فؤاد زكريا مدافعاً عن العلمانية

فؤاد زكريا مدافعاً عن العلمانية
        

          أفضل ما أعرفه من أعمال فؤاد زكريا كتاباته عن العلمانية، وبخاصة مقالته  «العلمانية ضرورة حضارية». قد يكون في هذا الحكم ظلم لبعض تلك الأعمال. فهي كثيرة ومتنوعة في ميادين الفلسفة والثقافة والسياسة، ومثيرة دائماً للاهتمام. ولكني أجازف، على اعتبار أن الأفضلية التي أقصدها مبنية على ثلاثة أمور: الشجاعة والوضوح وعمق النظر التاريخي. أما الوضوح، فإنه وضوح الموقف وابتعاده عن التردد والالتباس والتحفظ، مع وضوح تام في التعبير عنه، وأما الشجاعة، فإنها تلك الصفة التي نفتقدها عند معظم المثقفين الذين يتصدون، في مشرق العالم العربي ومغربه، لتيار الأصولية الإسلامية الصاخب. وأما عمق النظر التاريخي، فإني أقصد به فهم العلمانية على مستوى التطور الحضاري البشري الذي لا يمكن العرب أن يصنعوا مستقبلهم خارجاً عنه.

          كتب فؤاد زكريا مقالة «العلمانية ضرورة حضارية» في العام 1989، ونشرها في الكتاب الخاص من سلسلة «قضايا فكرية»، وهو مخصص للبحث في الإسلام السياسي، (أسسه الفكرية وأهدافه العلمية). وكان قد أصدر كتابه عن «الصحوة الإسلامية» في ميزان العقل» عام 1985، وكتابه الذي استقبله عدد كبير من النقّاد بكثير من الحفاوة، أعني «آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة» عام 1975. الأمر الذي يعني أن مقالة عام 1989 تندرج في إطار هم فكري يمتد على عقود من الزمن وتشكّل نوعاً من خلاصة ناضجة جامعة ينبغي فهمها في ضوء ما قبلها، كما ينبغي فهم ما قبلها في ضوئها. ولعلي لا أجانب الصواب إذا قلت إنه يمكن تفسير مجمل أعمال فؤاد زكريا الفلسفية، من كتابه عن «اسبينوزا» (1962) إلى كتابه «آفاق الفلسفة» (1985) مروراً بكتابه عن «التفكير العلمي» (1978) كإسهامات في تعزيز التطور نحو العلمانية والتحرّك في فضائها.

ميزان العقل

          يغلب على تفكير فؤاد زكريا في مقالته «العلمانية ضرورة حضارية» طابع الدفاع، وأكاد أقول الدفاع الحذر، المقالة كلها مكتوبة بلغة الشرح والتوضيح والرد على الانتقادات الموجهة ضد العلمانية من جهة الإسلاميين السلفيين المنضوين تحت شعار «الصحوة الإسلامية. عندما قرأتها للمرة الأولى، استحسنت أسلوبها، واعتبرتها مدخلاً من المداخل الممكنة إلى ما هو مطلوب لحسم النقاش، أعني بناء النظريات الفلسفية التي تستلزمها العلمانية في ميادين المعرفة والسياسة والأخلاق وتفسير الدين والنظرة الأساسية إلى الوجود والزمان.

          وفي الواقع، كان فؤاد زكريا يعتقد أن «خصوم العقل» في العالم العربي قد أفلحوا في إعادة مستوى الجدل الثقافي إلى الوراء، «قرناً من الزمان بالنسبة إلى العرب أنفسهم وخمسة قرون على الأقل بالنسبة إلى المجتمعات المتقدمة».

          ومن هنا ميله إلى توظيف العقلانية النقدية التي كان من أنصارها في نقاشات محددة حول مسائل محددة في معترك الحياة الجارية بدلاً من توظيفها في مشاريع كبيرة لنقد الدين وإعادة تأويله أو لبناء نظريات عامة حول الطبيعة والإنسان والتاريخ.

مصطلح غائم

          يأخذ المؤلف على عاتقه تبديد الغموض المحيط بمصطلح العلمانية، مدخلاً للدفاع عنها وتسويغها. فمن جهة الأصل اللغوي، يلاحظ أن اشتقاق العلمانية من العالم أصح من اشتقاقها من العلم، لأنها في أصلها الأجنبي تحيل على العالم الزمني، في مقابل الروحانيات اللازمنية التي يدور عليها الدين. إلا أنه لا يمكن استبعاد صلتها بالعلم، لأنه هو المظهر الأشد وضوحاً لاهتمام الإنسان بالعالم الزمني. ولذلك تبدو الضجة المثارة حول الأصل اللغوي لمصطلح العلمانية «ضجة مبالغ فيها. لأن كلا من المعنيين لابد أن يؤدي إلى الآخر». ومن جهة الأصل التاريخي، يلاحظ المؤلف أن «اللفظ في الأصل تعبير عن وضع حضاري ظهر في أوربا منذ عصر النهضة ومازال هو الذي يميز موقف الغرب من شئون الدنيا والدين حتى يومنا هذا». والمشكلة بالنسبة إلى العرب تكمن في كيفية تفهمه واستيعابه مع اعتبار الفارق الحضاري بينهم وبين الشعوب الأوربية.

          «لابد لنا، لكي نوضح سمات العلمانية في بلادنا، من أن نميز بين مرحلتين.. الأولى هي العلمانية التي ظهرت في زمن الصدمة الحضارية مع الغرب، والثانية هي علمانية العصر الحاضر، أعني الربع الأخير من القرن العشرين». فماذا يعني هذا التمييز؟ وماذا يترتب عليه؟

          إنه تمييز منطقي ومفيد في التأريخ الاجتماعي للعلمانية في العالم العربي الحديث، لأنه يتيح لنا أن ندرك، مع المؤلف كيف أن علمانية عصر النهضة كانت علمانية اقتحامية، واضحة المبادئ والأهداف، ومتماسكة العناصر والقوى، وكيف أن علمانية الربع الأخير من القرن العشرين تحولت علمانية دفاعية، غير موحدة القوى، ومتراجعة أمام صعود التيار الإسلامي. ذلك أن السمات البارزة لعلمانية عصر النهضة كانت الإيجابية، بمعنى أنها كانت تسعى إلى بناء المجتمع على النموذج الأوربي الحديث، والتكاملية، بمعنى أنها كانت تتناول جميع قطاعات المجتمع وأنظمته، والتحررية، بمعنى أنها كانت موجهة ضد السيطرة الأوربية وليس فقط ضد الانحطاط والتخلف. وهذا ما يجمله المؤلف بقوله إن علمانية عصر النهضة كانت تعبيراً عن مشروع حضاري متكامل. ولكن الوضع التاريخي العام تغير كثيراً بعد تحرر العالم العربي من السيطرة الأجنبية واشتداد الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي. فالقضية المركزية أصبحت التنمية، ولم تعد الحركة العلمانية تياراً واحداً، حيث إنها انقسمت إلى مذاهب قومية وليبرالية واشتراكية وشيوعية، واستفاد التيار الإسلامي من هزيمة يونيو 1967 لكي يستعيد زمام المبادرة وينتقل من موقع المطالبة بتعزيز دور الدين في المجتمع إلى طرح مشروع شامل لهيمنة الدين على المجتمع تحت شعار «الإسلام هو الحل».

          هكذا فقدت علمانية النهضة زخمها، وحل محلها وضع تاريخي عام يفرض على العلمانية أن تكون «دفاعية في المقام الأول».

          في هذا السياق، يلتفت المؤلف إلى الدولة والجماهير، فيرى بسبب دورهما أن المعركة بين التيار الإسلامي والاتجاه العلماني «غير متكافئة». لماذا؟ لأن جهاز الدولة لا يخوض معركة ضد التيار الإسلامي على صعيد العقيدة، بل على صعيد الصراع على الحكم، فيتصلب حفاظاً على نفسه، وفي ما عدا ذلك، فإنه يساعد التيار الإسلامي بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بهدف إضعاف الحركات الديمقراطية واليسارية أو بهدف إغراق الجماهير في مشاعرها وطقوسها الدينية المشبعة بأخلاقيات الطاعة والصبر وانتظار الرحمة من الله. والجماهير، بطبيعة الحال، أشد استعداداً لتقبل خطاب الإسلاميين لعجزها عن التفكير النقدي، فلا أمل في أن يصدر منها أي مساندة لمن يصدف أن يرميه الإسلاميون بتهمة الكفر.

سؤال جاد

          وإذا كان الأمر كذلك، فما العمل؟ لاشك عندي في أن فؤاد زكريا واجه هذا السؤال بجدية كاملة، وما كان تشخيصه لسمات العلمانية في عصر النهضة وفي أيامه سوى بحث تمهيدي استخلص منه ما يتوافق مع ثقافته وتقديره لخطّة العمل الممكنة، أعني اعتماد موقف الدفاع عن العلمانية بالرد على الانتقادات التي ينشرها ضدها التيار الإسلامي. إنها خطة متواضعة نسبياً، ولكنها مهمة لتوضح المفهوم وتحديد المواقع في خريطة الصراع، وفتح الأبواب لأعمال لاحقة. إذا كان الخصم يعتمد، عن قصد أو غير قصد، فهماً مشوّهاً لقضيتك، ويسيء إليك وإلى نفسه وإلى المجتمع كله بسبب ذلك، فإن أول واجباتك أن تخلص قضيتك من التشويه وأن تطرحها على حقيقتها الناصعة. وتطبيقاً لهذه القاعدة، قسم المؤلف الانتقادات التشويهية للعلمانية في كتابات الإسلاميين إلى فئتين كبيرتين، سماهما الانتقادات الخطابية والانتقادات العلمية.

          الانتقادات الخطابية لا ترتكز على حجج مستمدة من الواقع، ومدعومة باستدلال برهاني، فهي أشبه باتهامات للتشنيع وإثارة السخط لدى الجمهور. خطورتها تكمن في انتشارها الواسع وفي إسهامها في ترسيخ عقلية التسليم والتصديق تبعاً للانفعال بدلاً من التدقيق العقلي والتروّي والاستقصاء العادل. وفي مقدمة الانتقادات للعلمانية، تصورها مرادفة للفكر اللاديني. «هناك ما يشبه الإجماع بين مفكري التيار الإسلامي المعاصر على الربط بين العلمانية واللادينية. وهذا في الواقع أقوى أسلحتهم وأشدها تأثيراً في نفوس الاتباع». ومن أجل تفنيد هذا الرأي، يحلل المؤلف مجموعة نموذجية من التعريفات التي يعتمدها الإسلاميون المعاصرون للعلمانية، ويتوقف بصورة خاصة عند تعريف بقلم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وتعريف آخر بقلم أنور الجندي. ويبيّن المغالطات التي ينطويان عليها من الناحيتين المنطقية والتاريخية، فمن الناحية  المنطقية، لا يجوز القفز من القول بفصل الدولة عن الدين إلى القول بأن العلمانية تريد إقصاء الدين من الحياة الروحية والأخلاقية والعلاقات الاجتماعية، كما لا يجوز الربط الضروري بين العلمانية وبين المذهب المادي. فصل الدولة عن الدين لا يستلزم بالضرورة تبني الفلسفة المادية في الكون ولا يستتبع بالضرورة تهديم الأخلاق الدينية، والدليل التاريخي على ذلك موجود في أوربا العلمانية حيث لا يزال الدين حياً في العقيدة والأخلاق، وحيث تتصارع المذاهب الفلسفية. وأكثرها ليس مادياً، وحيث تزدهر الفنون والعلوم والحقوق، وكلها تعني أن الإنسان روح، ولا يرجع إلى الغريزة العمياء.

          أما الانتقاد الثاني للعلمانية في كتابات الإسلاميين، فهو يرتكز على الربط بينها وبين المؤامرة. هناك ما يشبه الإجماع بينهم على أن العلمانية مؤامرة على الإسلام، وأن لهذه المؤامرة مصدراً أجنبيا، وأن دعاة العلمانية في العالم الإسلامي إما مشاركون بوعي في هذه المؤامرة وإما أدوات ساذجة في أيدي القوى الأجنبية التي تتآمر على الإسلام». فما قيمة هذا الانتقاد؟

          لقد اختارت أوربا طريق العلمانية، ومن الطبيعي أن تدافع عن اختيارها وأن تعمل على انتشاره في العالم. فالمسألة ليست مسألة مؤامرة، بل مسألة مشروع سيطرة مكشوفة على العالم، بالوسائل والأدوات والطرق التي يضعها تطور الحضارة في أيدي الأقوياء.

          فهل العلمانية، بهذا المعنى، ظاهرة أوربية حصراً أم أنها ظاهرة صالحة لكل القارات والشعوب في هذا العالم؟ هذا هو السؤال الحقيقي.

***

          «المحور الذي تدور حوله جميع الانتقادات العلمية الموجهة إلى العلمانية هو الربط بينها وبين ظروف المجتمع الأوربي في مرحلة معينة من تاريخه». نحن هنا أمام «انتقادات علمية»، حسب وصف المؤلف، لأنها ترتكز على حجج مستمدة إلى حد ما من الواقع الموضوعي، «وتعبّر عن وجهة نظر تتضمن حداً أدنى من التماسك والأنساق، وتستدعي مناقشة عقلية وعلمية تكشف عمّا فيها من الصواب والخطأ». فماذا تقول هذه الانتقادات جوهرياً؟ إنها تقول إن المجتمع الأوربي اصطدم في عصر نهضته، أي في مرحلة انتقاله من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، بسلطة دينية محافظة تبسط نفوذها على جميع الشئون الروحية والزمنية، هي سلطة الكنيسة المسيحية الكاثوليكية، فكان لابد للقوى التقدمية، من علماء وفلاسفة وأدباء وفنانين وفئات البورجوازية الصاعدة، من المجابهة والعمل على التحرر من استبداد تلك السلطة. فكانت العلمانية هي الخط الفكري الجامع لقوى التقدم في تلك المرحلة من تاريخ المجتمع الأوربي. أما العالم الإسلامي، فإنه لم يشهد وضعاً تاريخياً كالذي عرفه المجتمع الأوربي.لعدم وجود مؤسسة إسلامية توازي مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية، فضلاً عن أن البحث العلمي لم يواجه اضطهاداً في التاريخ الإسلامي. ولذلك تبدو الفكرة العلمانية فكرة مستوردة بلا أسباب موجبة لاستيرادها. والتطور الحضاري في العالم الإسلامي ممكن من دونها كما كان ممكناً في عصوره السابقة لانحطاطه وتخلفه.

          هذا الانتقاد قوي في الظاهر، وشائع حتى في صفوف مثقفين لعبت الثقافة الأوبية دوراً مهماً في تكوينهم. «ومع ذلك، يقول فؤاد زكريا - فإن هذه الحجة التي تبدو في نظر هؤلاء جميعاً غير قابلة للتفنيد هي - في رأيي - حجة باطلة في مجملها وفي جميع تفاصيلها».

          وفي مسألة الحريات التي أصبحت من مكتسبات البشرية في ظل الحكم العلماني، يلفت المؤلف الانتباه إلى أن ربط السياسة بالدين يؤدي حكماً إلى تضييقها، لأن الحكم الديني يغري باضطهاد الأغلبية للأقلية، وبإضفاء صفة القداسة على الحكام، وبمحاربة حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير. والاحتجاج بسياسة التسامح في الإسلام، كما عرفت في بعض العصور، لا يقطع الطريق إطلاقا أمام هذا الإغراء القوي.

          أما من حيث قيمة الإنسان في السياسة، فإن التعارض واضح بين الحكم الديني والحكم العلماني في شأنها. العلمانية لا تؤله الإنسان، ولكنها تنطوي على تقدير أساسي لمكانته وقدراته العقلية وحريته وسعيه الجدي إلى تحسين أوضاعه بواسطة النظم التي يبنيها لتدبير شئونه في هذه الدنيا. أما خصوم العلمانية فإنهم «يحملون في داخلهم قدراً هائلاً من الاحتقار للإنسان، لا يعلنونه على الملأ، وربما لم يكونوا على وعي تام به، ولكنه كامن في صميم تعاليمهم». ومن هنا إخفاؤهم لمخاطر الاستبداد الرهيب الذي ينطوي عليه مبدأ الحاكمية الإلهية في السياسة.

          تلك هي مقالة فؤاد زكريا «العلمانية ضرورة حضارية».حاولت أن أستعيد أفكارها الرئيسية بأمانة واختصار، لأنها في تقديري من أهم النصوص التي خاطب صاحبها «العقل العربي» وتركها للأجيال الجديدة جزءاً من تراثنا المنير. إنها مقالة دفاعية، نقدية، جدلية، تتسم برصانة عالية، وتوظف ثقافة فلسفية عميقة واطلاعاً دقيقاً على تاريخ الحضارة الغربية الحديثة، وترتكز على إخلاص كامل لقضية التقدم في المجتمع العربي. مقالة استراتيجية حافلة بالأمثولات، وأبلغ أمثولاتها ذلك التشدد الصريح، الصارخ، الكاشف، على أن العصور الوسطى أسلوب في التفكير موجود في كل مجتمع يطغى عليه التفكير الغيبي السلطوي، وأن العلمانية طريق للتحرر من هذا الطغيان، ولا طريق سواها.