جمال العربية

جمال العربية

معلقة الحرب والسلام
زهير بن أبي سلمى

في كتابه (طبقات الشعراء) يضعه ابن سلام في الطبقة الأولى من فحول شعراء الجاهلية, مع امرىء القيس والنابغة والأعشى. ثم يروي ابن سلام عن يونس بن حبيب أن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس, وأن علماء الكوفة كانوا يقدمون الأعشى أما أهل الحجاز فيقدمون زهيرا.

ويروون أن عمر بن الخطاب كان يعد زهيرا شاعر الشعراء لأنه لايعاظل بين الكلامين, ولايتتبع وحشي الكلام ولايمدح أحداً بغير ما فيه.

أما علماء المدينة فكانوا يقدمون زهيراً ويعجبون بقوله في مدح هرم بن سنان:

قد جعل المبتغون الخير في هرم

والسائلون إلى أبوابه طرقا

من يلق يوماً على علاته هرماً

يلق السماحة منه والندى خلقا

فإذا ما قارنوا بينه وبين غيره من شعراء الجاهلية قالوا: لقد كان زهير أحصفهم شعرا, وأبعدهم من سخف, وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق وأشدهم مبالغة في المدح, وأكثرهم أمثالا في شعره.

كان زهير بن أبي سلمى من بيت كله شعر وشعراء, فأبوه (أبو سلمى) شاعر وأخته (سلمى) شاعرة وابناه كعب وبجير شاعران وبشامة بن الغدير خال أبيه شاعر. كما كان زهير نفسه راوية لزوج أمه أوس بن حجر. أما ابنه كعب فصاحب القصيدة المشهورة (بانت سعاد) التي يطلب فيها عفو الرسول الكريم عنه ويستهلها بقوله:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ

متيم إثرها لم يجز مكبول

ويقول فيها:

نبئت أن رسول الله أوعدنيُ

والعفو عند رسول الله مأمول

فإذا ما حاولنا رسم صورة إنسانية لزهير ـ من خلال روايات الرواة وكتب التراث العربي ـ وجدناها تجمع على عفة قلبه ولسانه وعلى صفة الوفاء والاعتراف بالجميل فيه, وترفعه عن التكسب بالشعر في زمن كان التكسب بالشعر ديدن الشعراء وطريقهم في الحياة. أما هو فقد وقف مدحه على رجل من أجواد العرب الذين عم فضلهم, واتخذوا من مالهم سببا لإخماد نار الفتنة ونشر السلام والمحبة بين القبائل. ووجد زهير في هرم ابن سنان مثله الأعلى الذي تجمعت فيه الفضائل والخصال الحميدة, كلاهما يمقت الحرب والخصومة, وكلاهما يريد نشر السلام والوئام. ولقد ذهب ما أعطاه هرم لزهير أما ما قاله زهير في هرم فباق خالد, وصدق عمر بن الخطاب حين قال لأحد أبناء هرم بن سنان: قد ذهب ما أعطيتموه, وبقي ما أعطاكم. وفي رواية أخرى أن عمر قال لابن زهير: مافعلت الحلل التي كساها هرم أباك? قال: أبلاها الدهر. قال عمر: لكن الحلل التي كساها أبوك هرما لم يبلها الدهر.

ثم إن الرواة ينسبون إليه من الصفات مايليق بشاعرية شاعر عظيم قادر على التصرف في فنون الشعر والإجادة في أكثرها, موفور الإنتاج, طويل النفس في قصائده. معلقته المشهورة تقع في ثلاثة وستين بيتا, وقصيدته في مدح هرم بن سنان عدد أبياتها ثلاثة وأربعون, وهناك قصائد أخرى تتراوح بين سبعة وأربعين بيتا وثلاثة وثلاثين بيتا, مع (اتساق الجودة وحسن السبك وقوة المعاني) كما يقول القدماء مبرزين عناية زهير بشعره, وحرصه على عدم إذاعته في الناس إلا بعد تنقيحه وتهذيبه, من هنا سميت قصائده (حوليات زهير) لأنه ينقحها ويهذبها في سنة كاملة. ويرى الدكتور بدوي طبانة في كتابه عن (معلقات العرب) أن هذا هو السبب في قول الأصمعي: زهير والحطيئة وأشباههما من الشعراء (عبيد الشعر) لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين.ويجمع الرواة على أن إبداع زهير لمعلقته كان وراءه سبب أساسي هو اشتعال نار الحرب بين قبيلتي عبس وذبيان, وسعى هرم بن سنان والحارث ابن عوف للصلح بين القبيلتين ـ بعد أن طال أمد القتال وقتل الكثير من الجانبين وتحملهما لديات القتلى مما جعلهما أهلا لمديح زهير وتخليده لموقفهما النبيل في معلقته. وفي عشرة أبيات متتابعة يمجد زهير هذين العظيمين, والمسعى الذي قاما به, منتقلا بعد ذلك لبيان أهوال الحرب ومصائبها وما تجره على الناس من خراب ودمار وموت وإراقة دماء, وهو يشبهها مرة بالوحوش والسباع الضارية, ومرة أخرى بالرحى التي تطحن كل شيء طحنا, ثم هي لاتلد إلا ذرية شؤما ملعونة.

ولم يفت زهيرا أن يسكب عصارة تجربته في الحياة وخلاصة خبرته بالناس, كاشفا عن حكمته العميقة وآرائه الناضجة في الجزء الأخير من المعلقة, وهو يعرض لمنظومة الفضائل والقيم في حياة العربي القديم ومن بينها الذود عن الحوض ـ الدار والوطن ـ بالسلاح, وظلم الآخرين قبل أن يظلمه الآخرون:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحهُ

يهدم, ومن لايظلم الناس يظلم

هل كان زهير يسخر من قانون العصر الجاهلي كله: من لايظلم يظلم?, أم أنه يورده في سياق المفردات الأخرى التي تشكل منظومة الحياة القائمة على القوة والذود عن الحياض وعدم الخوف من المنايا والمصانعة أحيانا حتى لايقع المرء فريسة الأنياب والمخالب والوطء بالمنسم ? ثم هو ـ قبيل ختام المعلقة ـ يبدع هذا البيت الجميل الذي يكاد يكون شعار بلاغة العربي وفصاحته وقدرته على البيان. إن نصف قدره وقيمته في لسانه, ونصفه الثاني في فؤاده شجاعة وحكمة وتأتيا للأمور. أما اللسان أو اللسن فهو المقدم وهو مناط فخر العربي ومجد الفتى الذي هو رمز للفتوة والرجولة والمهابة بين قومه. يقول زهير:

لسان الفتى نصف, ونصف فؤادهُ

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

فإذا ماحاولنا تأمل اللغة الشعرية التي اصطنعها زهير في معلقته وأيضا في سائر قصائده, وجدناها لغة شاعر يتكىء على معرفة وثيقة بهذه اللغة, وقدرة فذة على ابتكار الصور الشعرية القادرة على التشخيص والتجسيد, والبعد عن كل مايسبب الغرابة أو الحوشية أو التعقيد مما ينفر منه الذوق والطبع العربي, منطلقا دوما إلى ابتكار المعنى الذي يثري المضمون ويغنيه, مع حرص على صفاء التشكيل الشعري والإطار العام للقصيدة, وإطلاق البيت الواحد كأنه سهم شعري يصيب وجدان المتلقي فيظل يردده ويرويه حتى يصبح قولا ذائعاً من مأثور الكلام, وإلا فكيف رددت العرب من قديم هذه الأبيات الجميلة المحكمة من شعر زهير:

- تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ـ فإن الحق مقطعه ثلاث:

يمين أو نفاذ أو جلاء

ـ سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولاً ـ لا أبالك ـ يسأم

ـ ومهما تكن عند امرىء من خليقةِ

وإن خالها تخفى على الناس تعلمِ

ومن يجعل المعروف في غير أهله

يكن حمده ذماً عليه ويندمِ

ومعظم هذه الأبيات يضمها المقطع الأخير في معلقته, مما أعطى لهذه المعلقة وزنها الحقيقي في مجال البصيرة النافذة والحكمة الصائبة والتأمل العميق مما لانجده في غيرها من المعلقات.

إنها ـ باختصار ـ معلقة تبرهن على جمال العربية عند واحد من شعرائها الكبار.

يقول زهير:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

بحومانة الدراج فالمتثلم

ودار لها بالرقمتين كأنها

مراجيع وشم في نواشر معصم

بها العين والأرآم يمشين خلفةً

وأطلاؤها ينهضن من كل مجثمِ

وقفت بها من بعد عشرين حجةً

فلأيا عرفت الدار بعد توهمِ

أثافي سفعاً في معرس مرجل

ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلمِ

فلما عرفت الدار قلت لربعها

ألا انعم صباحاً أيها الربع واسلمِ

تبصر خليلي هل ترى من ظعائن

تحملن بالعلياء من فوق جرثمِ

جعلن القنان عن يمين وحزنه

وكم بالقنان من محل ومحرمِ

علون بأنماط عتاق وكلةٍ

وراد حواشيها مشاكهة الدمِ

ووركن في السوبان يعلون متنهُ

عليهن دل الناعم المتنعمِ

بكرن بكوراً واستحرن بسحرةٍ

فهن ووادي الرس كاليد للفمِ

وفيهن ملهى للطيف ومنظرٌ

أنيق لعين الناظر المتوسمِ

كأن فتات العهن في كل منزلٍ

نزلن به حب الفنا لم يحطمِ

فلما وردن الماء زرقا جمامه

وضعن عصي الحاضر المتخيمِ

ظهرن من السوبان ثم جزعنهُ

على كل قيني قسيب ومفأمِ

سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما

تبزل مابين العشيرة بالدمِ

فأقسمت بالبيت الذي طاف حولهُ

رجال بنوه من قريش وجرهمِ

يميناً لنعم السيدان وجدتما

على كل حال من سحيل ومبرم

***

رأيت المنايا خبط عشواء من تصبْ

تمته ومن تخطىء يعمر فيهرمِ

ومن لم يصانع في أمور كثيرةٍ

يضرس بأنياب ويوطأ بمنسمِ

ومن يجعل المعروف من دون عرضهِ

يفره ومن لايتق الشتم يشتمِ

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضلهِ

على قومه يستغن عنه ويذممِ

ومن يوف لايذمم ومن يهد قلبهُ

إلى مطمئن البر لايتجمجمِ

ومن هاب أسباب المنايا ينلنهُ

وإن يرق أسباب السماء بسلمِ

ومن يجعل المعروف في غير أهلهِ

يكن حمده زماً عليه ويندمِ

ومن يعص أطراف الزجاج فإنهُ

يطيع العوالي ركبت كل لهذمِ

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحهِ

يهدم ومن لايظلم الناس يظلمِ

ومن يغترب يحسب عدوا صديقهُ

ومن لايكرم نفسه لايكرمِ

ومهما تكن عند امرىء من خليقةٍ

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

 

فاروق شوشة