فؤاد زكريا .. الفلسفة مفتاحاً للإصلاح الاجتماعي

فؤاد زكريا .. الفلسفة مفتاحاً للإصلاح الاجتماعي
        

          لكي نفهم العديد من الأفكار الفلسفية لفؤاد زكريا، فلابد أن نضع في اعتبارنا أنه لم يكن مقتصراً على تخصصه الدقيق كأستاذ للفلسفة الحديثة والمعاصرة، يلقي محاضراته على الطلاب في العديد من الجامعات العربية، بل إنه مثّل خير تمثيل دور المثقف، وذلك حين اهتم بالمشكلات السياسية والاجتماعية في المجتمعات العربية والمجتمعات الغربية والأمريكية.

          لابد أن نذكر أنه توجد مفاتيح كثيرة وعديدة لفهم أفكاره الفلسفية وأفكاره الثورية في مجال الإصلاح الاجتماعي والسياسي، من بينها غزارة اطلاعه، وأيضاً الحس النقدي العقلاني الذي نجده ليس في مؤلفاته فحسب، بل في دراساته المتعمقة في أول كل كتاب قام بترجمته، بالإضافة إلى نظرته للفلسفة من خلال أبعادها السياسية والاجتماعية والإصلاحية، وأيضاً إيمانه بالتنوير العقلي.

          وإذا كان المفكر لا ينشأ من فراغ، بل يكون متأثرا بالسابقين، وتكون وظيفته وصل ما انقطع، وليس فصل ما اتصل، وذلك كما يفعل الطبيب، فلابد إذاً أن نذكر بأنه  ـ رغم الاختلاف ـ كان متأثراً خلال دراسته بقسم الفلسفة، بالعديد من الأساتذة الذين تلقى العلم على أيديهم، ومن بينهم على وجه الخصوص، مفكرنا زكي نجيب محمود والذي رحل عن دنيانا منذ أكثر من خمسة عشر عاماً.

          لقد ذكر لي فؤاد زكريا في لقاء تم بيننا بمنزله أن من أكثر الأساتذة تأثيراً عليه خلال فترة وجوده طالباً بالجامعة، الدكتور زكي نجيب محمود، وعنه يقول : لقد جاء هذا الأستاذ ونحن طلبة بالسنة الثالثة، أي بعد ثلاث سنوات من الدراسة الفلسفية، يحمل إلينا أفكاراً غير تقليدية، تخالف ما درجت عليه دراستنا قبل وجوده، جاء هذا الأستاذ ليعطينا صدمة فكرية كانت ضرورية لنا في هذا الحين لكي نعرف أن الفلسفة ليست اتجاهاً واحداً وليست إتباعاً لأي نوع من التقاليد والتراث. لقد جاء إلينا زكي نجيب محمود وهو مشبع بالأفكار الجديدة الثورية التي أثرت علينا تأثيراً كبيرا. كما يذكر الدكتور فؤاد زكريا من هؤلاء الأساتذة الذين أثروا فيه وفي زملائه أثناء الدراسة، الدكتور عبدالرحمن بدوي. لقد كنا فيما يقول الدكتور فؤاد زكريا، نبهر باتساع معلوماته وبإنتاجه التأليفي الغزير وبالعدد الكبير من اللغات الأجنبية التي يقرأ بها بالإضافة إلى اهتمامه بالحوار الفلسفي بينه وبين تلاميذه في تلك الفترة، واهتمام الدكتور فؤاد زكريا باللغات الأجنبية وضرورة تعلمها بدأ منذ سنوات تعليمه الأولى، كما أنه فور تخرجه في الجامعة، عمل مترجماً بكلية الآداب، جامعة القاهرة لمدة ثلاث سنوات حصل خلالها على درجة الماجستير وكان موضوع رسالته: النزعة الطبيعية عند نيتشه، كانت أول رسالة ماجستير فلسفة من كلية الآداب ـ جامعة عين شمس، إذ إن الرسالة نوقشت بجامعة عين شمس. كما حصل على درجة الدكتوراه من جامعة عين شمس عام 1956 وكان موضوع رسالته: مشكلة الحقيقة. وهذه الرسالة لم تنشر بعد.

الإتجاه العقلاني

          نقول ونكرر القول بأن الاتجاه العام السائد في كتابات الدكتور فؤاد زكريا، إنما هو الاتجاه العقلاني.

          ذلك الاتجاه الذي يؤمن بأهمية التفكير النقدي. الاتجاه الذي لا يغرق في الموضوعات الميتافيزيقية أو في الغيبيات، وفي الوقت نفسه نجد الدكتور فؤاد زكريا يعتقد بأن الفلسفة يجب أن تكون أداة لخدمة قضايا الإنسان بمختلف أنواعها ومجالاتها.

          ولهذا نجده يضيف إلى البحوث الأكاديمية البحثية في مجال الفلسفة، بحوثاً تحمل في مضمونها رسالة معينة إلى القارئ. إن قيامه بترجمة جمهورية أفلاطون يعد عملاً أكاديمياً، وفي الوقت نفسه، فإن القارئ يستطيع أن يستشف من التفكير الذي قدمه بالنسبة لأفلاطون، أفكاراً يمكنه أن يستعين بها في مواجهة مشكلات عديدة في العالم المعاصر.

          وما يقال عن ترجمته لجمهورية أفلاطون وكيف أن هذه الترجمة بالإضافة إلى كونها عملاً أكاديمياً فإنها تعد تحقيقاً للقول بالبعد الاجتماعي والسياسي للفلسفة، يقال أيضا عن ترجمة للتساعية الرابعة لأفلوطين، وقيامه بدراسة حياة أفلوطين ومذهبه الفلسفي وأبرز الأفكار الموجودة في التساعية الرابعة، هذه الدراسة التي تقترب من مائتي صفحة.

          إن قيام الدكتور فؤاد زكريا بهذا العمل الممتاز، بالإضافة إلى كونه عملاً أكاديمياً، فإنه يحمل في طياته حملة على الاتجاهات الصوفية والسحرية التي تميز بها العصر المتأخر من الفلسفة اليونانية. يقول الدكتور فؤاد زكريا في تقديمه لترجمة هذا العمل الفلسفي (ص 85) إن أبسط نتيجة لهذا الضعف في تفكير أفلوطين، أن الفلسفة قد أخذت تسمح للخرافات بالتغلغل في أبحاثها الخاصة، وبدأت العناصر الغريبة تختلط بالأبحاث العقلية حتى كاد العقل أن يخلي الطرق للأوهام، فكان لذلك أسوأ الأثر على العقول في العصور التالية.

          وإذا رجعنا إلى مقدمة كتابه عن اسبينوزا والذي أشرنا إليه في قائمة مؤلفاته الفلسفية، وجدناه حريصاً - من خلال حسه النقدي - على تقديم دراسة بها العديد من الإضافات الجديدة وغير المسبوقة. إنه يقول - بحق - في السطور الأولى من مقدمة تأليفه: في هذا الكتاب سوف يظهر اسبينوزا في صورة مختلفة كل الاختلاف عن تلك الصورة أو الصور التي تتبادر إلى الأذهان كلما عرض لها اسم هذا الفيلسوف.

          ولست أدعي أن هذه الصورة هي وحدها الصحيحة وأن كل ما عداها باطل . ولكني أستطيع أن أقول مطمئنا، من جهة، إنها رسمت بعد دراسة دقيقة للصور الأخرى المخالفة لها، وعن إدراك كامل للنظرة التقليدية لهذا المفكر العملاق وأستطيع أن أقول مطمئنا من جهة أخرى، إن هذه الصورة الجديدة التي سنرسمها أكثر اتساقاً من كل ما عداها، وإنها أقدر من غيرها على الجمع والتوفيق بين مواقف كثيرة لهذا الفيلسوف يظن في معظم الأحيان أنها منطوية على تناقض لا يرفع.

          إن هذا الكتاب - فيما نرى - شأنه في ذلك شأن الكتب الأخرى التي قام بها فؤاد زكريا يتضمن حشداً من المراجع الأجنبية والتي رجع إليها المؤلف وذلك حتى يقدم لنا صورة جديدة لا سبينوزا.

          والواقع أن فؤاد زكريا - وقد عرفت ذلك عن قرب - لايمكنه الشروع في تأليف كتاب إلا بعد الرجوع إلى حشد من المصادر والمراجع، إنه مفكر يدرك أمانة الكلمة، ويختلف عن هؤلاء الذين يكتبون في كل شيء، دون فهم من جانبهم لأي شيء، إنهم أشباه وأنصاف الأساتذة الذين امتلأت بهم جامعاتنا والعياذ بالله.

الفن والمجتمع

          وإذا إردنا الانتقال إلى كتاب آخر أو موسوعة ضخمة، من الموسوعات التي قام فؤاد زكريا بترجمتها، وقدم عن طريقها خدمة كبرى للقارئ العربي، وجدنا ترجمته الرائعة لكتاب «الفن والمجتمع عبر التاريخ»، وفي أكثر من ألف صفحة،  من تأليف أرنولدهاوزر. لقد كان اختيار فؤاد زكريا هذا الكتاب وبذل أكبر مجهود من جانبه في ترجمته، اختياراً ذكياً موفقاً، إنه موسوعة لا يستغنى عنه الباحث في هذا المجال، مجال الفنون وعلم الجمال، من قريب أو من بعيد، وخاصة أن مؤلفه ينظر، ليس فقط إلى التاريخ الاجتماعي للفن، ولكنه يعد، كما يقول فؤاد زكريا في السطور الأولى من تقديم للترجمة، عرضاَ شاملاً لتطور الحياة الإنسانية. والواقع أنني حين شرعت من جانبي في قراءة ترجمة فؤاد زكريا لهذا الكتاب، كنت أقول إنه يعد بحرا على بحر، وإن كان أكثرهم لا يعلمون. أن المؤلف يدرس عصور ما قبل التاريخ، والثقافات الحضارية في الشرق القديم، واليونان وروما، والعصور الوسطى، وعصر النهضة.. إلخ. وهذا يدلنا على أن اختيار فؤاد زكريا للكتب التي يقوم بترجمتها، إنما يعد اختياراً يكشف عن ذكاء فؤاد زكريا. وأشهد أنني حينما كنت أداوم على زيارته بمنزله، أنه كان يقوم بقراءة هذا الكتاب وذاك من الكتب التي يفكر في ترجمتها، وذلك قبل الشروع في اختيار كتاب دون غيره من كتب لتقديمه مترجماً إلى القاريء العربي، وهذا يختلف اختلافاً جذرياً عن حال الترجمة في بعض بلداننا العربية، والتي تحولت إلى نوع من التجارة والتي لا ضمير يسود منطقها.

          وما قلناه عن ترجمة فؤاد زكريا لهذا الكتاب، وأن اختياره من جانبه إنما يدل على ذكاء فؤاد زكريا، يقال عن ترجمته لكتاب، أو موسوعة ضخمة، ونعني به كتاب النقد الفني - دراسة جمالية - إن هذا الكتاب لا غنى عنه للمهتم بالنقد الفني وعلم الجمال، من قريب أو من بعيد. وكان متوقعاً من مفكرنا الراحل فؤاد زكريا أن يتصدى لترجمة هذا الكتاب، وهو من هو، في مجال الترجمة الدقيقة الأمينة، بالإضافة إلى أن فؤاد زكريا - وكما سبق أن أشرنا - كان طوال حياته مهتما بالفنون عامة والموسيقى على وجه الخصوص، وعلى رأسها السيمفونيات، وخاصة بيتهوفن العبقري.

مكتبة فلسفية

          والواقع أن فؤاد زكريا قدم لنا من خلال ترجماته ومؤلفاته مكتبة فلسفية وثقافية كبرى، لا تستطيع القيام بها مدرسة كاملة، فما بالنا بأن فؤاد زكريا يعد فرداً واحداً وليس مجموعة من الأفراد بطبيعة الحال. لقد قدم لنا العديد من الشخصيات الغربية، وإذا كنا قد ذكرنا اسبينوزا، وبعض المؤلفين الكبار في مجال العمل الفني وعلم الجمال والذين قام بتعريفنا بهم فؤاد زكريا عن طريق القيام بترجمة أمهات كتبهم، فإننا بالإضافة على ماذكرنا، نجد الاهتمام بهربرت ماركيوز. وإذا كان فؤاد زكريا - وكما أشرنا - كان يتمتع بحس نقدي من النادر أن نجده بين أساتذة الفلسفة المعاصرين في جامعاتنا العربية، فإنه لا يتردد في توجيه هذا النقد أو ذاك من أوجه النقد إلى هربرت ماركيوز في دراسته المستفيضة للرجل وأفكاره.

          وإذا كانت ترجمات فؤاد زكريا للكتب التي قام باختيارها للترجمة، تشمل أكثر عصور الفكر والفلسفة منذ بدايتها وحتى عصرنا الحالي، فإن ما يؤكد ذلك، قيامه بترجمة العديد من الكتب ليس في الفلسفة القديمة فحسب، كجمهورية أفلاطون، والتساعية الرابعة لأفلوطين، بل بالإضافة إلى ما ذكرنا من كتب قام بترجمتها، نجده يقوم بترجمة كتاب «عصر الأيديولوجية» تأليف هنري أيكن، وهو كتاب يعد من الكتب المهمة في مجال الفلسفات الحديثة والمعاصرة، ويكفينا ما فيه من فصول عن مذاهب الفلسفة الألمانية، وأيضا الفلسفة الوجودية.

          وهذا نجده عند فؤاد زكريا ليس في الكتب التي قام بترجمتها، والتي أشرنا إلى نماذج قليلة منها، بل نجده في مجموعة كبيرة من مقالاته والتي نشر بعضها في كتاب آفاق الفلسفة ويكفي ما ذكره في صفحات الكتاب عن الأورجانون الجديد لفرنسيس بيكون الفيلسوف الإنجليزي، وعن شجرة الفلسفة عند ديكارت، وعن مذاهب الذرات الروحية لليبتنر الفيلسوف الألماني، وعن العالم إرادة وتمثلاً للفيلسوف الألماني شوبنهور ودراسته المستفيضة لموضوع العلم والقيم.

          وإذا كنا قد أشرنا إلى اعتزاز الدكتور فؤاد زكريا بالجوانب العلمية، وحملهِ حملةً عنيفة على كل ما يتصل بالخرافة والأساطير من قريب أو من بعيد، فإننا نجد ذلك من خلال العديد من مؤلفاته، واختياراته للكتب التي قام بترجمتها. والواقع أن الإنسان منا لابد وأن يصاب بالدهشة حين يجد نفسه أمام حشد من الكتب التي قام فؤاد زكريا بتأليفها، والتي قام باختيارها للترجمة من جانبه، ترجمة أمينة دقيقة. ألم أقل لك أيها القارئ العزيز بأن فؤاد زكريا يمثل مدرسة كاملة.

          لقد قدم إلى مكتبتنا العربية كتباً عديدة في مجال التفكير العلمي، فالرجل كان مؤمناً بالعلم بلا حدود. ولا أشك أن اهتمامه ودفاعه عن الفكر العلمي، والمنهج العلمي إنما كان أكبر مساعد له على تكوين عقليته النقدية الدقيقة.

          فإذا رجعنا إلى ترجمته الدقيقة والأمينة لكتاب «نشأة الفلسفة العلمية» من تأليف هانزر يشنباخ، وجدنا فؤاد زكريا يقول في السطور الأولى من تقديمه لترجمة هذا الكتاب: أستطيع أن أعد ترجمتي لهذا الكتاب عملاً صحيح التوقيت. فالكتاب يعرض وجهة نظر فيلسوف من أكبر ممثلي المذهب الوضعي المنطقي، وذلك في وقت شغلت فيه المعركة الدائرة بين أنصار هذا المذهب وخصومه صفحات غير قليلة من مجلاتنا الثقافية، بل من جرائدنا اليومية أحياناً.

          وما قاله فؤاد زكريا في هذه المقدمة، إنما يعد صادقاً تماماً. ولعل القراء الأعزاء يتذكرون الردود التي قام بها أناس على مفكرنا الراحل زكي نجيب محمود، حين نشر كتابه «خرافة الميتافيزيقاً» . لقد جاء الهجوم على زكي نجيب محمود نتيجة لسوء فهم أفكار الرجل، لدرجة أن زكي نجيب محمود، حين قدم الطبعة الجديدة لهذا الكتاب، جعل عنوانه «موقف من الميتافيزيقا».

          وإذا كنا قد ذكرنا أكثر من مرة أن فؤاد زكريا يؤمن بالعلم، وبالمنهج العلمي، وبلاحدود، وبحيث شكل المنهج العلمي جزءاً رئيسياً من الحس العقلاني النقدي لمفكرنا الراحل، فإن هذا يتضح من إقدامه على ترجمة العديد من الكتب في مجال المنطق، ومجال فلسفة العلوم، ومن بينها ترجمة لكتاب «المنطق وفلسفة العلوم» من تأليف بول موي، والذي يقع في ثلاثة عشر فصلاً، من بينها فصول تحلل الروح العلمية، والعلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية وعلوم الحياة، والعلوم الإنسانية وغيرها من فصول مهمة،  وإذا كنا قد أشرنا إلى إقدامه على ترجمه العديد من الكتب ذات الاتجاه العلمي، فإنه لم يقتصر على مجال الترجمة في هذا المجال، فحسب، بل أضاف إلى الترجمة، التأليف من جانبه. ومن بين الكتب ذات الاتجاه العلمي، والذي قام فؤاد زكريا بتأليفها، كتابه الرائد «التفكير العلمي» وكما سبق أن أشرنا، إنه - فيما نرى - يعد أفضل ما كتب في موضوعه. إنه كتاب لا غنى عنه من قريب أو من بعيد لكل مهتم بالتفكير العلمي.

          إن فؤاد زكريا ينتقل من فصل إلى فصل من فصول كتابه، وهو واثق الخطوة، وواثق الخطوة يمشي ملكاً، كما يقال. وليرجع القارئ العزيز إلى دراسة في فصول الكتاب لسمات التفكير العلمي، وحديثه عن عقبات التفكير العلمي، وعن المعالم الكبرى في طريق العلم، والعلم والتكنولوجيا، والعلم المعاصر، إن كل صفحة من صفحات هذا الكتاب، تعد بحراً على بحر، وإن كان أكثرهم لا يعلمون.

          وهذا نجده أيضاً في كتابه «نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان»، إنه كتاب في مجاله، ليس عنه غنى من قريب أو من بعيد، ويكفي حديث فؤاد زكريا عن الموقف الطبيعي والعلم، وعن دور العقل في مشكلة المعرفة.. إلخ.

المثقف الشامل

          كما نجد الإتجاه العلمي الفلسفي في كتاب آخر من كتب الأستاذ الرائد فؤاد زكريا وهو كتاب «الإنسان والحضارة في العصر الصناعي». إنه كتاب بالغ الأهمية في مجاله، ويكفي حديث فؤاد زكريا الرائع والدقيق عن طبيعة الحضارة، ومشكلات الإنسان في الحضارة الصناعية، وغيرهما من موضوعات بالغة الأهمية، ولا غنى عنها لكل مثقف، من قريب أو من بعيد.   وإذا كان فؤاد زكريا - وكما أشرنا - يمثل ليس مجرد الأستاذ المتخصص، بل المثقف، بالمعنى الدقيق لكلمة الثقافة، فإن اهتمامات الرائد الراحل قد شملت أيضا، الاهتمام البالغ بالموسيقى، ويكفي أن نحلل فصول الكتاب الذي قام بترجمته بعنوان الفيلسوف وفن الموسيقى من تأليف جوليوس بورتنوي وقيامه بتقديم العديد من المؤلفات في مجال الموسيقى، ومن بينها كتاب عن ريتشارد فاجنر، وكتاب «مع الموسيقى»، وغيرها من كتب رائدة في مجال الموسيقى، المجال الذي اهتم به فؤاد زكريا منذ أن كان في فترة شبابه وفي سن مبكرة، بل إن من أواخر مقالاته بجريدة الأهرام، المقالة الخاصة بالموسيقى وأذكر أنه ذكر لي أثناء زياراتي العديدة له بمنزله في أيامه الأخيرة، أنه لا يستمع طوال النهار والليل إلا إلى السيمفونيات الموسيقية.

          وإذا كان مفكرنا الراحل يعد قبل كل شيء، مفكراً عربياً ولد وعاش أكثر سنوات حياته في بلدان عربية وخاصة في مصر والكويت الشقيق، فإنه كان من المنطقي أن يهتم اهتماماً بالغاً بقضايا الفكر العربي، وخاصة القضايا المعاصرة لهذا الفكر، لقد كان طوال حياته مهتماً بهذه القضايا، وكان شجاعاً إلى أقصى درجة كعادته دائماً في دراسة المشكلات الموجودة في عالمنا العربي ، وليس أدل على ذلك من العديد من الكتب التي قدمها في هذا المجال، مجال الفكر العربي المعاصر. ألم يقل مفكرنا زكي نجيب محمود، إن العروبة ثقافة قبل أن تكون سياسة. فمن المنطقي إذاً ومن منطلق روح فلسفية نقدية على أعلى مستوى تمتع بها فؤاد زكريا، وحتى الساعات القليلة التي قضاها قبل أن تصعد روحه إلى السماء، أن يكون مهموماً بكل قضايا ومشكلات الواقع العربي، وليس أدل على ذلك من الكتب العديدة التي قدمها إلى مكتبتنا العربية، ومن بينها وعلى سبيل المثال لا الحصر، كتابه «خطاب إلى العقل العربي»، وكتابه عن الصحوة الإسلامية، ودراسته البالغة الأهمية عن الاستشراق.

          كان فؤاد زكريا - وكما أشرنا أكثر من مرة - يتمتع بروح فلسفية علمية نقدية، يرحب بالخلاف أكثر من ترحيبه بالاتفاق معه. أذكر هذا بعد أن اقتربت من الرجل طوال أكثر من أربعين عاماً وحتى اللحظات الأخيرة قبل موته، وكم اختلفت مع الرجل حول العديد من آرائه، وكان يقول باستمرار إزاء الخلاف، إنه يرحب به، لأن النقد يمثل أهم خصائص الفكر العلمي الفلسفي.

          رحم الله فؤاد زكريا، والذي كان واثق الخطوة في كل مواقفه. كان مجدداً ولم يكن مقلداً بأي وجه من وجوه التقليد. والمجدد ينظر إلى الأمام، والمقلد ينظر للخلف والعياذ بالله، المجدد يمثل النور، والمقلد يمثل الظلام، ألم يقل الفيلسوف ابن سينا في دعائه إلى الله تعالى: فالق ظلمة العدم بنور الوجود. ومن حكمة الله تعالى أنه خلق عيوننا في مقدمة أدمغتنا، ولم يوجدها في مؤخرة الأدمغة. كانت كتابته تمثل شلالاً متدفقاً من الحكمة والمعرفة، وإن كان أكثرهم لا يعلمون، وتعد كما قلنا بحراً على بحر، إنها تعد نوراً على نور، ويكفيه أنه حارب طوال حياته حياة الظلام والتقليد، إنه مدرسة كاملة، وإذا كانت روحه قد صعدت إلى السماء في الحادي عشر من شهر مارس، فقد صعدت إلى عالم الخلود والبقاء واستراحت من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.

أبرز مؤلفاته وترجماته

  • حكمة الغرب ـ تأليف الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل (عالم المعرفة بالكويت).
  • آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة.
  • الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة.
  • الصحوة الإسلامية في ميزان العقل.
  • الثقافة العربية وأزمة الخليج.
  • كم عمر الغضب (رد على كتاب خريف الغضب للكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل).
  • العرب والنموذج الأمريكي.
  • نيتشه (الفيلسوف الألماني) دار المعارف بالقاهرة.
  • آفاق الفلسفة.
  • النقد الفني - دراسة جمالية ـ تأليف جيروم ستولنيتز
  • جمهورية أفلاطون ـ دراسة وترجمة.
  • الفن والمجتمع عبر التاريخ ـ تأليف أرنولدهاوزر.
  • مدرسة الإسكندرية في الفلسفة والعلم مع ترجمة التساعية الرابعة لأفلوطين.
  • المنطق وفلسفة العلوم ـ تأليف بول موي.
  • هربرت ماركيوز ـ العقل والثورة ـ ترجمة مع دراسة تفصيلية.
  • اسبينوزا (حصل على جائزة الدولة التشجيعية).
  • عصر الأيديولوجية ـ تأليف هنري أيكن
  • خطاب إلى العقل العربي ـ رؤية مغايرة
  • دراسة عن الاستشراق
  • التفكير العلمي . يعد هذا الكتاب للدكتور فؤاد زكريا أفضل كتاب باللغة العربية عن هذا المجال.
  • الإنسان والحضارة في العصر الصناعي
  • نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
  • نشأة الفلسفة العلمية ـ تأليف هانز ريشنباخ
  • الفيلسوف وفن الموسيقى تأليف جوليوس بورتنوي.
  • مع الموسيقى ـ ذكريات ودراسات.
  • ريتشارد فاجنر.

 

 

 

عاطف العراقي   





الدكتور عاطف العراقي يجاور د. زكريا في احدى المناسبات





الدكتور فؤاد زكريا مكرما في الكويت