التشبث بالعقيدة الدينية

  التشبث بالعقيدة الدينية
        

          يطيب لي أن أرسل إليكم بهذا التعقيب على موضوع للكاتب د. أحمد أبو زيد عدد 617 أبريل 2010م والذي جاء بعنوان: «العودة إلى الدين». وهو موضوع في غاية الأهمية بل هو موضوع الساعة في هذا العصر. إن فكرة العقيدة الدينية، فكرة قديمة جداً ولك أن تقول إنها قد نشأت مع وجود الإنسان، حيث تعتبر العقائد من أهم العناصر الرئيسة التي تشكل حياة الفرد وجميع سلوكه، وبالتالي ينسحب الأمر على المجتمع بكامله من دون استثناء ومهما كان الفرد بعيدا عن الدين ولا يضعه في أدنى درجة من درجات سلم أولوياته أو اهتماماته. وقد أثبت التاريخ البشري كما يقول هنري برجسون Bergson «إنه قد وجدت في الماضي السحيق جماعات إنسانية ليست لها فلسفات ولا علوم ولا فنون، ولكن لم توجد قط جماعة إنسانية ليست لها عقيدة تؤمن بها وتدين»؛ الأمر الذي يعزز في النفس الإنسانية أهمية العقيدة والمعتقد ويؤكد على حقيقة ثابتة وهي وجود خالق مسيطر على الوجود، يقول تعالى:

          وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ 

          يأتي الدين في المقدمة دائماً فهو يحوز قصب السبق ثم تأتي بقية العناصر الأخرى المهمة التي تقوم بتشكيل سلوك الفرد تجاه جميع القضايا الكبرى والملحة أو حتى المصيرية: التنشئة، التربية، الثقافة، التعليم، وغيرها من المؤثرات. فالدين أو المعتقد يلعب الدور الرئيس والأبرز في حياتنا ومن الصعوبة إن لم نقل إنه من المستحيل أن يرتضي شخص أو مجتمع أن تمس عقيدته يقول الشاعر أحمد الكشاف:

          أمضي وراء عقيدتي وأجلها
                                        من أن أداري شيعة وأحابي

          وقال جعفر الحلي:

          عَقيدَتي حبُّ بَني فاطمٍ
                                        فَرض وَلو يَهدر فيها دَمي

          ومن المهم هنا ألا يفوتنا أن نذكر القارئ بحادث مقتل رئيسة الوزراء الهندية التي قتلها اثنان من حرسها الشخصي وهما من طائفة السيخ عقب إصدارها الأوامر للشرطة الهندية بدخول المعبد الذهبي الخاص بطائفة السيخ، حيث قامت الشرطة الهندية بتخريب المعبد مما ولد ضغينة وكراهية تجاه أنديرا غاندي التي تتبع لطائفة الهندوس. هذا الحادث يجسد لنا بصورة جلية مدى ما للعقيدة من أثر فعال في تشكيل سلوك الأفراد أو الجماعات. ومن المؤكد أن الشعور الديني لم يفارق أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات ؛ والحقيقة الثابتة أن الإنسان دوماً في حيرة من أمره، وهو يجتهد لمعرفة مبتداه ومصيره، كما يبحث عن تفسير لكل الظواهر الكونية، مما يبعثه على الإيمان بوجود قوة يخضع لها هذا الوجود بكامله. وفكرة التدين - في جوهرها- ليس هناك دليل واحد يدل على أنها قد تأخرت عن نشأة الإنسان، لأنها غريزة مشتركة بين كل الأجناس البشرية حتى التي أشدها همجية وأقربها إلى الحيوانية , وأن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة , هو أحد النزعات العالمية الخالدة، وهي لا تختفي ولا تضعف ولا تذبل. ومما يؤكد ويبرهن على أصالة الشعور العقدي والديني في النفس البشرية أقوال العديد من الباحثين والمؤرخين الناقدين للأديان:

          1- سانت هيلير : في كتابه (Mohammed Et Le Goran- - محمد والقرآن-) هذا اللغز العظيم الذي يتوارد على أفكارنا ولا نستطيع دفعه عن عقولنا والذي يحملنا حملاً على التساؤل: ما العالم؟، ما الإنسان؟ وكيف بدأ؟ ومن أين؟  وهل يوجد شيء هناك؟ لا توجد أمة إلا ووضعت لهذه الأسئلة حلولاً مناسبة، جيدة كانت أم رديئة، مقبولة أو ممجوجة، ثابتة أو متغيرة.

          2- ماكس نوردو (Max Nordau) : هذا الإحساس له أصالته، وجذوره العميقة في النفس الإنسانية، يشعر به المتدين وغير المتدين.

          3- رينان ((Renan - في كتابه (Histoire Des Religions تاريخ الأديان) : إنه من المحتمل أن يضمحل كل ما نحبه ونتطلع إلى حيازته. ومن الجائز- عقلاً- أن تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة , ولكن من المستحيل أن يمحى التدين، بل سيستمر- دليلاً قاطعاً- على بطلان المذهب المادي الذي يسعى لحصر الفكر الإنساني في المسالك الدنيئة للحياة.

          4- العقاد - في كتابه (الله): ... وإنما يصح أن يوصف بالغرابة- لسبب واحد- وهو الإجماع على الاعتقاد أياً كان موضوع هذا الاعتقاد. كأنما يوجد الاستعداد للعقيدة أولاً، ثم توجد العقيدة على اختلاف نصيبها من الرشد والضلال. أو توجد الملكة أولاً، ثم يوجد موضوع الاعتقاد. لا يملك شخص عاقل إلا أن يسلم بأنه من الصعب بل ومن المستحيل تماماً، أن تتلاشى فكرة الدين؛ لأنها أرقى ميول النفس وأكرم عواطفها , ناهيك بميل يرفع رأس الإنسان , بل إن هذا الميل سيزداد، لأن فكرة التدين ستلاحق الإنسان مادام ذا عقل يعقل به، وستزداد هذه الفطرة على نسبة علو مداركه ونمو معارفه.

د. حسن محمد أحمد محمد - الخرطوم
باحث متعاون مركز البحوث والدراسات الأفريقية
جامعة أفريفيا العالمية.