى وبئر السلم وحمام السلطان والدرب الآحمر. والمطر والصحراء و حديقة الورد، كل هذه، وغيرها كثير، رموز استخدمها محفوظ بساطة وتلقائية خدعت الكثيرين، وجعلتهم يترددون في التسليم بأنها رموز، من التعامل معها على غير دلالتها المباشرة، لكن لما كان فهمها علىهذا النمط! المبسط لاطائل من ورائة، فليس هناك من سبيل سوى أن ننفذ إلى مكنون هذه الكلمات البسيطة، لعلنا نصل الى الخبيئة المستترة وراءها.

في بنائه لمقطوعات الأصداء، يجعل محفوظ من الرمز عصا سحرية يحول بها رؤاه وآراءه وأفكاره إلى تكوينات فنية من نوع جديد، يضم كل فكرة منها بناء فني غارق في الرمز مغلف بالغموض ظاهره قريب يسير، أما باطنه فعسير بعيد المنال، وهو في ظاهره وفي باطنه معاً مشع بالجمال كما، ينبغي للفن الرفيع أن يكون. هذا البناء الفني هو ما يمكن أن نعتبره - كما سبق الإشارة - المعادل الموضوعي للفكرة.

الأصداء إذن عالم زاخر بالرموز مختلفة الصور، قد يكون الرمز بسيطا تفسره كلمة، أو أكثر تعقيدا فتفسره جملة أو فقرة، وقد تكون دلالته مادية أو معنوية. وقد يكون معادلاً لرمز آخر من ر رموز الفلسفة أو علم النفس. وقد يكون المصطلح الرمزي كلمة أو عبارة أو مقطوعة كاملة، وقد يكون شيئا ماديا أو معنويا. والعجائز في الأصداء كثيرون وكثيرات، وكلهم وكلهن رموز. والجميلات في الأصداء كثيرات، وليس فيهن أنثى حقيقية واحدة، وكلهن رموز شديدة التعقيد.

وسوف نرى في النماذج التي سنعرض لها، كيف وظف نجيب محفوظ الرمز ليقدم لنا رؤيته لجوانب حياة الإنسالن العقلية، ولمختلف شواغله الفكرية، في صورة غير تقليدية من صور الإبداع الفني، ذات إشعاع وإيقاع وجمال ونبل لم يعرفها الإبداع العربي.

ملامح فكرية

"دعوت للثورة وأنا دون السابعة.

ذهبت ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروساً بالخادمة سرت كمن يساق إلى سجن، بيدي كراسة وفي عيني كابة، وفي فلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير.

بسبب المظاهرات لادراسة اليوم أيضاً. غمرتني مرجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة. ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثوره إلى الابد!".

لاشك أن اختيار هذه المقطوعة لتكون مفتتحا للأصداء له دلالته الخاصة، فقد حملها محفوظ أقدس وأخطر مايؤمن به، ومايدعو له بالدوام إلى الأبد: الثورة! فالطفل دون السابعة، يساق إلى المدرسة الأولية محروساً بخادمة، المدرسة الأولية هذه رمز لسيطرة المجتمع من خلال مؤسساته على أفراده إبتداء من طفولتهم، يضمهم إليها مع غيرهم ليجعل منهم أنماطاً ونسخا متشابهة. والخادمة رمز للرقابة الأسرية اللصيقة التي لاتترك مجالاً للطفل للفكاك من شباكها. وهو لاحول له ولاقوة، في عينيه كآبة، وفي جسده برودة، و لكن قلبه يموج بالحنين للفوضى. ويجد الطفل مدرسته مغلقة بسبب مظاهرات الطلبة "الطلبة كذلك " فتجتاح السعادة الطفل، ويدعو للثورة أن تدوم إلى الأبد.

محفوظ إذن، ذلك الإنسان الهادئ المنضبط المنظم الملتزم، يحمل في داخله رففاً فطريا للقيود والتنميط، وحنينا فطريا للفوضى، عنصران أساسيان في تكوين المفكر الفنان: ثورة على الوصاية أياً كان مصدرها، وعلى كل مايكبل الفكر ويحد من انطلاقه، وتمرد فطري يدفعه إلى نبذ الموروثات وتجاوز الحدود المفروضة.

المهمة

"قالت لي أمي:

اذهب إلى جارتنا وقل لها هاتي الأمانة.

فسألتها وأنا أهم بالذهاب

- وما الأمانة؟

فقالت وهي تداري ابتسامة:

- لاتسأل عما لايعنيك ولكن احفظها عندما تتسلمها كأنها روحك.

وذهبت إلى جارتنا، و بلغتها الرسالة فحركت أعضاءها لتطرد الكسل، وقالت.

- يجب أن ترى بيتي قبل ذلك.

وأمرتني أن أتبعها ومضت أمامي وهي تتبختر.

وانقضى الوقت مثل نهر جار.

و كانت أمي ترد على خاطرى أحيانا، فأتخيلها وهي تنتظر".

صورة جديدة للحياة من بدايتها، يعرضها محفوظ في مقطوعة قصيرة بالغة الصعوبة مثقلة بالرمز وإن لم ينقصها خفة الظل المعهودة فيه.

والمقطوعة يكتنفها الكثير من التعقيد. والرمز في كل مكان. ولكن إذا أمكننا فك طلاسمها فسوف نجد أمامنا قطعة فنية رائعة يرسم فيها محفوظ صورة نابضة ناطقة للحياة.

الأم هنا، الطبيعة. أما الجارة التى بعث إليها فهي الحياة. بعثته أمه إليها ليسألها أن تعطيه الأمانة، حياته هو. وعندما أراد أن يعرف كنه هذه الأمانة، كان الجواب ألا يسأل عما لايعنيه. فهو لايملك هذا الحق. هذا. قدره. هو محكوم عليه بالحياة. وتطلب منه أن يحفظ الأمانة كأنها روحه وهي روحه بالفعل.

ويذهب إلى الجارة، ويبلغها الرسالة، فتحرك أعضاءها لتطرد الكسل، صورة رمزية طريفة لعملية حمل الحياة بمولود جديد.

وتطلب من أن يرى بيتها قبل ذلك، أن يرى الدنيا التي سيباشر على أرضها مهمته، حياته.

وتأمره أن يتبعها، أن يسير في موكبها، وتمضي الحياة أمامه في مشية هادئة رتيبة الايقاع وهي تتبختر، يوماً بعد يوم، صيفاً بعد صيف، شتاء بعد شتاء.

وينقضي الوقت مثل نهر جار، ذلك هو تيار العمر المتدفق. وترد أمه على خاطره، أحياناً، فيتخيلها وهى تنتظر، وماذا تنتظر الطبيعة من وليدها؟ عودته إليها بعد أن يستوفى أيامه، وتنتهى المهمة التي بعثته بها، ولتكمل الحياة دورتها الأزلية.

لعلها أول أقصوصة فى التاريخ يبدأ بطلها روايتها قبل أن يولد، يحكى فيها رحلته مع الحياة، منذ أن كان نطفة فى ضمير الغيب، أى أن يتخذ طريقه ليكون ذكرى في ذمة التاريخ، موضوعة، كما في قشرة بندقة.

نجيب محفوظ والحب

"دفعنا المطر إلى مدخل بيت قديم. في الخارج صوت انهلال المطر وهزيم الرعد، لون المغيب. وقفنا متقابلين فى المدخل الضيق، وليس معنا إلا بئر السلم وأفكارنا الخفية. قلت لنفسى: يا لها من امرأة!

وسرحت هي فى الجو البارد معتزة محتشمة قالت وكأنما تحدث نفسها:

-هذا المطر مقلب ما بعده مقلب. ( فقلت وأنا حائر بخواطرى:

- إنه رحمة للعالمين".

مقطوعة رشيقة، تحكي أقصوصة بالغة القصر عن رجل وامرأة، دفعهما المطر إلى مدخل بيت قديم، ودار حوار داخلي مقتضب: جملتان لا غير، واحدة منه. ولكن لو كشفنا الستار عن الاسرار التي يخفيها هذا النص القصير والتي تستتر خلف رموز خادعة، فسوف نجد أمامنا قصة تليق بالرءوس الوقور والقلوب الكبيرة.

المقطوعة تحكي تجربة حب. فالمطر هنا، رمز للحب الوافد المنهمر. أما البيت القديم الذي دفعهما الحب إلى مدخله فهو القلب. في الخارج صوت انهلال المطر وهزيم الرعد، تلك هي المشاعر والأحاسيس المضطرمة التي تصاحب الدخول فى تجربة عاطفية جديدة.

أما فى الداخل، فى باطنه هو فكان لون المغيب، اللون الذي يصاحب الغروب، ذلك هو رمز للعمر المتقدم الذي تؤرخ له هذه التجربة.

فمن هي هذه المرأة إذن، التي سرحت فى الجو البارد، معتزة محتشمة؟

تلك هى القيم الأخلاقية المتعارف عليها. هي "الانا الأعلى" فى مواجهة "الأنا" بلغة علم النفس، والتي لابد أن تتحفظ غزاء تجربة حب جديد فى مثل هذه السن، وتواجه ببرود.

وقفا متقابلين، فى المدخل الضيق، ذلك هو المضيق الذى يفصل بين الرغبات والمحظورات، كل منهما يريد أن ينفذ. ولم يكن معهما إلا بئر السلم، وأفكارهما الخفية، تلك هي أغوار النفس الإنسانية وأعماقها المظلمة، وما يمور فيها من أفكار ورغبات متضاربة.

قال لنفسه: يالها من امراة! تلك هي التي تقف حائلاً بينه وبين الانغماس فى تجربته الجديدة.

وقالت هى - كأنما تحدث نفسها- لأنها كانت تحدثه هو: هذا المطر مقلب ما بعده مقلب. تلك كانت جملتها. وكان هذا رأيها فى ذلك الحب الوافد فى تلك السن الحرجة.

ويقول هو - حائراً بخواطره: إنه رحمة للعالمين. تلك كانت جملته هو، وكانت رداً على ما قالته. لم يكن إذن حديثاً منها إليه أو منه إليها، وإنما كان حواراً داخليا، يمهد به لانطلاقة فى غمار تجربة جديدة.

هذا هو الحب كما يراه محفوظ، إنه رحمة للعالمين.

لمحات سياسية

"عقب الفراغ من صلاة الفجر، رحت أتجول فى الشوارع الخالية، جميل المشى فى الهدوء والنقاء بصحبة نسائم الخريف. ولما بلغت مشارف الصحراء، جلست فوق الصخرة المعروفة بأم الغلام. وسرح بصرى فى متاهة الصحراء المسربلة بالظلمة الرقيقة. وسرعان ما خيل إلى أن أشباحاً تتحرك نحو المدينة. قلت: لعلهم من رجال الأمن. ولكن مر أمامي أولهم فتبينت فيه هيكلا عظيماً يتطاير شرر من محجريه.

واجتاحنى العرب فوق الصخرة. وتسلسلت الأشباح واحداً فى إثر آخر. تساءلت وأنا أرتجف عما يخبئه النهار لمدينتى النائمة".

رأى أشباحهم فى الظلمة تتحرك نحو المدينة. ومر أولهم فتبين فيه هيكلاً عظمياً يتطاير من محجريه الشرر. واجتاحه الرعب كما ينبغى له، وتسللت الأشباح الخارجة من قبور الماشى السحيق.

ويتساءل عما يخبئه النهار لمدينته النائمة.

وقد نشرت هذه المقطوعة من الأصداء فى جريدة الأهرام فى 18 فبراير 1994.

وفى 14 أكتوبر من نفس السنة، أى بعد ثمانية أشهر من نشرها، تلقى نجيب محفوظ من أحد هذه الهياكل العظيمة طعنة خنجر فى رقبته، لتكون رداً دمويا على تساؤله المشفق المرتجف. ومازال كل عاقل يتساءل عما يمكن أن يكون مخبوءاً فى باطن الغيب لمدينتا- لمدينتا- النائمة الغافلة.

هذا واحد من آراء محفوظ المبدئية إزاء ما نشهده من سنوات، ولعل إحساسه المرهف بالخطر وتوجسه مما يتهدد حاضر ومستقبل وطنه وأمته، وحريتهما وأمنهما، هو ما جعله واحداً من الأهداف التي اختارتها هذه الأشباح لتنفذ فيه خططها الدموية، لولا أن القدر كان رحيما به وبوطنه وبكل ما يمثله من قيم ومثل.

الصور الفكرية

" ياله من زمن، زمن الطرب.

ترسل الحناجر الذهنية أنفاسها فتنتشر النشوة كالشذا الطيب النفاذ. وتتخلق فى هالة الطرب امراة جميلة تعشقها القلوب البيضاء. ولكنها لا يعثر على أثر فى غير دنيا الطرب. لقد اختارات قلب الطرب مقاماً لها لا تبرحه"

فى زمن الطرب، تلك السنين الخضر التي تشهد فورة شباب العقل والقلب وتدفق المشاعر الوجدانية الفياضة، موج الرءوس والقلوب بالأفكار النبيلة السابحة كالأنغام، منطلقة من حانجر ذهبية تلك هى أصوات الفلاسفة والمفكرين العظام الذين يلتقيهم أصحاب هذه العقول والقلوب الشابة فى مطلع حياتهم الفكرية فتملك عليهم ألبابهم، وتنشر حولهم هالة عاطرة من النشوة.

فوق هذا الفيض من المشاعر الوجدانية، تنعقد هالة مشعة من الجمال النبيل. وفى وسط هذه الهالة تتخلق امرأة جميلة تعشقها القلوب البيضاء، هذه المرأة هى المثل العليا، معشوقة القلوب الناصعة. فى غير دنيا الطرب لا أثر لها، فقد اختارت قلب الطرب مقاما لها لاتبرحه. هى لا وجود لها إلا فى عالم الأحلام وفى غمار فيض الوجدان يتطلع إليها كل صاحب قلب أبيض، يرضى بها عقله وقلبه إرضاء لا مزيد عليه.

كان هذا زمن الأحلام والإيمان بالمثل العليا. وقد ذهب هذا الزمان، ومعه ذهبت تلك الأفكار المطلقة الساقين، المثل العليا.

فى حديث له يقول محفوظ: " أنظر إليه (يقصد الأصداء)، فى أحده قصة، ولا رواية ولاشعراً. ماهذا؟ تلك الحيرة (كانت) وراء خوفى من الإقدام على النشر.

نعم.. أصعب شيء بالنسبة لى مواجهة القارئ، لقد مرت علىّ لحظات أمزق فيها أصداء السيرة".

ونقول تعليقاً على ما قاله محفوظ: أى خسارة كانت ستصيب الأدب لو أقدم الرجل على هذه الفعلة فى واحدة من تلك اللحظات ؟

ثم نقول إن حيرته فى تصنيف الأصداء ضمن واحد من الأنواع الأدبية المعروفة أمر يجب ألا يكون مصدرا لأرقه، بعد أن صدرت بالفعل وأصبحت حقيقة أدبية ماثلة.

هى ليست رواية، كما أنها ليست شعراً، وليست قصة قصيرة كذلك، وإنما هى فى رأيي نوع جديد سأطلق عليه اسم "المنمنمات الأدبية" Literary Miniatures، فالمنمنمات هى تلك اللوحات الصغيرة المذهبة زاهية الألوان التي كانت تحلى بها المخطوطات أو الرسائل فى العصور الوسطى، توضيحا وتصويراً لما يرد فيها، ولعل إضفاء هذا الاسم على ذلك النوع الجديد من الكتابات الأدبية يضع حداً لحيرة كاتبنا الكبير، فهي كتابات بالغة الصغر، باهرة الألوان، شديدة الثراء، عميقة الدلالة، فليكن هذا هو اسم هذا النوع الأدبى الجديد، وليكن كاتبنا الكبير أول من ارتاد عالمه.

 

عبدالسميع عمر زين الدين

 
  




نجيب محفوظ





نجيب محفوظ