مع فؤاد زكريا في الكويت.. د. أحمد أبوزيد

مع فؤاد زكريا في الكويت.. د. أحمد أبوزيد
        

          من الصعب أن يسترجع المرء علاقته وتعامله ومعرفته وتقييمه لفؤاد زكريا بغير أن يتمثل في ذهنه الفيلسوف الألماني فردريش نيتشة الذي كان موضوع رسالة فؤاد زكريا للماجستير، ويتساءل عما إذا كان التوجه الذهني التلقائي والإعداد النفسي الفطري هو الذي قاد خطوات الشاب الناشئ فؤاد زكريا إلى هذا الاختيار الذي يتلاءم مع مكوناته الذهنية والوجدانية، أم أن نيتشة الفيلسوف العقلاني الفارع هو الذي أثر في التكوين الذهني لفؤاد زكريا ودفعه إلى مواقفه الذهنية التي صبغت كل حياته وأكسبته الشهرة بأنه مفكر عقلاني يعتبرالعقل مصدر كل شيء والأداة المشروعة الأساسية للنظر إلى الأشياء والطريق الوحيد، ليس فقط للتعامل مع الحياة ولكن أيضا للتقدم وتحقيق الذات.

          قد تكون الصدفة لعبت دورا في ذلك اللقاء بين المفكر المارد العملاق والتلميذ المريد الناشئ، أو قد يكون التلميذ قد تأثر ببعض دروس الفلسفة الحديثة التي تلقاها على أيدي كبار الأساتذه المصريين الذين كانت تفخر بهم الجامعات المصرية في الأربعينيات والخمسينيات وقراءاته المترتبة على هذه الدروس وتجاوبه مع تلك القراءات هي التي أملت عليه ذلك الاختيار. ومهما يكن الأمر, فقد التقى فؤاد زكريا مبكرا بنيتشة الفيلسوف, وتأثر تفكيره وميوله بهذا اللقاء أو الالتقاء الفكري الذي أثمر فؤاد زكريا الذي عرفته الأوساط الأكاديمية والثقافية العامة بشخصيته الهادئة الجادة التي تثور (وقت اللزوم) وتفكيره المنطقي الرصين الذي قد يثير الغيظ في بعض الأحيان بمنطقيته وعقلانيته.

          والغريب أن تكون هذه انطباعاتي الراسخة عنه بالرغم من أن لقاءاتنا المباشرة أو (وجها لوجه) كانت قليلة بل ومحدودة بحكم ظروف الحياة والعمل، ولكنني كنت دائم الالتقاء به فكريا من خلال كتاباته واهتمامي الشديد بما يصدر عن فكره وقلمه. فأنا اكبر منه بست سنوات كاملة, وكنت أدرس الفلسفة في الإسكندرية قبل أن أتجه للأنثروبولوجيا, ولكنني قابلت فؤاد زكريا مرات قليلة في شبابه الباكر عن طريق المرحوم الدكتور السيد محمد بدوي أستاذ الاجتماع بآداب الإسكندرية وابن شقيقة فؤاد زكريا (كما قيل لنا). وكان بدوي أكبر مني بسنوات عدة وبالتالي كان أكبر من (خاله) بما يقرب من عقدين وكان ذلك مثار دعابات مع بدوي حول جدّه وقدراته الجنسية الخصبة المثمرة. وكان بدوي - رحمه الله - يقابل ذلك بابتسامة رقيقة مهذبة دون أي تعليق.

          ولقد تقاطعت حياة فؤاد زكريا مع حياتي بشكل غريب. ففي الوقت الذي أكون أنا فيه في مصر يكون هو في نيويورك حيث كان يعمل مترجما مع هيئة الأمم، وحين يعود هو إلى مصر أكون أنا في جنيف حيث كنت أعمل خبيرا لشئون البدو الرحل مع مكتب العمل الدولي أو في إفريقيا لإجراء بعض البحوث الميدانية بين القبائل الرعوية في شرق القارة وغربها وجنوب السودان، أو أكون في الكويت أستاذا بجامعتها الوليدة ومستشارا لمجلة عالم الفكر. وحين عدت إلى جامعتي بالإسكندرية بعد انتهاء فترة إعارتي لجامعة الكويت وعهد إليّ ثروت عكاشة وزير الثقافة في ذلك الحين بأن أتولى رئاسة تحرير مجلة «تراث الإنسانية» بعد فؤاد زكريا الذي انفرد برئاسة تحرير مجلة «الفكر المعاصر» مما كان يهيئ لنا نحن الاثنين مجالات واسعة للتلاقي يعصف عبد القادر حاتم الوزير الجديد بكل المجلات الثقافية التي كانت تصدر عن الوزارة ويقرر إلغاءها كلها وبذلك أقبع في مدينتي الإسكندرية بينما يتوجه فؤاد زكريا إلى الكويت للعمل بجامعتها التي غادرت العمل بها قبل ذلك بأربع سنوات، وهكذا.

لقاءات مشحونة بالأفكار

          ولم يتح لنا أن نلتقى في الكويت وليس في مصر- إلا في السنوات الست الأولى من الثمانينيات حين عدت إلى الكويت ثانية وألتحق بوزارة الإعلام لكي أشرف بشكل مباشر على «عالم الفكر»  بينما كان هو يعمل بالجامعة، ولذا كانت لقاءاتنا أيضا متباعدة وفى مكتب المرحوم الإنسان المثقف المهذب أحمد مشاري العدواني الذي كنت قد أنشأت معه مجلة «عالم الفكر» أيام عملي بالجامعة في الستينيات ثم أصبح الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب وتولى هناك إصدار سلسلة الكتب الشهيرة «عالم المعرفة» وكان فؤاد زكريا مستشارا لها. ولكنها كانت لقاءات مشحونة بالأفكار حول الواقع الثقافي في العالم العربي ومقارنته بالتيارات الثقافية العالمية كما كانت بالنسبة لي فرصة للتعرف بشكل أفضل على طبيعة تفكير فؤاد زكريا وبعض (مفاتيح) شخصيته.

          وكان لي لقاء أسبوعي كل يوم خميس في فندق شيراتون الكويت مع بعض أساتذة الجامعة، وكنا نرجو مخلصين لو ينضم إلينا فؤاد زكريا من حين لآخر ولكنه لم يحضر أبدا. وكنا نشعر وقد نكون مخطئين في ذلك بأنه لايريد الوجود مع المرحوم عبد الرحمن بدوي للاختلاف الجذري بين الشخصيتين . وليس من شك في أن لقاءات الشيراتون فقدت الشيء الكثير من المتعة الذهنية والإثارة الفكرية بعدم مشاركة فؤاد زكريا. وللحق والأمانة أعترف بأنه إلى جانب تلك المتعة الذهنية التي لاجدال في التمتع بها من لقاء المفكرين الفيلسوفين معا في لقاءات (حرة ) بعيدا عن الجو الأكاديمي الرسمي كانت تراودني شخصيا رغبة خبيثة ولكنها ليست شريرة في أن أرى  وأتابع ماكنت أتصور وجوده من ضرورة وجود سجال بل وخلاف فكري هائل  بين الإثنين حين يجتمعان معا، خاصة وأن عبد الرحمن بدوي كان قد أصدر في أيامه الأولى المبكرة كتابا عن نيتشه أعتقد أنه كان أول كتاب يصدر عن ذلك الفيلسوف في مصر التي كانت تعرف نيتشة من ترجمة فليكس فارس لكتابه «هكذا تكلم زرادشت»، وكان أبناء جيلي يلتهمون ذلك العمل بشراهة، ولذا رحبوا كل الترحيب بكتاب بدوي. ولكن فيما عدا ذلك كان يبدو لي وقد أكون مخطئا-  أن الاختلافات في المقومات الشخصية والفكرية والمزاجية بين بدوي وزكريا كانت شاسعة وتستحق المتابعة كنموذج لما يجري بين الأكاديميين من صراع فكري خليق بالتسجيل وبوجه خاص إذا كان هذا الصراع ينشب بين جيلين مختلفين يعتز كل منهما بمكانته وإنجازاته. فمن ناحية كان هناك زكريا الهادئ المتواضع مقابل بدوي المتعالي الذي لايتورع عن أن يتناول أي إنسان وبخاصة في المحيط الأكاديمي بالنقد المرير الذي لم يكن يخلو في كثير من الأحيان من السخرية القاسية. وكان الاثنان - رحمهما الله - مغرمين بالموسيقى الكلاسيكية. ولكن بينما كان فؤاد زكريا شديد الولع بموسيقى بيتهوفن وببعض سوناتاته على البيانو كان بدوي شديد الإعجاب بموسيقى فاجنر المتعالية الجبارة الصعبة على الفهم وبقائدي الأوركسترا العنيفين في قيادة العازفين فورتفنجلر وهربارت كاريان.

          وبينما كان هناك فؤاد زكريا الهادئ الطباع المتعاطف مع تلاميذه  المتفاهم مع الآخرين كان هناك بدوي المتعاظم الشديد الاعتداد بنفسه بحق وعن حق لدرجة أنه كتب عن نفسه في موسوعته الفلسفية أربعين صفحة كاملة وهو عدد الصفحات نفسها، التي كتبها عن كانط، كما ذكر لي ذلك بنفسه في اعتزاز وتقدير لذاته المترفعة. ولكن خاب أملي على أية حال مع الأسف الشديد.

مبالغة نقدية

          إنما كان هناك لقاء علق بذهني طيلة السنوات الكثيرة الماضية التي تزيد على ربع قرن. ففي سنة ما من الثمانينيات لا أذكر التاريخ بالضبط ولكنني غادرت الكويت عام 1986- التقينا نحن الاثنين والصديق عبدالحميد صبره على عشاء بمنزل المرحوم أسامة الخولى. فكان بذلك عشاء جمع بين فؤاد زكريا الفيلسوف، وعبد الحميد صبره أستاذ كرسي تاريخ العلوم عند العرب بجامعة هارفارد والذي كان في زيارة عمل للكويت، وشخصي المتخصص في الأنثروبولوجيا وثقافة الشعوب التي كانت تسمى اصطلاحا - بالشعوب البدائية مع المضيف وصاحب المنزل أسامة الخولي - المتخصص في هندسة الطيران والعلوم الطبيعية  والذي خلفني كمستشار لمجلة «عالم الفكر». وكان لابد أن يدور الحديث في بعض جوانبه على الأقل حول كتاب فؤاد زكريا عن التفكير العلمي, وأن يتشعب الحديث حول موضوعات فلسفية وعلمية واجتماعية عدة ولكنها كانت تتمحور حول المنهج العلمي والموضوعية ونيتشه والعقلانية في العلم والفلسفة والحياة, وأن يتطرق إلى موقف فؤاد زكريا من حرية الفكر ومعارضته للديكتاتورية الفكرية أيام جمال عبد الناصر وتصدّيه للسلفية وموقفه شبه الرافض للبنائية أو البنيوية التي أقتدي أنا بمبادئها الأساسية في دراساتي الأنثروبولوجية.

          وليس من شك في أن الفلسفة في بعض أبعادها تعنى بالدراسة النقدية للأسئلة الرئيسية التي تواجه الإنسان في حياته اليومية، وتهتم بطبيعة الإنسان ككائن اجتماعي وعقلاني وبتصرفاته والتزاماته الأخلاقية وبكثير من المشكلات ذات البعد العملي مثل أنساق القيم واحتياجات المجتمع الأخلاقية والاجتماعية, وأن  الكثيرين من الفلاسفة المحدثين  يستمدون مادة تفكيرهم من التخصصات الأكاديمية الأخرى مثل البيولوجيا واللغويات والرياضيات والأنثروبولوجيا وعلم النفس وغيرها، ولذا فإنني لم أكن أجد أي تعارض أو تناقض بين دراستي المبكرة للفلسفة وتحوّلي إلى الأنثروبولوجيا التي تهتم بدراسة أنماط التفكير المختلفة وارتباطي إلى حد كبير بالاتجاهات البنائية.

          ومع التسليم بضرورة الالتزام بقدر الإمكان بالتفكير العقلاني في التعامل مع البشر والأشياء والحياة برمّتها فإنني كنت دائما أتشكك في النزعة العقلانية الصارمة، وقد يكون لدراساتي المتعمّقة للثقافات والأديان والأساطير (البدائية) دخل في ذلك الموقف. ولكن المهم هنا هو أنني لا أعتقد, على العكس من غيري, أن فؤاد زكريا, بالرغم من مواقفه النقدية وإعلائه من شأن العقل بحيث يكاد يقول إنه مقياس كل شيء, لم يكن على كل تلك الصرامة العقلانية التي  يحب البعض أن يظهروه بها وينسبوها إليه، وشأن فؤاد زكريا في ذلك شأن نيتشه نفسه. فنيتشه يرى أن النظرة إلى العالم على أنه مجرد موضوعات للمعرفة تجعل الحياة خالية من المعنى وأن المعرفة والعقلانية في ذاتهما وبذاتهما لايبرران الوجود ولا العالم، وأنما الذي يعطي الحياة معنى هو الفن والموسيقى اللذان يضفيان كثيرا من العمق على التجربة الإنسانية. وفؤاد زكريا تجسيد بمعنى ما لنظرة نيتشة فقد كان صاحب حاسة رفيعة في تذوق الموسيقى والاهتمام بالكتابة والترجمة في مجال الفن الراقي ونظرياته. وكان ذلك بعض مادار حوله حوار ذلك العشاء.

          ولكن يبدو أنني بالغت بعض الشيء في نقدي لما أسميته بالعقلانية الصارمة مستندا كما قلت لتجربتي الطويلة في الحياة بين قبائل إفريقيا ودراستي لبعض جوانب الفكر الشرقى القديم. وربما كنت متأثرا أيضا في ذلك بآراء توماس كون التي عرضها بقوة ووضوح في كتابه الفذ «بناء الثورات العلمية» عن أن العقلانية مجرد وهم أو أسطورة. وبطبيعة الحال كان ذلك يتعارض مع موقف فؤاد زكريا وعبد الحميد صبره الذي تتلمذ على أيدي كارل بوبر في لندن ونقل إلى العربية منذ نصف قرن كتابه «عقم المذهب التاريخي». فكتاب «كون» لايخلو من نزعة إنسانية بعيدة عن المثالية المجردة التي تميز الكتابات حول العقلانية وكان يرى أن العقلانية لاتتفق دائما مع واقع الحياة بل إن العلم نفسه أقل عقلانية مما يتصور الكثيرون، وأن بعض النظريات العلمية قامت دون أن ترتكز على قدر كاف من المعلومات الوضعية بل إنها خضعت لعوامل ذاتية وميول وأفكار تلقائية. وكان من الطبيعي أن يعترض فؤاد زكريا وعبد الحميد صبره على ذلك، ولكنني كنت ومازلت أشعر أن حياتي وخبراتي الميدانية المتنوعة تؤيد ما ذهبت إليه وأن نيتشة ومن ورائه فؤاد زكريا نفسه على الرغم من إيمانهما بالعقلانية وضرورة إخضاع كل شيء لحكم العقل لم يكونا يريان أن هناك مايمنع من تقدير الفن وبخاصة الموسيقى.

****

          في مثل هذه المناسبات ليس من المتوقع الوصول إلى موقف تقبله جميع الأطراف، فهي مناسبات لتبادل الأفكار والاستمتاع بجو المنافشة الهادئ العاصف الذي ينتهي بشعور عميق من الراحة النفسية.

          ولقد تركنا فؤاد زكريا وترك لنا ذخيرة هائلة وثرية من الأفكار والآراء والكتابات العميقة كما خلف وراءه ذكريات طيبة عن فؤاد زكريا الإنسان. رحمه الله.

السيرة الذاتية للدكتور فؤاد زكريا

  • ولد في مصر بمحافظة بورسعيد في ديسمبر 1927.
  • توفي في 11 مارس 2010 / 25 ربيع الأول 1431 هـ.
  • تخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة القاهرة عام 1949.
  • نال الماجستير عام 1952 والدكتوراه عام 1956 في الفلسفة من جامعة عين شمس.
  • عمل أستاذاً رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة عين شمس حتى عام 1974.
  • عمل أستاذاً لمادة الفلسفة ورئيساً لقسم الفلسفة في جامعة الكويت (1974 - 1991).
  • ترأس تحرير مجلتي "الفكر المعاصر" و"تراث الإنسانية" في مصر.
  • عمل مستشاراً لشؤون الثقافة والعلوم الإنسانية في اللجنة الوطنية لليونسكو بالقاهرة.
  • مؤسس ومستشار سلسلة «عالم المعرفة» الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب مع الراحل الدكتور احمد مشاري العدواني.

حصل على جوائز:

  • جائزة الدولة التقديرية في مصر.
  • جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
  • جائزة سلطان العويس في الامارات المتحدة.
  • قدم للمكتبة العربية أكثر من 30 كتابا من الأعمال الفلسفية والفكرية المؤلفة والمترجمة، فضلا عن عشرات المقالات المنشورة والتي لم يجمع أغلبها حتى الآن.
  • صاحب مقولة (العلمانية هي الحل) رداً على دعوة (الإسلام هو الحل).
  • صاحب النظرية القائلة: إن الغزو الثقافي الغربي خرافة لا وجود لها.
  • توفي يوم الخميس 11 مارس 2010 عن 83 عاما.

 

 

 

أحمد أبوزيد