أوراق أدبية.. النموذج الأصلي للشاعر في تراثنا جابر عصفور

أوراق أدبية.. النموذج الأصلي للشاعر في تراثنا

ما هي صورة الشاعر كما يقدمها تراثنا العربي، سائح يترزق من شعره، أم عارف بكل شيء وقادر على كل شيء، أم أن هناك نموذجا أصليا للشاعر يجعله دائما عنصرا من عناصر الإخصاب والتجدد في الطبيعة؟

هناك أكثر من صورة للشاعر في تراثنا، صورة السائح الذي جعل من الشعر حانوتا يدور به على طالبي المديح، وهي الصورة الغالبة التي استمرت زمنا طويلا، نتيجة تعقد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وصورة الشاعر اللاهي الذي يغنم من الحاضر لذاته دون أن يعبأ بشيء بعد هذه اللذات، احتجاجا على فساد حاضره السياسي الاجتماعي أو احتجاجا وجوديا على الموت، وصورة الشاعر الصانع الذي يرى في كمال إبداعه أو إحكام صنعته غاية مستقلة عن كل غاية، وصورة الشاعر الداعية الذي يوظف شعره في خدمة اعتقاد أعم منه، بالمعنى الديني أو السياسي أو الاجتماعي، على النحو الذي يضع المحتوى الاعتقادي في صدارة النظم الذي يصوغه ذلك الشاعر لإيقاع التصديق بما يدعو إليه.

قد تغلب صورة من هذه الصور في عصر دون عصر لأسباب يمكن تحديدها، وقد تتجاور أكثر من صورة في عصر آخر لأسباب مغايرة، ولكن تظل كل هذه الصور بمثابة نماذج متغيرة لاحقة، متأخرة نسبيا بالقياس إلى النموذج الأصلي الأقدم الذي بدأ به الوعي بالشعر والشاعر عند العرب، وظل يعود إليه كل تفكير في الشعر والشاعر في متواليات تعدد الآراء، وتغير الاتجاهات، واختلاف العصور، وتجدد الوظائف. هذا النموذج الأصلي هو نموذج الشاعر العارف بكل شيء، القادر على كل شيء، وهو نموذج مفارق، يتحدد بالمغايرة التي تمكنه من معرفة ما لا يعرفه الآخرون، ويمتلك القدرة التي يملك معها أن يغير حركة المجموع ومواقف الفرد، والمعرفة والقدرة وجهان للدلالة التي ينطوي بها حضور هذا النموذج على المفارقة التي تجسدها علاقته بغيره، فهو ناء عن البشر العاديين بالمعرفة التي يجهلونها، والتي يستمد منها اسمه، منذ أن أطلقت اللغة العربية عليه اسم "الشاعر" لأنه يشعر "أي يعلم، ويعرف، ويفطن" بما لا يشعر به غيره "أي يعلم ويعرف ويفطن "، ورَدَّت جذر الدلالة اللغوية لكلمة "الشعر" إلى العلم والمعرفة والفطنة التي لا تتاح إلا للكائن المتفرد الذي يشعر ويعلم ويفطن إلى ما لا يشعر به غيره أو يفطن أو يعلم.

الشاعر وأفعال السحر

هذا الشاعر النائي عن الآخرين لأنه يعلم ما لا يعلمون، قريب منهم بقدرته على أن يفعل ما لا يفعلون، وأول ذلك أثره فيهم، بما يبدعه من "شعر" ينقلهم من حال إلى حال، ومقام إلى مقام، وذلك في فعل أشبه بأفعال السحر، فالقدرة العجيبة على إيقاع التأثير في الآخرين، والتلاعب بهم هي بعض الصفات السحرية التي ظلت ملازمة للنموذج الأصلي للشعر والشاعر، من قبل أن يقول نبينا الكريم "صلى الله عليه وسلم ": "إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكما" (الحكمة في روايات أخرى) ومن بعد أن قال أبونواس "إن الشعر من عقد السحر".

هذه المفارقة التي يتأسس بها النموذج الأصلي، تراثيا، في دلالته التي تفصله عن الآخرين وتدنيه منهم، تؤكد طبيعته المفارقة، وتجعل منه نموذجا كليا ينطوي على الأوجه المتعددة للكاهن والشامان والساحر والعراف والنبي والعالم والحكيم ولكن على النحو الذي يرد كل هذه الأوجه إلى جذرها الذي يصل بين المعرفة والقدرة، في دائرة الدلالة المتحررة التي تحرك فيها وبها هذا النموذج، تراثيا ورمزيا على السواء، والتي قاربت بينه والكائنات غير البشرية كالجن والشياطين، والأرواح الشريرة أو الخيرة، كما قاربت بينه وعناصر الطبيعة الفاعلة المقترنة بالخصب والنماء.

ولم يكن من قبيل المصادفة أن يشيع الاعتقاد الذي يرد الشعر إلى نوع من الإلهام الذي يصل الشاعر بقوة علوية تنطق على لسانه، وأن يغدو لكل شاعر شيطان أو رئي، يلهمه الشعر، ويغويه على إنشاده، ويعينه حين يجبل عليه النظم، فيروي أبوزيد القرشي "قول الجن على ألسنة الشعراء". ويحدثنا الثعالبي "متابعا الجاحظ " عن الشياطين التي زعم الشعراء أنها تقول الشعر على أفواهها، ذاهبا إلى أن من كان شيطانه أمرد كان شعره أجود، ويحدثنا غير الثعالبي عن هبيد شيطان عبيد وعتيبة تابع "جني " امرىء القيس وعنتر تابع طرفة ومسحل شيطان الأعشى ومدرك شيطان الكميت وعمرو شيطان الفرزدق، ويعابثنا بديع الزمان الهمزاني في مقاماته، خصوصا المقامة الإبليسية التي يلقى فيها عيسى بن هشام إبليس الذي يحدثه عن قومه قائلا: "ما أحد من الشعراء إلا ومعه معين منا"، وينقلنا ابن شهيد الأندلسي، بعد الهمزاني، إلى عالم التوابع " الجن " والزوابع "الشياطين " بعد أن تراءى له تابعه زهير بن نمير من قبيلة أشجع في الجن، وصحبه على فرس أدهم، في جولة يلقى فيها توابع الشعراء والكتاب وزوابعهم، ومن قبل أن يقول حسان بن ثابت بيته:

وقافية مثل السنان رزيته

تناولت من جو السماء نزولها

كنا نقرأ له:

ولى صاحب من بني الشيصبان

فحينا أقول وحينا هوه

كما قرأنا لغيره:

إني وكل شاعر من البشر

شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

هذه العلاقة التي وصلت النموذج الأصلي للشاعر بالكائنات غير البشرية إلى المساعدة لم يكن الهدف منها تبرير القدرة المفارقة لهذا النموذج، وتغير طاقاته الإبداعية في مصدرها الذي يجاوز قدرة أقرانه من البشر العاديين، وفي تأثيرها الذي يتسم بقدرته على تغيير حياة البشر ومصائرهم، وكما وصلت هذه العملية التفسيرية للقدرة المفارقة بين نموذج الشاعر الأصلي والكائنات غير البشرية المساعدة، على مستوى الوعي الأسطوري، فإن العملية نفسها وصلت القدرة المفارقة للنموذج نفسه بعناصر الطبيعة المقترنة بالخصب والنماء، في جدلية التحول ما بين قطبي الوجود والعدم، ودورة الفصول، وتقلب عناصر الكون ما بين الميلاد والموت، والربيع والخريف، وذلك من منظور أوسع بكثير من كل ما أطلق عليه محمد عبدالمعين خان: المذهب الحيوي والمذهب الطوتمي في كتابه عن (الأساطير العربية قبل الإسلام).

الشاعر والنبي

لقد كان النموذج الأصلي للشاعر في سياق هذا المنظور عنصرا من عناصر الإخصاب والتجدد في الطبيعة، وكان لإبداعه التأثير المشابه لتأثير هذه العناصر، من حيث القدرة على إيقاع التحول من كل ما تمسه الكلمات أو تقع عليه القصائد، وذلك في دلالة جعلت من القصيدة فعلا من أفعال الإخصاب الذي اتحد وفعل السحر في التأثير المفارق، هذا التأثير بدوره هو الذي وصل في النهاية بين النموذج الأصلي للشاعر والعناصر السماوية المضيئة للكون كالشمس والقمر، في الدلالة التي تقوم على المفارقة نفسها، وذلك بالمعنى الذي أصبح معه نموذج الشاعر مجلى للمشبه به في البيت القديم:

كالبدر أفرط في العلو وضوؤه

للعصبة السارين جد قريب

ووجه الشبه بين هذا "البدر" والدلالة التراثية للنموذج الأصلي للشاعر يدني بالطرفين إلى حال من الاتحاد، في رمزية الدلالة الكاشفة، حيث يغدو الشاعر شبيه "البدر" الذي يفرط في العلو الذي يباعده عنا، في المكانة والرتبة والمعرفة والقدرة، والذي ضوؤه جد قريب منا، لا يفارق تأثيره الذي تهتدي به كل عصبة من السائرين، هذه الدلالة العربية القديمة غير بعيدة عن الدلالة الأقدم منها، في الحضارة الرومانية القديمة التي نظرت إلى الشاعر بوصفه كاهنا يعلم الغيب وينطقه بواسطة وحي إلهي، وذلك تأكيدا للأصل اليوناني الأقدم لنموذج الشاعر الذي كان ينطق المعرفة التي لا يعرفها سواه من البشر في موحى دلفي، هذه الدلالة نفسها هي التي وصلت بين "الشعر" و"النبي " في التراث العربي السابق على الإسلام، والتي دفعت لغويا مثل أبي عمرو بن العلاء إلى أن يقول: "كانت الشعراء عند العرب في الجاهلية بمنزلة الأنبياء من الأمم ".. وهي الدلالة التي قد ترجع إلى جذور سامية أقدم، ظلت تتردد في التراث العربي الباكر، خصوصا ما يروى عن كعب الأحبار من قوله "إنا نجد قوما في التوراة أناجيلهم في صدورهم تنطق ألسنتهم بالحكمة، وأظنهم الشعراء ".

هذا النموذج هو الموازي الاجتماعي للبطريرك في المجتمعات القديمة، أقصد إلى أن الشاعر كان المرآة الإبداعية التي تنعكس عليها، رمزيا، سلطة موازية لسلطة شيخ القبيلة أو السلطة العليا في القبيلة التي كانت بدورها نموذجا لمجتمع مركزي يدور حول قطبه الأعلى، أو البطريرك الذي ترتد إليه- في النهاية- خيوط المصالح والعلاقات بالمعنى الاجتماعي والسياسي والاعتقادي والإبداعي. هذه الصفة البطريركية المحملة بلوازم مقاربة اعتقادية أسطورية، كانت المبرر الأول الذي انطوت عليه الثقافة العربية القديمة في الدفاع عن الشعر وتبرير وجود الشاعر، وهو مبرر لم يخل من معنى الأسطورة المرتبطة بصنعتي الخلق والتهديم، ومعنى السحر القادر على تغيير الأشياء والوقائع والاتجاهات، ومعنى المعرفة والتجدد على السواء، ولذلك كان وجود الشاعر في القبيلة، من زاوية إعلان ولادته شعريا وتكريسه إبداعيا، لحظة احتفالية من لحظات القبيلة، لحظة يغتني بها الوجود الخلاق الذي يؤكد تميز القبيلة عن غيرها، وذلك في دلالة غير مفارقة للدلالة التي تضمنها ما رواه ابن رشيق في كتابه "العمدة" من أن القبيلة من العرب:
"كانت إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنأون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج ". ومن المؤكد أن اقتران فرحة ميلاد الشاعر بفرحة الأعراس التي يتباشر بها الرجال والولدان، في كلمات ابن رشيق، تشير إلى ارتباط الشعر بالمعنى الأسطوري للولادة الجديدة، والخلق الدائم، وذلك في الدائرة التي وصلت العرس البشري لتزاوج الذكر والأنثى وأعراس الكون الطبيعية والحيوانية، حيث تتجدد الطبيعة في دورة الفصول، وتتجدد السلالة الحيوانية في دورة الخصوبة، وتتجدد الطاقة الإبداعية في دورة الشعر، وذلك هو السبب في اقتران الفرحة بدلالة الولادة الثلاثية الأبعاد، في كلمات ابن رشيق، حيث الإشارة واضحة إلى غلام يولد، وفرس ينتج "يولد" وشاعر ينبغ "يوجد ".

وأحسب أن البعد الجنسي الذي انطوت عليه الرمزية الأسطورية للولادة الجديدة، في هذا السياق، هو الذي وصل بين "فحولة" الشاعر و"فحولة" الحيوان، وأنزل الشاعر المبرز بين من هم أدنى منه شعريا منزلة "الفحل " بين "الحقاق" (الإبل الصغيرة) وهو نفسه الذي وصل بين "القصيدة" و"المرأة" في رمزية المعنى "المقترع " للجدة و"البكارة"، وذلك في الدلالة المتكررة التي ظلت تترجع عبر القصائد، إلى أن لخصها بيت أبي تمام:

طول الليالي إلا لمفترعه.

والشعر فرج ليست خصيصته

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات