من المكتبة العربية.. ألوان من الخيال

من المكتبة العربية.. ألوان من الخيال
        

          أهدى الدكتور شاكر عبدالحميد المكتبة العربية مجموعة طيبة من مؤلفاته وترجماته في مجال علم النفس المهتم بنظريات الإبداع وأهدافه وأسسه، ومن هذه المؤلفات نذكر علي سبيل المثال لا الحصر الفنون البصرية وعملية الإدراك، العملية الإبداعية في فن التصوير، عصر الصورة، الفكاهة والضحك/ رؤية جديدة، العبقرية والإبداع والقيادة، سيكولوجية فنون الأداء، الأدب والجنون، التفضيل الجمالي، وكتابه الأخير الموسوم الخيال والصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت/ العام 2009، الذي استعرض من خلاله مفاهيم الخيال ودوره في الإبداع ابتداء من عصر الكهف إلى الواقع الافتراضي.

          ويقصد بعصر الكهف رسوم الكهوف والأساطير والرسوم السابقة على الأساطير لأن الصورة لدى الإنسان سابقة على اللغة الشفاهية، وهذه بدورها سابقة على اللغة الكتابية، وقد كانت تلك أحلاما وكوابيس قديمة، ولكننا لم نعرفها إلا عندما جسدها الإنسان القديم في رسومه وأساطيره في شكل موضوعات فردية مثل الحيوانات والوجوه والأيدي والحركات والأدوات، وقد تم إبداع هذه الأعمال الفنية منذ ما يتراوح بين خمسة وثلاثين ألف عام وخمسة وأربعين ألف عام، وتم الكشف عنها لأول مرة في خريف العام 1879م بمعرفة النبيل الإسباني مارسيلينو سانزو دي ساوتولا وأبنته اليافعة ماريا، بينما يقصد بالواقع الافتراضي الواقع الذي يحاكي الواقع الحقيقي ولكن من خلال عمليات إلكترونية رقمية ترتبط بعالم الكمبيوتر والشاشات والأدوات التكنولوجية المتقدمة، والواقع الافتراضي مصطلح ابتكره عالم الكمبيوتر والفنان التشكيلي جارون لانير من أجل وصف الطريقة التي يشعر بها مستخدمو الكمبيوتر وألعابه وهم يعايشون العوالم (الغابات والمعارك العسكرية والفضاء الخارجي وأعماق البحار والأسواق) التي يقوم الكمبيوتر بتخليقها في أنظمة تمزج بين طرائق التصوير والصوت والأنظمة الحسية المحوسبة، هنا يمكننا تعريف الفن الافتراضي بأنه ذلك النشاط الذي يسمح لنا ومن خلال التفاعل مع التكنولوجيا بأن نستغرق بأنفسنا ونندمج في الصورة وعالمها، وأن نتفاعل معها أيضا من خلال اللعب والحركة.

          بدأ الاهتمام بدراسة الخيال في نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين خاصة بين علماء النفس المهتمين بدراسة الظاهرة الإبداعية من حيث مكوناتها ومراحلها ومصادرها، ومن أشهر هؤلاء العلماء عالم النفس الفرنسي ريفو، وقد انتهى هؤلاء العلماء إلى نتيجة مهمة مؤداها «أن الخيال هو في جوهره سجل لقدرة الإنسان الإبداعية التي تطورت عبر التاريخ، كما أنه حجر الزاوية في النشاط الإنساني، وهو الذي مكن الإنسان من غزو العالم واستكشافه وفهمه ومحاولة السيطرة عليه»، وللخيال أنواع متعددة يمكننا في هذا المقام تعريف كل نوع منها بإيجاز.

الخيال العلمي

          الخيال العلمي مثلا من الأنواع الواسعة الشاملة، لأننا نجد أمثلته في كتب الأدب وأعمال الفن التشكيلي والتلفزيون والسينما وألعاب الفيديو الحديثة والمسرح وغير ذلك من أشكال الإعلام، ويستمد عناصره من قوانين الطبيعة القائمة علميا والتي تتقيد بقوانين الزمان والمكان والسببية والمنطق العلمي، لذا يختلف عن الفانتازيا التي تتحرر من هذه القوانين وقيودها، ومن أنواعه الخيال العلمي الصارم وهو الذي يتميز بالانتباه الدقيق للتفاصيل الدقيقة في العلوم الكمية والطبيعية وخاصة الفيزياء والكيمياء والفلك، وكذلك العوالم التي يتم وصفها بدقة، وقد أفادت هذه العلوم التكنولوجيا في تحقيق تقدمها، أما الخيال العلمي اللين أو الناعم فهو الذي يهتم بالعلوم الاجتماعية مثل علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الاقتصادية والسياسية.  ومن أنواع الخيال العلمي الأخرى السيبرنيك وهو الذي يهتم بعلوم الأنظمة الآلية والمعلوماتية. ومن أنواعه أيضا قصص السفر عبر الزمن التي ازدهرت خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أعمال ويلز مثل آلة الزمن، كما شاع هذا الموضوع في الروايات والمسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية، والتاريخ البديل ويقصد به افتراض وقوع الأحداث التاريخية على نحو مختلف لحقيقتها وقد تستخدم هذه الأعمال تكنيك السفر عبر الزمن لتغيير الماضي، أو أنها تطرح قصة في عالم له تاريخ مختلف عن التاريخ الذي نعرفه.

الخيال الفلسفي

          أما الخيال الفلسفي فيقصد به النظريات المختلفة حول الكون والعالم والإنسان التي توصل إليها الفلاسفة، ونزعم أنهم توصلوا إليها عن طريق التأمل والخيال، بينما يقوم الخيال التطبيقي على أساس التجريب والتدريب وحرية التفكير والتقييم من دون خوف من الفشل أو العقاب لأسس التطبيقات المختلفة التي تمكنا من غزو الفضاء والسيطرة على الواقع والعمل على مراجعتها دائما بهدف تحسينها، أما آثار الخيال التجريدي فنراها واضحة المعالم في الفن والعلم والأدب كل في مجاله، وهو عبارة عن تجريد الخبرات الواقعية الكثيرة وتلخيصها وتحويلها إلى أفكار وصور عامة، إلى استعارات ومجازات وإيماءات وأشكال وخطوط وألوان ومعادلات ورموز وأنماط من الأبطال والشخصيات يمكن في ضوئها تفسير الكثير من الحالات المماثلة سواء كانت حالات انفعالية أو صوراً طبيعية، بينما يدور خيال العتمة حول الخوف والفزع والكوابيس والموت وخير شاهد على ذلك الأدب القوطي، بينما يدور خيال الضوء حول الأمنيات والأحلام التي يبني من خلالها الإنسان قصورا في الهواء وأيضا حول إشباع رغباته عن طريق التخيل، ومثال ذلك ما جاء في قصص ألف ليلة وليلة وهو ما يسميه النقاد بخيال التفاؤل والبهجة والشعور بحسن الحال.

الخيال الأدبي والفني

          يقصد بالخيال الموسيقي الأنغام التي تطرأ على ذهن المؤلف الموسيقي ويحولها بمهارة ودقة إلى ألحان موسيقية يسطرها على النوتة الموسيقية، وقد قيل عن موتسارت إنه كان يقطف ألحانه من الهواء، وفي ذلك يقول الدكتور شاكر عبدالحميد «يعتمد الخيال على التفكير بالصورة، والصورة قد تكون بصرية أو سمعية أو لمسية، لذا وجدنا موتسارت قادرا من خلال خياله البصري على سماع بعض سيمفونياته الجديدة قبل أن يكتبها على نحو يماثل تماما حالتها بعد اكتمالها. أما الخيال الأدبي فهو خيال الصور الأدبية والاستعارات والمجاز اللغوي السائد في الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرحية وقصص الخيال العلمي، والنقد أيضا، وقد وجد الخيال الأدبي الحديث في الأساطير القديمة والملاحم البطولية الوسيطة والحكايات الخرافية والنزعات الصوفية والسحرية والسرية والفولكلور وقصص الفرسان، وخير شاهد على ذلك قصص ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والحكايات والسير الشعبية في أدبنا العربي كما يقول المؤلف, ويتجسد الخيال الانفعالي في الإبداع الأدبي والفني، وفي عمليات تذوق الفنون والآداب وحتى في العلم، ويقصد به تخيل المبدع نفسه في الحال التي يكتب عنها في الرواية والشعر مثلا، أو يشاهدها في الفن التشكيلي والمسرح والسينما مثلا، أو يؤديها في السينما أو التلفزيون، وفي ذلك يقول الدكتور شاكر عبدالحميد «تؤدي عملية التقمص الوجداني والتعاطف وتخيل المبدع أو المتلقي نفسه في موضع الشخص أو الشيء المتخيل دورا مهما أيضا حيث يسقط صاحب الخيال مشاعره وأفكاره على شخصيات أخري أو حتى على أشياء أخرى كالصخور والسحب والحوائط كما كان الحال لدى دافنشي مثلا»، وقد قال الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم إن الانفعالات القوية غالبا ما تستحضر معها خيالا قويا. بينما يقصد بالخيال التشكيلي الخيال السائد في فنون التصوير والنحت والعمارة وغيرها من الفنون البصرية أو الأنشطة التي تحتاج إلى خيال بصري ومكاني متميز.

          يعرف الخيال المسرحي بأنه مجموعة من الحيل والحركات والصور التفصيلية تحقق التواصل بين الكاتب والمخرج والممثلين والمشاهدين. بينما يقوم الخيال السينمائي على قصة أو على تجربة تدور أحداثها في مجال الخيال أو في دنيا الأحلام أو الهلوسة التي تستحوذ علي الشخصية أو تتراءى في مخيلة الراوي، ويستفاد مما سبق أن الأفلام الخيالية عبارة عن مجموعة من الصور المتحركة تتميز بوجود شخصيات وأحداث غير محتملة، بل أحيانا مستحيلة الوجود، كما أن هذه الأفلام تخلق عالما لا نعرف مثيلا له خارج قاعة العرض السينمائي وهو عالم يتم فيه التعليق أو الإيقاف للفيزياء أو البيولوجيا أي لعلوم الطبيعة والحياة في حالتهما العادية.

خيال الرياضة البدنية

          وفي مجال الرياضة البدنية يقصد بالخيال  الرياضي التطور الذي يضيفه اللاعب إلى لعبته أثناء ممارستها أو تأديتها سواء في السيرك أو ألعاب القوى أو ألعاب الأطفال أو غير ذلك من الأنشطة الإنسانية والدليل على ذلك أننا لاحظنا في دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في بكين العام 2008 أن كثيرا من اللاعبين في كثير من اللعبات كانوا يغمضون أعينهم قبل بداية المسابقة التي سيشتركون فيها، ويقول الخبراء هنا إن هؤلاء اللاعبين يتصورون ذهنيا ويتخيلون الحركات التي سيؤدونها، وأنه من دون هذا التمهيد الخيالي المهم قد يواجهون صعوبات غير متوقعة في أداء اللعبة، بينما يعتمد خيال العلماء على الصور سواء كانت صوراً حسية أو بصرية أو سمعية أو لمسية، وقد استطاع عالم الرياضيات الفرنسي الشهير هنري بوانكاريه الوصول إلى البراهين الرياضية وفك المعادلات من خلال الصور الحسية التي كانت تتوهج في عقله، كما كان تفكير أينشتين العلمي يحدث في شكل بصري والذي تلته عمليات البحث الشاقة عن الكلمات والرموز والمعادلات، وقد مكنته الصور من الوصول إلى الأمور الأساسية لنظرياته المتعلقة بالنسبية الخاصة العام 1905 ثم النسبية العامة العام 1915، وقد مهدت التغيرات غير المتوقعة التي أحدثتها هاتان النظريتان الطريق في الفيزياء لقفزات علمية مدهشة أخرى العام 1925 قام بها فيرنز هايزنبرج حول فيزياء الذرة وميكانيكا الكم.

الخيال الاقتصادي والتاريخي والجغرافي والسياسي

          يقصد بالخيال الاقتصادي القدرة على الطرح لنظم ومشروعات وأفكار اقتصادية جديدة في مجالات التجارة والصناعة والزراعة وغيرها، وكذلك في دنيا المال والأعمال من أجل حل بعض المشكلات، بينما يقصد بالخيال التاريخي قدرة المؤرخ على كتابة الماضي الذي لم يعشه اعتمادا على الوثائق والمستندات بالإضافة إلى تخيله لأحوال القادة وأدوارهم في مسيرة دولهم وموقف التابعين والشعوب منهم، وكلما كان خياله خصبا وقدرته على الربط بين التفاصيل قوية كانت كتاباته التاريخية أفضل وأعمق. كما يقصد بالخيال الجغرافي ابتكار النوافذ المعرفية التي تمكن الشعوب من التقدم والازدهار في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، أما الخيال السياسي فيقصد به قدرة القادة والمعارضة وجماعات الضغط وفئات المجتمع الفاعلة على نحو عام طرح بدائل من أجل الخروج من بعض الأوضاع الراهنة الراكدة واستشراف مستقبل سياسي أكثر مرونة وتطورا، كما يرتبط كذلك بالطرائق التي أثرت ثقافة الاستهلاك من خلالها وفي خبراتنا الجماعية داخل المجتمع وكذلك في قدرتنا على تخيل نظم اجتماعية وسياسية بديلة.

الخيال وعلماء النفس

          يرى بعض علماء النفس أن الأشخاص مرتفعي الإبداع تقل لديهم الكوابيس مقارنة بغيرهم بسبب وجود حالة نسبية من الاتزان الوجداني والاستقرار العاطفي أو الرضا عن النفس، بينما يرى البعض الآخر أن الكوابيس أمر ضروري للإبداع خاصة بين الأطفال، ويدللون على صحة آرائهم باستعراض سير حياة كل من الكاتب الفرنسي أندريه جيد والموسيقي الألماني فاجنر والفلاسفة ديكارت وهيبوليت تيه وفردريش هيبل، ويعتنق المؤلف الرأي الثاني لإيمانه بدور الكوابيس والهلاوس والأحلام في عمليات الإبداع رغم اختلاف خصائصها وأسبابها فانظره يقول «يبدو أن الذين يعانون الكوابيس يكونون متسمين بخيال شديد الحيوية وذلك لأنهم في العادة لا يشغلون أنفسهم كثيرا في حياتهم بحدود الواقع وضوابطه، ومن ثم تكون لديهم ذاكرة شديدة الحيوية وأحلام يقظة ومشاعر وخبرات غير عادية، ولديهم علات اختلال الشعور بالواقع واختلال الشعور بالشخصية على نحو يفوق غيرهم من البشر، كما توجد لديهم أيضا حالة ضعيفة من الاختبار للواقع وحدود غير متمايزة بين ما يأتي من الداخل وما يأتي من الخارج من معلومات وصور».

تنمية الخيال

          تبين لنا من العرض الموجز لأنواع الخيال أنه مجموعة من العمليات الحسية والإدراكية والمعرفية وما وراء المعرفية أي التي تتعلق بالضبط والتنظيم للنشاط الحر للتخييل والتخيل والانفعالية النشطة التي تكوّن الصور الداخلية وتحولها وتحللها وتركبها وتنظمها في أشكال جديدة يجري تجسيدها بعد ذلك في أعمال وتشكيلات خارجية إبداعية في الغالب يتم تبادلها مع الآخرين، والخيال في جوهره إبداعي مستقبلي يقوم على أساس الحرية الداخلية، حرية الصور والأفكار التي تنظم بعد ذلك في أشكال جديدة ومفيدة كما يقول الدكتور شاكر عبدالحميد/ ص 88. ويدعونا المؤلف في ختام كتابه إلى ضرورة تنمية وتحسين الخيال بأنواعه المختلفة خاصة في مجالات التربية والتعليم لدى الأطفال لتخريج المبدعين في مختلف المجالات الأدبية والفنية والعلمية واللغوية.

-----------------------------------

          الحبٌ أرقني واليأسُ أضناني
                                        والبَينْ ُضاعفَ آلامي وأحزاني
          والروحُ في حب «ليلايَ» استحالَ
                                        إلى دمعٍ فأمطره شعري ووجداني
          أساهرُ النجمَ والأكوان ُهامدةُ
                                        تصغي أنيني بأشواقٍ وتحنان
          كأنما وغراب الليلِ منحدر
                                        روحي وقلبي بجنبيه جناحان
          نطوي معًا صهواتِ الليلِ في شغفٍ
                                        ونرقبُ الطيف من آن إلى آن
          لكِ الحياةُ وما في الجسمِ من رَمَقٍ
                                        ومن دماءٍ ومن روحٍ وجثمان
          لك الحياةُ فجودي بالوصالِ فما
                                        أحلى وصالك في قلبي ووجداني

مفدي زكرياء

 

 

 

شاكر عبدالحميد