د. مراد غالب ومحمود المراغي

  • لسنا دولاً نامية .. الحقيقة أننا متخلفون .. وموقعنا الزمني القرون الوسطى
  • تخطيط التخلف..أمر إيجابي .. وما نحتاج إليه حركة تحرير اقتصاديّة
  • الظاهرة الجديدة: عالمية العالم .. وأحداث الخليج الأخيرة دليل هام
  • حركة عدم الانحياز لا بد أن تستمرّ .. ولكن بمضمون جديد
  • اكتشافات الطاقة تغير موقع النفط والدول المنتجة له

هذه مواجهة من طراز خاص .. فالمتحدث له أكثر من وجه، وأكثر من اهتمام، وشاهد على أحداث نصف قرن أو يزيد.

حين أطل على العالم- عام 1922- كان ذلك في أعقاب ثورة 1919، وكانت مصر تحاول أن تجني ثمار ثورتها الشعبية ضد الإنجليز.

وحين ترك التدريس بالجامعة، وعالم الطب، وجراحة الأذن، ودخل إلى عالم الدبلوماسية عام 1953، كانت ثورة يوليو تفتح الصفحة الأخيرة في النضال ضد المستعمر كما كانت تفتح صفحة مع أوربا الشرقية، واختير الفريق عزيز المصري- الشخصية التاريخية- سفيرا لمصر في موسكو، والدكتور مراد غالب سكرتيرا للسفارة.

عمل وزيرا ثلاث مرات.. وزيرا للخارجية والإعلام، ووزيراً مقيماً في ليبيا، ممثلاً لمصر. وعمل سفيرا ثلاث مرات وفي كل مرة كانت هناك قصة وقضية، فهو سفير مصر في الكونغو في أثناء حكم لومومبا، وسفيرها في موسكو طوال سنوات التعاون الوثيق مع مصر والعالم العربي (1961- 1971) أما المرة الأخيرة فكانت أشهر القصص حين قدم استقالته من عمله كسفير لمصر في يوغسلافيا، وكان ذلك إبان زيارة الرئيس السادات للقدس.

أخيرا.. هو الآن على مقعد يطل على ثلثي العالم كله.. إنه مقعد رئيس منظمة التضامن للشعوب الإفريقية الآسيوية.

وفي المواجهة، يحاوره محمود المراغي الكاتب السياسي والاقتصادي وصاحب المؤلفات الستة التي عالج معظمها قضايا الاقتصاد في الوطن العربي والعالم الثالث.

نقطة اللقاء إذن هي هذه المساحة " عالم الجنوب" وإن كان عسيرا فهم هذا العالم دون ولوجه من باب "الشمال" الغني القادر، والذي يضع نظاما عالميا جديدا، كان له أثره الممتد من زلزال شرق أوربا، إلى الحرب غير المسبوقة في الخليج عقب احتلال العراق للكويت.

بين الرغبة والقدرة مسافة في كثير من الأحيان. تسألني عما نحتاج إليه أقول: حركة تحرير عالمية ثانية. فقد انتهت حركات التحرير الأولى إلى استقلال منقوص. وبينما نسعى لاستكمال رحلة الاستقلال وتقريب الهوة مع العالم الأول، إذا بهذا العالم يقفز. وإذا بالهوة تتسع، وإذا بالفقر يشتد، والخطر يتزايد. لقد قامت الثورة الثانية في العالم المتقدم، بعد ثورته الأولى المعروفة باسم الثورة الصناعية.

يسكت د. مراد غالب.. ويبدأ الحوار.

أقول:

  • إننا في عالمنا الجنوبي، مشغولون بالعالم الأول أكثر من انشغالنا بأنفسنا.. مشغولون بالشكوى من سوء الحال، أكثر من انشغالنا بتغيير الأحوال. مشغولون بالصراع أكثر مما نحن منشغلون بالبناء.
    إننا جزء من جسد ضخم: ثلاث قارات هي ثلثا سكان العالم. وغدا، وحين يذهب القرن العشرون سيزيد عدد الرجال والنساء والأطفال في هذه القارات على ستة مليارات. أي ما يفوق تعداد العالم عام 1991، وقبل أن نبدأ، تعال نقرأ صحيفة أحوال الدول النامية أو العالم الثالث. وتعال نسأل: هل هو عالم واحد. وهل هي بالفعل دول نامية؟

عالم ثالث متخلف

- معك حق. فلسنا بالضبط عالما واحدا. لسنا أمام مستوى واحد من الثراء والتخلف ودرجة النمو والتنمية، فهناك دول تخطت حاجز الفقر، لكنها لم تتخط حاجز النمو لتدخل في الثورة العلمية والتكنولوجية ولتلحق بالعالم. عالم ما بعد الثورة الصناعية. وهناك دول تعاني من الفقر والتخلف معا، كما هو الحال في إفريقيا حيث الفقر والجوع والمرض وهناك -ثالثا- الدول التي تخطت الفقر والتخلف لكنها لم تصل لمرحلة الدول الصناعية كما هو الحال في شرق آسيا: تايوان- كوريا- سنغافورة- هونج كونج.

إنها درجات مختلفة من النمو، ودرجات مختلفة من اللحاق بالثورة العلمية. بلاد تمتد لثلاث قارات: آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بالإضافة إلى يوغسلافيا وقبرص. وكلها -أو معظمها- تشترك في مشاكل أساسية: تراكم في المديونية، وتخلف في التكنولوجيا، وبالإضافة لتعرضها جميعا لنظام جديد من الهيمنة الدولية وقدر متزايد من عدم المساواة مع العالم الأول.

تسألني عن المصطلح، وتقول قد نكون أمام عالم ثالث. لكننا لسنا أمام دول نامية، وأتفق معك، فليس خطأ أن نعمم اسم العالم الثالث وإن كانت هناك فروق بين أجزائه. أما كلمة (نامية) فأظن أنها قد استخدمت لإعطاء انطباع أفضل فهي وصف غير دقيق. والكلمة الدقيقة أنها (دول متخلفة) بأغنيائها وفقرائها. فأغنياؤها، وإن عبروا حاجز الفقر إلا أنهم لم يعبروا حاجز التخلف، لم يصبحوا حتى الآن متطورين، ومؤشرات التقدم والتخلف واضحة. وإذا كان من بينها "متوسط دخل الفرد" فإن من بينها أيضا: نمط الإنتاج ومقدار التكنولوجيا المستخدمة ومدى انتشار العلم أو الأمية. وبالطبع فإن العلم نقيض الأمية، وفي بلادنا تصل الأمية إلى (75) و (80) في المائة. صحيح أن هناك أوجها للتحسن، ولكن هناك مناطق كإفريقيا جنوب الصحراء تتردى أمورها ويمكن أن تواجه المزيد من التردي.

إنسان العالم الثالث.. مواصفات

تسأل عن الفروق بين إنسان العالم الأول وإنسان العالم الثالث. ونريد أن نستكمل "صحيفة الأحوال" باختيار زمن ننسب إليه هذا العالم الجنوبي الذي نعيش فيه.. وأقول ابتداء: إننا- وبشكل نسبي لما يجري في العالم المتقدم- نعيش في القرون الوسطى. لقد كنا- في مصر على سبيل المثال- نقول في الخمسينيات" يفصلنا عن العالم الأول خمسون عاما أو مائة في الأكثر"، ولكن بعد الثورة العلمية والتكنولوجية أصبحنا خارج العصر، بل وأصبح الاتحاد السوفييتي- بدرجة ما- خارجا أيضا عن العصر. لذا وحين تتساءل عن الفروق في الشخصية بين إنسان جنوبي وآخر شمالي، نجد أنه من السهولة القول إننا في الجنوب- وفي الأغلب الأعم- أمام رجل كثير النسل، كثير الكلام، يصعب عليه أن يحول الكلمة إلى، فعل، والفكر إلى برنامج. لم يتعود البحث عن الأسباب أو التفسير، لكنه تعود أن يتلقى كل شيء جاهزا، إنه يستهلك التكنولوجيا ويستهلك أدوات العصر، لكنه لا يخترعها، لا يبتكرها، لا يصنعها.

للخلف در

  • نعم.. نحن نستهلك التكنولوجيا، وفي بلادنا معظم مظاهر العصر ومعظم ما أنتجته الحضارة.. ولكننا -وعلى الوجه الآخر- إذا جاز القول "نتقدم للخلف".
    رفعنا شعار العلم والتكنولوجيا لكننا أصبحنا- في مجال العلم والتكنولوجيا- أكثر تخلفا بالقياس إلى الآخرين.
    ورفعنا شعار التنمية، لكن ظروفنا الاقتصادية -في معظم البلدان- تزداد سوءا، ونمو السكان يسبق نمو الموارد، والاعتماد على الخارج يسبق الاعتماد على الداخل.
    وكنا نقول بالعدل الاجتماعي تعويضا للحرمان، ودفعا للتنمية، وابتغاء لحسن توزيع الموارد وفائضها المحدود. ورفع البعض منا راية الاشتراكية بما تعنيه من تدخل ضروري للدولة، ولكن سرعان ما جاءت السبعينيات وكأن أمرا قد صدر "للخلف در".
    الآن يتراجع المعسكر الاشتراكي عن اشتراكيته، وقبل سنوات أعادت كثير من دول العالم الثالث النظر في تجربتها وتراجعت عما شرعت فيه خلال الستينيات، هل من تفسير لهذه التحولات الواسعة، وأنت تطل من موقعك على ثلثي العالم؟

- لقد تعرضت الدول النامية المستقلة لنوع من سوء الإدارة، لأنها لم تع حركة الشعوب، لقد كان الهم الأول للكثير من الأنظمة كيفية الاحتفاظ بالحكم، والاستفادة، وتحولت كثير من الثورات إلى قضية نظام وكرسي وحاكم، أما الناتج النهائي فيمكن قياسه بسهولة، بين الستينيات والسبعينيات لم يتحسن كثيرا موقف الأمية، على سبيل المثال، فالجهل مازال مسيطرا، والجهل قرين التخلف، فلا يوجد علم وتخلف.

نقطة أخرى، وهي أننا عندما شحذنا همة المواطن للنضال من أجل الاستقلال كان السبب: وضوح العدو وهو الاحتلال، لكننا لم نفعل أكثر من ذلك. طبعا هناك جهود، لكن هذه الجهود لم تركز على الإنسان، أنشأت دول العالم الثالث طرقا ومصانع ومزارع، لكنها لم تخلق إنسانا في مستوى المعركة، ولم تعط للديمقراطية مكانها الواجب، وخلال ذلك كانت ممارسات كبيرة بينها: التحول للاشتراكية والأخذ بنظريات جاهزة واختصار مراحل التطور والقفز فوق التخلف والأخذ بنظام الحزب الواحد والتخطيط الاقتصادي. والخطأ هنا ليس في الاختيار لكن في الممارسات، بل ومن الخطأ أن نظن آن "نظام السوق" كان هو الأفضل والأكثر قدرة على إحداث التقدم والتنمية، وارد على الذين يعتقدون ذلك وأتساءل: هل كان هناك سوق؟.. هل كان هناك رأسمال قد تجمع؟ لقد حدث ذلك في الدول المتقدمة نتيجة التطور من الإقطاع للثورة الصناعية، وخلال ذلك لعبت هذه الدول دورا إيجابيا وقدمت صناعة وإنسانا ونظرية رأسمالية ومارست الاستعمار. فأين نحن من ذلك؟ إن ما لدينا- في الجنوب- رأسمالية لم تخلق نتيجة كفاح شعب، تكونت تحت ظروف الاستعمار فكانت رأسمالية هشة وتابعة غير قادرة على إحداث تنمية شاملة، فلكي تحدث هذه التنمية لا بد من تجميع المدخرات وتجميع أدوات التنمية، ولا طريق لذلك غير التخطيط وتعبئة الموارد.

تسألني عما إذا كانت الهزيمة قد أتت من الداخل أقول: لكن العنصر الخارجي أيضا كان قويا فما كدنا نتنسم هواء الحرية والاستقلال، حتى جاءت الهيمنة الجديدة التي أبت أن تترك أنظمتنا لتطور نفسها.. لقد انسحبت الجيوش والأساطيل وتقدمت المعامل والحاسبات وشاشات التليفزيون وأموال القروض والاستثمارات، وكانت كلها أدوات السيطرة الجديدة التي بات علينا أن نتفحصها.

في الماضي، كانت هناك السيطرة العسكرية التي يتحدد من خلالها التحكم في أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وكانت تحدد أسعار المواد الأولية التي نملكها، الآن: تتحقق النتائج نفسها ولكن من خلال آليات أخرى، إنهم يحددون- في بلادهم- أسعار موادنا الأولية، ودرجة نمونا، ومسارنا الاقتصادي، ولكن بهرم جديد للسيطرة، وليس بالعسكر.

وبكلمات أخرى: إنهم يحصلون على نتائج أفضل بتكلفة أقل وبدرجة أكبر من الترابط حتى بتنا نتساءل من المسيطر على أمورنا: الدول الصناعية الكبرى، أم صندوق النقد والبنك الدوليان، أم الشركات متعددة الجنسية؟

والجواب: إنها جميعا شيء واحد، إنه النظام العالمي الجديد، في وقت تتأكد فيه الثورة التكنولوجية وتتأكد فيه صيغة "عالمية العالم".

حرب تحرير الكويت والنظام العالمي

  • أتوقف أمام الكلمات. أتساءل عن تعبير "عالمية العالم". أقول للدكتور غالب: وهل كان ما جرى في حرب تحرير الكويت، أو حرب الخليج الثانية كما يمكن أن نسميها في ذلك الإطار الذي تتحدث عنه، عالم واحد، ونظام جديد يحكمه؟.

- أظن ذلك، فما جرى في العامين الماضيين، ومنذ أغسطس 1990، وردود الفعل التي صاحبت احتلال الكويت والاقتراب من منابع النفط، كل ذلك يؤكد النظام الاقتصادي العالمي الذي لا يمكن الخروج عليه، أو السماح لقوى إقليمية بالعبث فيه.

لقد جرى ما جرى، وتحرك العالم بصورة غير مسبوقة، وصاحب ذلك مجموعة من التسويات الإقليمية أو مشروعات التسويات، في الكوريتين، في قضية هونج كونج، في قضية فييتنام وكمبوديا، في أفغانستان، في أنجولا وموزمبيق، في ناميبيا وجنوب إفريقيا، في نيكاراجوا، وأخيرا في الشرق الأوسط، كل ذلك يعطي أملا في أن هناك شيئا إيجابيا يحدث.. لكنه- وفي الوقت نفسه- يعطي دلالة على أن هناك نظاما للهيمنة، هناك مركز قوة على نطاق العالم، وهو مركز تصنع قراراته اعتبارات اقتصادية واعتبارات تكنولوجية. إنه مركز يتفاعل مع الجديد، ويقوده لصالحه.

الثورة الجديدة

  • بالفعل البشرية تمر بمرحلة جديدة في تاريخها، وتواجه ثورة تتخطى ما عرف باسم الثورة الصناعية، إنها ثورة العلم والتكنولوجيا، فالتغيرات التي حدثت في العشرين عاما الماضية أكثر عمقا من كل التغيرات التي حدثت في العالم منذ وجود البشرية.

- لقد كانت الثورة الصناعية مرحلة الاختراعات والاكتشافات وقد خلقت حضارة جديدة وتقدما غير مسبوق، كما خلقت نظامها العالمي وأنماط سلوك وعلاقات جديدة، أحدثت نقلة نوعية وتحسنا كيفيا في مستويات الحياة وكان نظامها العالمي الرأسمالي بما تبعها من استعمار واستغلال للعالم الثالث ومصادر ثرواته.

الجديد.. ثورة تحدث تحولات عميقة، قوى جديدة، توجهات جديدة، نظرة مختلفة لمشاكل العالم، ذلك رغم وجود القديم ومحاولته للبقاء، ونحن ندرك فوائد الجديد للإنسانية، لكننا ندرك مخاطره إذا لم نتحكم فيه ونوجهه تجاه السلام وليس تجاه الحرب وسباق التسلح، وإذا لم ندرك طبيعة التغيرات التي يحدثها العلم وتحدثها التكنولوجيا.

خذ مثلا ما كنا نقول عنه قوى الإنتاج: البشر والإدارة والمواد ورأس المال، ماذا حدث لهذه العناصر الأربعة؟

قوة العمل أصبحت شيئا آخر، العقول الإلكترونية أخذت مكان البروليتاريا حتى أصبحت بعض المصانع تضم ثلاثة من الفنيين- المهندسين والعلميين- مقابل عامل عادي واحد، أصبحت العمالة على مستوى ثقافي وفني عال، وبالطبع أصبحت الحاجة إليها أقل، في بند أو عنصر آخر هو المواد الخام، كنا نقول ونشكو من أن العالم الصناعي أحدث نوعا من تقسيم العمل يجعلنا منتجين للخامات بينما يحتفظ لاقتصاده بإنتاج السلع المصنوعة بما تقدمه من عائد أكبر، وكنا- ومازلنا- نشكو ظلم الأسعار التي صنعتها الاحتكارات الرأسمالية. الآن، يحدث انقلاب غير متوقع، تنتج التكنولوجيا الحديثة خامات صناعية بديلة، أشد صلابة، أفضل أداء، وأرخص سعرا، الآن هناك مواد مستحدثة تقاوم درجات الحرارة بما يفوق المواد الطبيعية عشرات المرات. هناك مثلا ألياف الكربون التي تستخدم كغلاف لسفن الفضاء وتتحمل الضغط والحرارة الشديدين. وهناك أيضا- على سبيل المثال- الألياف الضوئية التي تستخدم في توصيل الكهرباء، أسلاك غير مرئية من السليكون تصلح لمد شبكات عالية الكفاءة للكهرباء أو للتليفونات، وهناك الهندسة الوراثية بما تضيفه من صفات تضاعف إنتاج الحيوان والنبات.

  • أقول: كل ذلك يضيف لتراث البشرية، ولا يمكن أن نوقفه، ولكن وعلى الجانب الآخر فإنه يزيد من الخلل في ميزان العلاقات بين الشمال والجنوب لأن الثورة الجديدة تحتاج إلى مواد طبيعية أقل، ومعرفة علمية أكبر، وإن كانت تستطيع أن تفيد عالم الفقراء بإنتاج المزيد من الغذاء.
    وفي التطبيق، فقد انخفضت أسعار المواد الأولية في إفريقيا عام 1987- على سبيل المثال- بمقدار 19 مليار دولار، وليست هذه هي كل الخسائر، فالخسائر مستمرة.

- لقد تراجعت مكانة المواد الطبيعية، وتقدمت مكانة المعرفة والمعلومات، وأصبحت الأخيرة أعلى ثمنا من أي إنتاج آخر، وحين ننظر لما تم الإعلان عنه أخيرا في مجال الطاقة. وإمكان التحول من نظرية "الانشطار" التي تعتمد على ذرات ضخمة تنقسم وتتفتت وتولد طاقة ذرية، إلى نظرية "الاندماج" التي تعتمد على إدماج ذرات صغيرة للغاية يولد اندماجها طاقة عظيمة صالحة لمعظم الأغراض عدا الأشياء المتحركة. إذا نظرنا لذلك في بعده الزمني الممتد خمسين عاما على سبيل المثال فإننا نجد الميزان يختل. منتجو النفط وكل المواد الملوثة يتراجعون. سوف تكون هناك طاقة أرخص وأنظف، ولن يكون العالم في حاجة إلى النفط بالدرجة الحالية نفسها. إنه تحول علمي يتبعه تحول اقتصادي وسياسي وتحول في الموازين بين الشمال والجنوب.

وإذا نظرنا لبنية عناصر الإنتاج : المال، والإدارة لاكتشفنا ما أقوله عن "عالمية العالم" والبناء العلوي الذي يحكم هذا العالم.

اقتصاد العالم يتكامل، والأسعار تحددها مراكز معينة، وثورة المعلومات أزالت الحدود وربطت طوكيو ونيويورك ولندن وغيرها بمجموعة من الشاشات تتحكم فيها الدول الصناعية السبع الكبرى، وأدواتها الاقتصادية والمالية: الشركات العملاقة وصندوق النقد والبنك الدوليان.

في سوق العملات يجري تداول أكثر من خمسين تريليون (أي خمسين ألفا مليار) دولار كل عام. وخلال هذا التدفق يتم التحكم في معدلات الصرف، ومعدلات الفائدة، ومعدلات التبادل التجاري، ومستوى التضخم، والنمو، وأسعار المواد الأولية، ومعدلات الاستهلاك في العالم كله!

  • يسكت د. مراد غالب، وأحس أنه يقول إن العالم تديره مؤامرة، والمؤامرة يديرها مجلس إدارة.
    ويستطرد فيؤيد ذلك أو يكاد.

- نعم هناك نظام جديد للهيمنة، وأيا كانت قمة هرم السيطرة الذي نعنيه: الشركات أو الدول أو المنظمات الدولية. فإن البنيان متكامل، جناحه السياسي حلف الأطلنطي واليابان، وجناحه الاقتصادي الشركات متعددة الجنسيات التي تتحكم في (90) في المائة من تجارة العالم وتقبض على التكنولوجيا والمخترعات الحديثة. أما جناحه المالي، فصندوق النقد ونفوذه الخطير.

والآن ينضم الشرق. للنظام العالمي الجديد،، أما السبب فهو الثورة التكنولوجية التي تخلق نظمها.

وخلال ذلك، لا بد أن نعرف- كعالم ثالث- أين موقع أقدامنا؟، هل نستطيع مقاطعة الشركات العملاقة التي أشرت إليها؟، هل نستطيع مقاطعة صندوق النقد ونحن مدينون وعاجزون حتى عن سداد الفوائد؟.. الأمر يحتاج إلى بحث واجتهاد عاجلين، فما كسبناه من استقلال في الخمسينيات والستينيات مهدد بالاعتماد على الخارج- تحت اسم الاعتماد المتبادل - ومهدد باتساع الهوة بسبب مشكلة التكنولوجيا والمشكلة الاقتصادية، ومهدد بسبب مشكلة الديون والدور المهيمن للمؤسسات المالية الدولية وعدم الاستقرار الناجم عن السياسات التي توصي بها.

فلنخطط التخلف أيضاً

  • المحور إذن في العالم الجديد- كما يقول د. مراد غالب- العلم والمعلومات.. التكنولوجيا التي تقلب الأوضاع والموازين. والسؤال: أي تكنولوجيا نستطيع اللحاق بها؟
    وأقول:
    أخشى أن نسير وراء كل جديد ومستحدث. أن نسير وراء الموضة. أن نطبق ما لا طاقة لنا به، وأن نطبق ما لا يناسبنا، فالتكنولوجيا أيضا وليدة بيئة محددة، ولخدمة بيئة محددة.
    أخشى أن نفقد القديم، ولا نصل إلى الجديد، أخشى أن نأخذ من فنون الإنتاج (التكنولوجيا) ما يجعلنا أكثر استهلاكا وليس أكثر إنتاجا، والتجربة ماثلة أمامنا. لقد ظلت مجتمعات العالم الثالث تعتمد على الطاقة من مصادرها الطبيعية لإنضاج الطعام، فلما تقدمت صارت تستخدم الغاز والكهرباء، فلما زادت تقدما أصبحت تستخدم تقنيات تنضج الطعام في عشر دقائق. كسبت "ست البيت" وقتا ( لا قيمة له في الأغلب ) ودفعت أضعاف ما كانت تدفعه لإنتاج طبق من الطعام!
    أقول ذلك وأمضي. ألا ترى- د. مراد - أننا لا بد أن نختار، وأن نتأنى، أن ندخل باب التكنولوجيا بحذر شديد، وأن نقول: نعم، نحتاج إلى خطة للتقدم، لكن التخلف أيضا سيكون مخططا، وسوف نختاره في بعض الأحيان، فذلك أكثر ملاءمة لنا ولإمكاناتنا؟.

- يوافقني د. مراد غالب ويقول: هذه قضية خطيرة، وكلمة "اللحاق" ليست مطلقة، من غير المطلوب مثلا أن تتبنى دول العالم الثالث تكنولوجيا السيطرة على الطاقة المتولدة من القنابل الهيدروجينية لتسخيرها سلميا. غير مطلوب أن نمتلك تكنولوجيا الفضاء، وإن كانت هناك دولة في المنطقة وهي إسرائيل، تجذبنا لتكنولوجيا عسكرية حديثة وبما يطرح علينا السؤال- كعرب- إلى أي حد نتعامل مع تكنولوجيا الفضاء؟

لا بد من انتقاء التكنولوجيات المناسبة، ولا بد من مناقشة جادة بعد أن غزت المعرفة الجديدة والمنتجات المتطورة كل بيت وكل عقل، قد تدخل تكنولوجيا المواد الجديدة، أو تكنولوجيا الهندسة الوراثية، أو تكنولوجيا الإلكترونيات التي تعتمد على قدر كبير من المعرفة وقدر صغير من البترول. وكل ذلك لنزيد الإنتاج، لنزرع القمح على سبيل المثال ثلاث مرات في السنة، أو نزرع الذرة أربع مرات سنويا، إن التكنولوجيا الحديثة قادرة على اختصار الزمن وتقديم إنتاج زراعي أو صناعي بأضعاف كمياته، وفي وقت أقصر، وربما بمواصفات أجود.

ومع ذلك فإنني معك، نأخذ من التكنولوجيا ما يناسب، ونترك ما لا يناسب، وكما تقول: التقدم مخطط، والتخلف أيضا، فعنصر العمد لا بد أن يسيطر على كل تصرفاتنا.

تسألني عن علاقة ما يجري بمجال مهم يستنزف موارد العالم الثالث وهو مجال التسلح والدفاع الذي يستهلك ثلث الدخل القومي أحيانا، وأقول إن هناك تيارين من التأثيرات في وقت واحد. هناك تخفيف التوتر المصحوب بتخفيض التسلح بين العملاقين وإن لم ينعكس على الصراعات الإقليمية بالقدر الكافي.

هذه ناحية، أما الناحية الثانية أو الوجه الآخر من الأحداث على هذه الساحة فهو التطور التكنولوجي الذي تحدثنا عنه، فالخوف أن تؤدي الثورة العلمية إلى مزيد من الصراع وإنتاج أسلحة الدمار.. وها هي حرب النجوم- والتي مازالت مستمرة- شاهد على ذلك.

ومع ذلك فالتطورات التي تحدث في مجال نزع السلاح.. تطورات مهمة.

وقفة مع النفس

الحوار يصل إلى نهايته. ولكن، بقي الحديث عن المستقبل، أقول:

  • على ضوء ذلك كله ألا ترى معي أن معنى جديدا للاستقلال والتبعية يولد الآن، ثم ألا ترى أن نظاما جديدا، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا لا بد أن يولد في دول العالم الثالث، نظاما غير ما يدعون من انسحاب دور الدولة وإطلاق العنان للقطاع الخاص وحده؟. ثم وهو الأهم، كيف ترى الخلاص، وأنت على رأس منظمة تضم كل شعوب آسيا وإفريقيا، تضم نحو ثلثي سكان العالم، وأكثر من ثلاثة أرباع فقرائه، كيف يرى مراد غالب رئيس منظمة تضامن شعوب آسيا وإفريقيا الموقف، والمستقبل؟

- يقول: فلنبدأ أولا بكلمة الاستقلال، فلم يعد لها المعنى القديم نفسه، أصبح العالم يرفع راية "الاعتماد المتبادل" فالكل يعتمد على الكل. والسؤال: هل ندخل هذه اللعبة بالفعل، أم نكون تابعين؟. إن درجة استقلال العالم الثالث تقع تحت تأثير مشكلتي التكنولوجيا والديون. صحيح أن هناك استثناءات كالهند والدول الصناعية الجديدة: البرازيل، الأرجنتين، وغيرهما.

عربيا، كان الموقف في قضية الاستقلال أفضل في الستينيات، ولن يتحسن ذلك الموقف إلا بالاعتماد المتبادل "عربيا"، وكلنا يردد ذلك ويفهمه ولكننا لا نحققه من خلال برنامج عمل.

أعود للقضية الأشمل: كيف نتعامل- كعالم ثالث- مع هذا العالم المتغير.. ما هي الأولويات التي تواجهنا؟ هل هي قضية السلام والأمن ونزع السلاح؟.. هل هي قضية التنمية والتي يمثل غيابها تهديدا للأمن، لكنه تهديد غير عسكري؟

وجوابي أنه لا توجد حلول جاهزة أو قصيرة الأجل، كذلك فإننا لا نستطيع فرض ما نعتقد أنه في صالحنا، لا مفر من التعاون لتحقيق مصالح مشتركة مع الآخرين، ولا بد من توليفة من الجهود نشارك فيها كما تشارك فيها المؤسسات الدولية والقوى الاقتصادية الكبرى وتلعب فيها المعاهد المتخصصة بالعالم الثالث دورا، كما يلعب المثقفون والعلماء دورهم.

لا يعني ذلك الخضوع لما تطرحه المتغيرات العالمية وعالم ما بعد الصناعة، وعلى العكس المطلوب وقفة مع النفس تشخص ما يجري، وتحسب ما حدث من أول الاستقلال حتى الآن، وتصححه وتضع أساسا لنظام اقتصادي واجتماعي جديد. المطلوب: بيريسترويكا للعالم الثالث.. فإعادة البناء وليس الإصلاح هو سبيل الإنقاذ. الآن نحن في مرحلة سكون أو نكاد، والمطلوب مرحلة جديدة يحصل فيها إنسان العالم الثالث على مكان تحت الشمس، علما وعملا، غذاء وصحة، ثقافة وفنا، استقلالا وكرامة.

ولكن، وحتى نصل إلى هذه المرحلة لا بد من مرحلة تحضيرية ولا بد من تعبئة كل الإمكانات. لا بد من استراتيجية جديدة ذات عناصر متعددة.

عنصرها الأول: اعتماد متزايد على النفس، استخدام أمثل للموارد الوطنية ودفع إمكانات الزراعة والتصنيع، ولن يحدث ذلك وفق قانون السوق وقوميات المنظمات الدولية كصندوق النقد. لا بد من قيادة وطنية، وجبهة وطنية وتتولى الاثنتان قيادة التغيير وإحداث النقلة الحضارية وتحققان مشاركة الجماهير. لا بد من عقد اجتماعي، ولا بد من هدف محدد، ومن نقد ذاتي. ولن يحدث ذلك كله في ظل العفوية وسيطرة المصالح الخاصة التي ينادي بها نظام السوق.

عنصر ثان للاستراتيجية المطلوبة: تشجيع التخطيط الإقليمي والاعتماد الجماعي على الذات، وعلى المستوى العربي فإن المطلوب هو البحث عن الكتلة الحرجة، والتجمع القائد، أو التجمع الرائد الذي يقود الأمة من خلفه نحو خطوات تكاملية تحقق المستهدف.

العنصر الثالث: أن يكون هناك تفاهم عام حول قضية الديون، ولا بأس من التفكير فيما يشبه نقابة المدينين، لنتحاور مع الدائنين، وهي قائمة في أشكال عدة.

في الوقت نفسه فإنه لا بد من حل الصراعات الإقليمية التي تستنزف الكثير، ولا بد من ربط التنمية بنزع السلاح، وتوجيه نسبة مما يوفره السلاح ونسبة من الناتج القومي للدول الصناعية لحل مشاكل العالم الثالث.

أيضا فإننا لا بد أن ننبه لخطر انتشار الصناعات الحربية، ونستهدف نزعا كاملا للسلاح. وقد سار المجتمع الدولي في هذا الاتجاه ونحن معه بشرط أن يكون مصحوبا بعلاج للأزمات والمواجع التي تخلق التوترات وتسبب الحروب.

أيضا، فإننا لا بد أن نحدد مقدار مشاركتنا في الثورة التكنولوجية، وأن نحدد أسلوب العمل في العالم الثالث والذي ينبغي أن يكون ديمقراطيا فليس هناك أدرى من الشعوب بمصلحتها ومن يحققها.

أما الانعزال عن العالم فغير ممكن، لكن الاندماج بشروطه هو ما يستحق النظر.

تسألني عن موقع منظمة الشعوب الإفريقية- الآسيوية والتي أتولى رئاستها فأقول: إن كل ذلك هو شاغلنا الآن. شاغلنا، ومعنا مفكرون من مختلف الأرجاء: كيف ينتقل العالم الثالث إلى واقع جديد. ومهمتنا بلورة الفكر وإذكاء الحماس وتحقيق التواصل.

ومستقبل عدم الانحياز

  • أتوقف قليلا. أطرح قضية جرى الجدل بشأنها، وهي قضية عدم الانحياز، والتي بات البعض يعتقد أنها لم تعد ملائمة. فقسمة العالم بين الشرق والغرب قد انتهت، والمشكلة الاقتصادية أصبحت هي الغالبة.

ويستكمل د. مراد غالب:
- لقد ولدت حركة عدم الانحياز في ظل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأ الأمر بتجمع إفريقي آسيوي، ثم تطور لفكرة عدم الانحياز، ومن الطبيعي أن يتساءل البعض الآن: "عدم انحياز".. بين من. ومن؟

  • أقول: عدم انحياز للشمال، وليس عدم انحياز بين الشرق والغرب. صحيح أن قسمة العالم شرقا وغربا قد تراجعت، ولكن يبقى هدف الاستقلال قائما وتبقى الرغبة في عدم التبعية للشمال رغبة جنوبية ملحة يمكن أن تبلورها حركة عدم الانحياز، ولا تبلورها مجموعة ال 77 بالقدر نفسه.

- أوافق على ذلك، لكننا لا بد أن نسلم بأن المنطق القديم لحركة عدم الانحياز لم يعد صالحا، وأن المصلحة المشتركة بين دول العالم الثالث، وبين دول المجموعة، مصلحة اقتصادية في الأساس، وأنه لتحقيق هذه المصلحة أيضا لا بد أن يحافظ العالم الثالث على هويته ويزيد من فاعليته، والسؤال: هل نلغي حركة عدم الانحياز أم نحافظ عليها وننسق بين الحركتين، مجموعة ال 77، وحركة عدم الانحياز؟

لا يقلقني انضمام البعض- من مجموعة ال 77- للأحلاف والتكتلات العسكرية، الشيء نفسه بدرجة أو بأخرى قد حدث لأعضاء في مجموعة عدم الانحياز التي أصبحت ثوبا فضفاضا، على غير ما طالب به البعض في البداية، ما يقلقني هو أن يتفكك العالم الثالث أكثر، ومجموعة ال 77 لم تكن مؤثرة وليس لها تاريخ كحركة عدم الانحياز. رأيي: أن تبقى حركة عدم الانحياز، بمضمون جديد يتفاعل مع المتغيرات، وإن كان الأمر لا يلقى عناية من الدول حتى الآن.

***

يصل الحديث إلى نهايته. تتوقف الكلمات وأقول: لقد اتسع الخرق على الراتق، فهل من نهوض عام يجد فيه إنسان العالم الثالث مكانا تحت الشمس؟!.

أبناء العالم الثالث هم الذين يستطيعون أن يفعلوا ذلك.. مثقفوه.. حكماؤه.. حكامه، فهؤلاء هم الطليعة، والصورة واضحة.