الأعراق والمحيط الحيوي للأرض

الأعراق والمحيط الحيوي للأرض


المؤلف: ليف جومليوف

ليس بوسع المرء عند الحديث عن كتاب: "الأعراق والمحيط الحيوي للأرض" تجاهل شخص المؤلف. إذ إن الكتاب الذي بين أيدينا جزء فقط من العالم الرحب لهذا الكاتب الكبير, حياة من حيواته التي أهدرها على مذبح العلم والمعرفة للتوصل إلى الحقيقة التي طالما أضنى الجهل بها والبحث عنها ملايين.

نشأ العالم الروسي الكبير ليف جومليوف في كنف أبوين من أبرز المثقفين الروس على العموم, وعلى الخصوص من تلك الشريحة الدقيقة الرقيقة مرهفة الحس ثاقبة الرؤية من المثقفين الروس الذين حين أدركتهم الثورة عام 1917 تبينوا وسط الضباب الكثيف الخط الدقيق الفاصل بين الظلمات والنور, فرفضوا تصديق تحقق الحلم من قلب بحار الدماء والقهر والإرهاب, كانوا يحترمون التاريخ فاقشعرت أفئدتهم نفورا من محاولات لي عنقه. كانوا يقدرون الشعوب فاستنكروا الاستخفاف بمصائرها بالإصرار على حل معضلات تطورها بقرارات قسرية فوقية. كانوا يحبون البشر فعافت نفوسهم معاملة النفس الإنسانية بالحديد والنار.

ولم تغر هذه الشريحة الضيقة من المثقفين الروس الحلول السهلة بالانضمام إلى صفوف المهاجرين, وقبلوا التحدي الأكبر بمناصبة الديناصور العداء ومبادلته ألسنة اللهب في عقر داره فتركوا أثرا لا يمحى في وجدان الشعب الروسي, وتجرعوا في صمت وكبرياء عذاب المطاردة والمصادرة والنفي والتغييب, بل وحتى اللحاق بقوافل القتلى الذين حصدتهم نيران الثورة في معمعان تبشيرها بأفضل مجتمع إنساني عرفه التاريخ.

كان الوالدان بعض فرسان هذا الزمن العصيب, أما جومليوف الأب الضابط في الجيش القيصري الأبيض وأحد أشهر الشعراء الروس في آن, فقد واصل بعد الثورة تأدية عمله كضابط موليا ظهره للأحداث الجارية, ملقيا بكل ما يملك من طاقة ووقت في بحار الأدب يكتب الشعر, ويترجم إلى الروسية روائع الشعر العالمي الإنجليزي والفرنسي.

على أن الثورة كانت لطبقة النبلاء بالمرصاد, وسرعان ما اتهم جومليوف ظلما مع مجموعة من الضباط بالإعداد لانقلاب عسكري, فزج به في غياهب السجون فترة قصيرة ثم أعدم ومن معه.

وقد عرف عن الشاعر الكبير نيقولاي جومليوف حبه الشديد للعرب وتقديره لتاريخهم وحضارتهم, الأمر الذي دفعه ـ برغم عمره القصير ـ للترحال بين بلادهم, وخص مصر بزيارات ثلاث, وإلى كتابة مجموعة أشعار كرسها للتغني بالعرب وبأمجادهم.

وأما الأم فهي الشاعرة الروسية الفذة آنا اخماتوفا, التي رفضت إغراءات الهجرة بعد إعدام زوجها, وواصلت كتابة أشعارها التي كانت برغم النفي والمصادرة تنتشر كالنار في الهشيم لتبدد بعض ظلمات الليل الذي جثا على نفوس الشعب الروسي, وتحولت إلى أسطورة الغائب الحاضر إذ كانت أكثر تأثيرا وحضورا في وجدان الشعب الروسي من عشرات من الشعراء الذين منحوا كل أسباب الشهرة والانتشار.

المصادرة حيا وميتا

أما لماذا صودرت أعمال جومليوف حيا في ظل الحكم السوفييتي وميتا في ظل البريسترويكا, فلأن العالم الكبير وضع عدة مؤلفات حول تاريخ الشعوب والأعراق تؤسس لنظرية جديدة تقابل نظريات: الشمال والجنوب والشرق والغرب, والدول النامية والأخرى المتطورة, تلك النظريات التي كان جومليوف يعتبرها احتقارا لشأن شعوب العالم التي يسمونها: الجنوب ـ الشرق ـ النامية.

وضع جومليوف أسس نظرية جديدة تقابل الفهم المادي الأحادي الجانب, الذي ساد مدرسة التاريخ وعلم الاجتماع السوفييتية, لتطور الأعراق والشعوب والقائم على قانون الصراع الاجتماعي, وتقابل أيضا الفهم الغربي القائم على نظرية الارتقاء.

ويدرس جومليوف نشأة الأعراق وتطورها وأفول نجمها اعتمادا على علوم ثلاثة رئيسية: التاريخ والجغرافيا والبيولوجيا "البيئة والجينات". وبعد دراسة عميقة شاملة لتاريخ الأعراق القديمة يتوصل جومليوف إلى استنتاج محوري يُفسر سِر نشأة الأعراق وتطورها وانكسارها على كوكبنا الأرضي وهو أن الأعراق هي جزء من المحيط الحيوي للأرض. إنها إحدى تجلياته البادية للعيان, ويقول في هذا الصدد: "إن الأعراق هي شكل خاص لبقاء النوع البيولوجي على الأرض" مثلها في ذلك تماما مثل العالم النباتي والحيواني والمحيط الجغرافي. ولذا فلديه تتضمن دراسة الأعراق عدا القوانين الاجتماعية, أعمال قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا لتكتمل الصورة.

وحول مدرسة دراسة الأعراق والشعوب التي تقصر نشأتها وتطورها وانكسارها على الأسباب الاجتماعية يقول جومليوف: "إن العرق ظاهرة ليست اجتماعية لأن بإمكانه البقاء في بضعة تشكيلات اجتماعية". ويضع جومليوف تفسيرات علمية شاملة لنشأة الأعراق وتطورها ثم فقدانها لأهميتها الاجتماعية ـ السياسية والتاريخية ـ الثقافية المؤدي إلى انكسارها, من ذلك الشرط التاريخي والجغرافي والاجتماعي والبيولوجي والثقافي العام وحتى اللغوي إن أمكن, ويؤسس على هذا النحو قوانين التأثيرات المتبادلة بين المجتمع والطبيعة وموقع الأعراق في قلب هذه التأثيرات, تأثرا بها وتأثيرا عليها. ويضع جومليوف شرطا جديدا محتملا لنشأة الأعراق وتطورها هو تأثير المحيط الحيوي للأرض ـ وسنعود لشرح ذلك تفصيلا.

وتمر عملية تطور الأعراق عند جومليوف بمراحل ست هي: ظهور الأعراق, ونمو الأعراق, وانكسار الأعراق, واستمرار بقاء الأعراق بقوة القصور الذاتي, والانتقال إلى الانحدار, وما بعد الانحدار.

ويحدد جومليوف طبيعة وسمات كل مرحلة وشروط اكتمالها, وحول المرحلة الأخيرة يشير الكاتب إلى أن مرحلة ما بعد الانحدار قد تستمر بلا نهاية إذا لم يقدم شعب على القضاء على شعب آخر قضاء نهائيا, عندئذ فقط يختفي هذا الشعب تماما, وعدا ذلك فقد يشهد هذا الشعب أو ذاك بعد المرحلة الأخيرة نموا مرة أخرى ثم انكسارا.. إلخ

ولذا يرفض جومليوف القول بتخلف شعب وتطور شعب آخر, وإنما يعتبر أن هناك شعبا شابا فتيا وآخر كهلا وثالثا شيخا, وأنه قد تتبادل الشعوب الأدوار فيما بينها, ومع كل دورة جديدة تضاف سمات جديدة للعرق أو الشعب المعني.

والتاريخ العالمي بالنسبة لجومليوف لايدور حول نظرية الارتقاء من البسيط إلى الأقل بساطة, فالمعقد فالأكثر تعقيدا ـ التي يتبناها الغرب ـ والتي تعني ضمنا فهما ميكانيكيا لتطور التاريخ, وتعني حتمية التطور على هذا النحو فقط, ويستشهد جومليوف لدحض ذلك بشعوب وأعراق عريقة كانت ومازالت تحيا في مرحلة الاستمرار بقوة القصور الذاتي أو حتى الانحدار أو ما بعده, لكنها مازالت تحيا, وقد تمتد هذه المرحلة امتدادا طويلا في الزمن دون أن ينتقل هذا العرق إلى مرحلة أكثر تعقيدا "المقصود أكثر تطورا", ولا أن يرتد إلى مرحلة أكثر بساطة "المقصود أكثر تخلفا".

ولا يعتبر التاريخ العالمي تاريخا للصراع الاجتماعي فحسب, إنما تتطور البشرية في خط صاعد ثم منحنى هابط, ثم خط صاعد فمنحنى هابط وهلم جرا. الأمر الذي يفسر قوله إن أيا من مراحل النشأة أو النمو الهائل, أو الانكسار قد تمتد أو تقصر, لكنها في النهاية إلى انحدار, ثم عودة محتملة بسمات وخصائص عريقة جديدة, وبشرط توافر العوامل والقوانين التي يضعها جومليوف لاكتمال كل مرحلة.

ويقسم جومليوف الأعراق إلى مستويات ثلاثة للتطور هي:

1ـ العرق الأعلى "الأعظم" مثل العرق الإسلامي الذي ضم إلى العرق العربي الأصل أعراقا عديدة أخرى, اندمجت لتشكل عرقا واحدا أعظم.

2ـ العرق مثل العرب, الجرمان.. إلخ.

3ـ العرق الفرعي "الثانوي" مثل الأكراد في تركيا أو العراق والنوبيين في مصر..إلخ.

ومن ثم يتناول العلاقات بين هذه المستويات الثلاثة, ويبحث كيفية تطور العرق إلى عرق أعظم أو انحداره إلى عرق فرعي أو العكس, ويضع الشروط والقوانين الموضوعية لذلك, ثم يحدد الملامح الجديدة الناجمة عن هذه التحولات, ويفسر أسباب اندلاع الحروب أو إقرار السلام بين الأشكال المختلفة للأعراق, ولماذا اتسمت بعض الحروب بالدموية الكاسحة والدمار الشامل "التتار والمغول" في حين نجمت أخرى عن خسائر أقل.

وعودة إلى تأثير المحيط الحيوي للأرض كشرط قيد البحث لدراسة تاريخ الأعراق يعتقد جومليوف أن الأعراق هي جزء بين المحيط الحيوي للأرض, وبالتالي فالأخير إنما يساعد "أو يعرقل" نشأة الأعراق وتطورها, ويؤكد ذلك قائلا إن الأعراق لا تظهر في أي جزء من المحيط الحيوي للأرض, وإنما في ذلك الجزء الذي تتوافر فيه مقومات الحياة التي تتمثل عنده في ملامح طبيعية ثلاثة على الأقل كأن تكون:

جبال + سهول + غابات

جبال + سهول + بحار

صحراء + واحات + مياه "جوفية, نهر, بحر"

ويعتقد أنه كلما ازدادت عناصر الطبيعة ثراء وتنوعا, ساعد ذلك على ازدهار وتطور الأعراق والعكس صحيح.

وبدراسة عميقة لتأثير المحيط الحيوي للأرض في تطور الأعراق توصل إلى الاكتشاف الذي أسماه: تفجر العواطف والذي يعتبره أحد أهم عوامل تطور الشعوب والأعراق. وبرغم أنه توصل إلى هذا الاكتشاف, فإنه يقر بتواضع العلماء أنه لم يتوصل بعد لأسباب هذه الظاهرة, وإنما فقط وضع يده عليها كحقيقة تؤكدها دراسة تاريخ البشرية, ومع الأسف لم يمهل القدر العالم الكبير الوقت لإكمال مشروعه.

وبناء على تعميم لأحدث حقائق الأبحاث العلمية المتصلة بمادة البحث, وبشكل خاص بنشأة الشعوب, وبالبنية العضوية للإنسان, توصل جومليوف إلى أن الكون يبعث بأشعات إلى سطح الأرض تستقبلها البنية العضوية للإنسان, فتتفاعل تأثرا وتأثيرا ليؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى تولد طاقات إنسانية جديدة سيكولوجية وفيزيائية وبيولوجية تفجر قدرات ومواهب التجمعات الإنسانية على جميع المستويات بما في ذلك الذهنية والفيزيائية. وتفضي هذه الطاقات الجديدة بدورها إلى خروج الشعب المعني عن المألوف في حياته من عادات وتقاليد وأعراف ونمط حياة اقتصادي ـ اجتماعي ـ سياسي, أي إلى تحول اجتماعي ضخم. ويقدم جومليوف العرب نموذجا لذلك, ويفسر وفق هذه النظرية تطورهم الضخم من شعب صغير منزو في ثنايا ومنحنيات جغرافية الأرض إلى عرق أعظم.

ويرى جومليوف أن التحولات الناتجة عن تفاعل البنية العضوية للإنسان مع الأشعات التي يرسلها الكون إلى سطح الأرض إنما تمد الإنسان بشحنات ضخمة من العواطف "أو الانفعالات إن شئت", هي السبب المباشر لميل الإنسان إلى الإتيان بالأعمال الخارقة سلبا "الدمار الذي أحدثه التتار والمغول" أو إيجابا "تطور مصر القديمة أو العرب", التي تؤدي بدورها إلى استبدال الواقع الاجتماعي القائم بواقع جديد.

حب العرب

وكما ورث جومليوف عن أبويه عداء السلطة السوفييتية, ورث أيضا حب والديه للعرب, فعندما يتخذ جومليوف من تطور العرب نموذجا لتأثير نظرية تفجر العواطف على تطور الأعراق يشعر القارىء بكم الاحترام والتقدير الذي يكنه للعرب وتاريخهم وحضارتهم, ويبدو عكس ذلك عندما يتطرق الحديث عن اليهود, ونشأة هذا العرق وتطوره, إذ يؤكد أن كل ما كان يعني اليهود طوال تاريخهم هو السيطرة على مراكز التجارة والمال, وإن صفحات التاريخ اكتظت بمؤامراتهم ودسائسهم.

ولست أشك لحظة في أن هذا العداء الواضح كان وراء مصادرة قادة البريسترويكا لأعمال العالم الكبير ليف جومليوف, فمن موقعي كباحثة وخبيرة في الشئون السوفييتية الداخلية, ومن ثم الروسية الداخلية طوال حوالي عقدين من الزمان, توصلت إلى قناعة بناء على معطيات موضوعية يومية ومعرفة عميقة بتفاصيل الواقع الروسي أن الفترة الممتدة ما بين بداية البريسترويكا عام 1985 باعتلاء جورباتشوف قمة الحكم وعام 1991, الذي شهد اختفاء الاتحاد السوفييتي من على وجه الكرة الأرضية, شهدت هذه الفترة نشاطا محموما من قبل اليهود داخل الاتحاد السوفييتي وبدعم على جميع الأصعدة من المؤسسات الصهيونية العالمية للسيطرة على مراكز اتخاذ القرار وصناعة الرأي العام في الاتحاد السوفييتي.

وقد تكلل هذا النشاط بنجاح ساحق, وليس غريبا بعد ذلك أن يكون عمدة ليننجراد اليهودي المعروف سابتشاك هو الذي رفض دفن جومليوف في مسقط رأسه وهو الذي بذل جهودا مضنية لمصادرة أعماله.

إن كتاب "الأعراق والمحيط الحيوي للأرض" لهو كتاب جدير بالقراءة والدرس, وإن مؤلفه لعالم كبير جدير بكل احترام وتقدير, وأخيرا فإن لتاريخ روسيا طوال الحكم السوفييتي وجها آخر لا نعرفه جديرا بالبحث والاهتمام.

 

عزة الخميسي

 
  




غلاف الكتاب