ما الفلسفة؟

ما الفلسفة؟
        

          إن سؤال الفلسفة عن نفسها، أو سؤالنا نحن عن الفلسفة، هو سؤال عن راهن الفلسفة، أي عن علاقة الفلسفة بعصرنا الراهن: هل هو سؤال معرفة؟ هل هو سؤال أزمة ؟ إن الفلسفة في الأساس فعل التساؤل، أو هي بالأحرى وفق هيدجر- «فن ابتكار السؤال».

          فالسؤال هو رغبة الفكر وفقاً لـ «بلانشيو». وهذا السؤال هو بمنزلة الاكتشاف المتواصل لحياتنا.. لإدراكنا.. ونشاطاتنا.. ولمعرفتنا. فالأسئلة موجودة داخل حياتنا وداخل تاريخنا «إنها تولد فيها وتموت فيها» كما يقول ميرلوبونتي. والفلسفة -عبر التساؤل- توقظنا على ما في وجود العالم وفي وجودنا من إشكالات، حتى أننا نكون قد شفينا نهائياً من البحث عن الإجابة في كراس المعلم على حد تعبير برجسون. 

          يحدد دولوز وجواتاري مهمة الفلسفة في كونها «ابتكار واختراع المفاهيم» وهى مهمة تنفرد بها الفلسفة عن باقي المعارف, التأمل ليس صفة مميزة للفلسفة. إنه عملية تشترك فيها كل العلوم الأخرى معها. لكن ما يميز الفلسفة هو ابتكار المفاهيم وخلقها «فالفلسفة هي فن تشكيل وابتكار وصياغة المفاهيم» والفيلسوف هو صديق المفهوم, أو هو «مفهوم بالقوة». إن كون الفلسفة هي فن تشكيل وابتكار وصنع المفاهيم، يعني أن هناك ضرورة لذلك. فالفلسفة ليست تأمُّلاً Contemplation، ولا تفكيرا Réflexion، ولا تواصلا Communication، حتى وإن كان لها أن تعتقد تارة أنها هذا وتارة أنها ذاك، الفلسفة هي: حُبُّ وعشق وصداقة: Philo، الحكمة: Sophie. إن الأصل الإغريقي للكلمة يدل على ذلك (Philo - Sophie). هذا النزوع العشقي الذي تنطوي عليه الفلسفة يدفعنا للتفكير في المعشوق أو في الصديق والحبيب الذي هو الحكمة، يتساءل جيل دولوز: «ما معنى الصديق حين يصبح شخصية مفهومية أو شرطا لممارسة الفكر؟ ألا يعني ذلك أن الصديق سوف يُدْرِجُ حتى في الفكر، علاقةً حيوية مع الآخر الذي اعتقدنا إقصاءه من الفكر الخالص؟ ألا يتعلق الأمر بكائن آخر غير الصديق والعاشق؟ لأنه إذا كان الفيلسوف هو صديق الحكمة أو عاشقها، أليس ذلك راجعا إلى كونه يدّعي هذا الأمر ببذل المجهود على مستوى القوة بدل امتلاكها بالفعل؟ ألن يكون الصديق كذلك هو الراغب، والموضوع الذي تحصل عليه الرغبة هو الذي سيقال عنه إنه الصديق، وليس الموضوع الثالث الذي قد يغدو على العكس منافسا؟ ألا يمكن للصداقة أن تنطوي على حذر تنافسي مقابل الند بقدر ما تنطوي على نزوع عشقي نحو موضوع الرغبة»، إننا نعلم أن الصديق أو العشيق كراغب لا يقوم من دون غريم ولا نِدٍّ أو منافس فِعْلِيٍّ أو مُفْتَرَض. يرصد جيل دولوز بسرعة أنداد ومنافسي الفيلسوف. لكن كيف يمكن التمييز بين الصديق الحقيقي والمزيف، بين المفهوم ونسختهُ Simulacre وبين الـمُـتَظاهِر Simulateur والصديق؟

الحقيقي والزائف

          إن مفهومي الحقيقي والزائف، المثال ونسخته، هما إحدى مآثر الأفلاطونية التي يجب التخلص منها، أو لنقل يجب تعديلها وقلبها. وليست الأفلاطونية هنا، بطبيعة الحال، مذهبا فلسفيا يرتبط بشخص أو أشخاص، بمكانة أو أمكنة. الأفلاطونية بنية الميتافيزيقا ذاتها، تلك البنية التي لا تعمل، كما اعتدنا أن نقول على التمييز بين المعقول والمحسـوس، بين النموذج والنسخة، والتي لا يكتفي قلبها بأن يعيد المجد للمظاهر ضد الماهيات. القلب المقصود هنا يهدف إلى الطعن في عالم التشابه ذاته، ومنطـق التطابق الذي يتم داخله التمييز بين المظهر والماهية والمفاضلة بينهما. إن مفهوم النموذج عند أفلاطون لا يتدخل هنا كي يقابل عالم النسخ ويتعارض معه في مجموعه. ولا تقف مهمته عند هذه المقابلة والتعارض. إنه يتدخل كي ينتقي النسخ الجيدة التي تشبه الأصل في صميمه وباطنه, أي الأيقونات, ويستبعد النسخ الرديئة أي السيمولاكر. النسخة- الأيقونة صورة تتمتع بالتشابه, والسيمولاكر صورة بلا تشابه. الأيقونة تقوم على الشبه والوحدة مع النموذج, أما السيمولاكر فهو يقوم على الاختلاف وينطوي على اللاتشابه. الأيقونة (تكرر) النموذج, والسيمولاكر (يخونه). تولد الثنائية الميتافيزيقية نموذج / نسخة ثنائية أخرى تحل محله, إنها ثنائية أيقونة/سيمولاكر, بحيث تكاد المقابلة الأساسية تصبح محصورة هنا في عالم النسخ ذاته. ولا يتدخل النموذج إلا كمعيار للتمييز بين النُسخ والمفاضلة بينها وانتقاء الأفضل واستبعاد غيره. ليست الأفلاطونية بهذا المعنى هي التمييز بين عالم المعاني وعالم المحسوسات, بين النماذج والنسخ, وإنما هي وقوف عند النسخ ذاتها, وفحصها لإظهار ما ينتسب إلى الأصل وما لا علاقة له به: هناك النسخ التي تجيء مباشرة بعد النماذج, والتي تقوم عليها, ضامنها في ذلك الشبة الموجود بينها وبين النماذج. ثم هناك السيمولاكر الذي يفترض اللاتشابه والخلل, وينطوي في جوهره على نوع من التنكر والخدع. هناك النسخ التي تقوم على أساس, وتلك التي تسقط في هاوية الاختلاف, والأفلاطونية هي محاولة انتصار النسخ الأيقونة على السيمولاكر. مع أفلاطون إذن تم في الميتافيزيقا اتخاذ موقف حاسم يخضع بمقتضاه الاختلاف لهيمنة الذاتي والشبيه, ويطرح الاختلاف من حيث إنه لا يمكن أن يكون موضع فكر, فيرمي به هو والسيمولاكر في هوة ساحقة. لذا فنحن نعجز, من هذا المنظور, عن تحديد إيجابي للسيمولاكر, عن حصره وسجنه في لفظ محدد أحادي المعني, سجنه داخل منطق الميتافيزيقا. ذلك أن السيمولاكر يفترض أبعادا كثيرة, يفترض أعماقا ومسافات يعجز الملاحظ عن إخضاعها وقهرها. وبما أنه لا يقهرها, فإن الأمر يشتبه عليه. إن كانت خاصية الأيقونة هي التشابه فإن «خاصية السيمولاكر هي الاختلاف». إن السيمولاكر ينطوي على ميل نحو الحمق واللاتحديد وخرق المعقول, وعلى سعي إلى أن يصبح آخر. إنه ينم عن تنكر للتشابه ومحو للتساوي وقضاء على التحديد. إنه يكون دوما أزيد أو أقل, ولا يكون قط مساويا. سيغدو القلب إذن وقوفا عند النسخ ذاتها, مثلما هو الحال في الأفلاطونية, ولكن, هذه المرة للإعلاء من السيمولاكر والاعتراف بحقه إلى جانب الأيقونة (إنه تمجيد لسيادة السيمولاكر والانعكاس) تمجيد للاختلاف.

الفيلسوف كرحالة

          والفيلسوف عند دولوز وجواتاري «رحالة» Nomade موطنه البيداء الواسعة, فقد سئم الأماكن المغلقة والمفاهيم المنحوتة عبر تاريخ الفلسفة الطويل, الفيلسوف هو ذلك الذي لا يكف عن الترحال الدائم نحو مناطق خصبة, يمكن للمفاهيم أن تزدهر فيها كما يبحث البدوي عن العشب والكلأ لحيواناته في المناطق الخصبة. والفيلسوف «رحالة» مسكون بشعور الغربة عن ذاته ولغته وموطنه.. تتجاذبه رحلات ثلاث: رحلة في الماضي اليوناني موطن الفلسفة الأول كما يرى المؤلفان. ورحلة الحاضر الغربي الرأسمالي الذي يمتلك زمام المبادرة الفلسفية. ورحلة غير محددة المعالم في المستقبل..رحلة لا تعرف اسمها ولا مكانها ولا شعبها لأن فعل التفلسف ليس حكراً على أحد وإنما هو ينجلي لمن له القدرة على الاختراق والمبادرة.

          وينبثق مفهوم الـ «جيو-فلسفي» Geo-philosophie في القسم الأول من الكتاب ليوضح به دولوز طبيعة الفكر. فالفكر ليس في أصله هوية، فهو لا يبحث التشابه ولا ينشد التطابق والانسجام، لا من حيث بنيته ولا من حيث مساره. فالفكر في وجوده الحي هو الاختلاف والانقلاب والمشاكسة, الفكر صيرورة وحركة مطردة لا يرتسم كجوهر ثابت ولا كحقيقة منسجمة, إنه حالة من الترحال.. حالة من الانبثاق.. حالة اصطدام وعنف «ترحال وتحليق, انتشال وهروب, هجرة وإيغال، قطائع وتهديدات, تسربات وانسرابات, ترسبات, عودة أخرى إلى التأرضن Reterritorialisation»  و«الجيو» هذه ( في جيوفلسفي) قد تعني الأرض، وقد تعني الجيولوجيا، وقد تعني الجغرافيا، وقد تعنيها كلها، وقد لا تعنيها كلها، لكن الأكيد ضمن هذه التغيرات هو أن مفهوم الفلسفة برمته صار أكثر رحابة، وأوسع مجالا، وأكثر قلقا. حتى يمكننا القول إنه قد تصير الفلسفة أي شيء إلا أن تكون فلسفة، ذلك أن الاطمئنان إلى يقين الأجوبة يحول الفلسفة إلى مجرد «تعاليم» أو «وصايا»، لذا فهي تسعى دائما إلى خلخلة المتفق عليه واستحداث مناطق غير آمنة داخل الكائن تتوالد فيها بذرة السؤال باستمرار.

إبداع المفاهيم

          ويفرق المؤلفان بين الميادين الثلاثة للمعرفة (الفلسفة-العلم - الفن). فالفلسفة تبحث عن المفهوم، والعلم يبحث عن الوظيفة، أما الفن فيبحث عن الإحساس. الفلسفة إبداع مفاهيم، والفن إبداع أحاسيس ومشاعر، لذا يمكن إدراج تاريخ الفلسفة ضمن تاريخ الفن. ثم يحدد دولوز العلاقة بين الميادين الثلاثة. فالمعرفة والفكر يوجدان في العالم على شكلين وبصيغتين: صيغة مفهومية أي مصاغة على شكل مفاهيم أو وظائف أو انفعالات، فلسفية أو علمية أو فنية، في حين أن هناك معرفة متسربة سيالة على شكل سديم يخترق الكون والعالم والإنسان.. سحب ضبابية من الخبرة والمعطيات والانفعالات تجوب العالم وتخترق الذوات..ضاجة بتوهجها..راغبة في عبور يكثفها.. وظهور يعيد توطينها.. لتنبثق على مسطح معرفي مليئة بالدلالة والمعنى. وفي مقابلها ثمة معارف وأفكار فقدت توهجها وكثافتها، وبددت طاقتها، وصارت آيلة للتبدد والعودة إلى السديم.

          ولذلك فمهمة الفكر والأشكال الثلاثة الكبرى للمعرفة: الفن، العلم، الفلسفة، هو دائماً مواجهة السديم، رسم مسطحات وتشكيلها فوق السديم. لكن الخلاف الأساسي بين العلم والفلسفة هو موقف كل منهما من السديم أو (الكاوس) Chaos. فالعلم يرى فيه اللانظام, ومن ثم تكتسب قوانين العلم كل أهميتها وشرعيتها وسط هذا اللانظام, في حين أن الفلسفة ترى في السديم مسارح مفتوحة على اللامتناهي بكل إغراءاته ومناطق الغموض فيه. أما الفن فهو يحاول كالفلسفة - الإمساك باللامتناهي, ولكن عبر المتناهي, فالفن تركيب (ليس بالمعنى التقني الآلي) الفنان يرسم, ينحت, يركب (يشكل) يكتب بأحاسيس ومشاعر. لكنه لا يحاكى شيئا فالفن ليس محاكاة, والعمل الفني لا يهدف إلى تحقيق تشابه أو مماثلة ما, بل يهدف إلى انتزاع الأحاسيس من الأفعال الإدراكية للموضوعات ومن أحوال الذات المدركة, هدفه استخراج كتل أحاسيس ومشاعر وانفعالات داخلية. والفعل المبدع للعمل الفني ليس هو التذكر وإنما نسج الأحاسيس والمشاعر, تماما كالمفاهيم الفلسفية, تتناغم, تتعانق, تتواجه, تنفتح لتخلق في النهاية كتلة من الأحاسيس والانفعالات. إننا في الفن لا نكون داخل العالم, بل نقيم معه, نصير العالم, فالمنظر الخلوي - كما يقول سيزان - يفكر من خلالي وأنا عقله الواعي. والفنان يصير العالم, يصير حيوانا أو نباتا, خلية أو زهرة.زهرة ترى بعيون الفنان. يقول الرسام الفرنسي أندريه مارشان A.marchanne «إن الفنان يجب أن ينفذ الكون فيه بدلاً من أن يسعى هو إلى النفاذ في الكون » والنصيحة الصينية القديمة تقول «إنك لكي ترسم شجرة بامبو عليك أن تنميها أولا بداخلك». في هذه الصيرورة والتحول تبرز مناطق التجاور والتقارب وعدم التمايز, كما الحال في المفاهيم الفلسفية, تلك المناطق التي يحياها الفن مثل الحياة والفلسفة. والفنان في كل هذا يستخدم كلمات اللغة, لكنه يحرفها وينحرف هاربا بها لتخليق صياغة تجعلها تمر في الإحساس, وتجعل اللغة تتلعثم .. ترتعش تصرخ أو حتى تغني, إنه الأسلوب.. النبرة.. لغة، الإحساسات.. اللغة الغريبة داخل اللغة تلك التي تستدعى شعبا للمجيء, فالفنان يطوع اللغة ويجعلها تهتز.. يضحكها.. يصدعها لانتزاع مكان فيها, بهدف استدعاء هذا الشعب الذي لايزال غائبا بعد. إن ما يعطي صفة الإبداع «للفن أو الفلسفة» هي هذه النقطة بالتحديد «تأسيس ارض وشعب مفقودين» فمن ينادي المستقبل ويستقدمه هم الأقليات، وكتاباتهم وإبداعهم, فالصيرورة في طبيعتها ضد الأغلبية. كان ارتو يقول «الكتابة من أجل الأميين, والكلام من أجل المصابين بالعجز, والتفكير من اجل فاقدي الرشد, وهذا لا يعنى المشابهة بل الصيرورة, فالمفكر ليس معتوها أو عاجزا أو أميا, وإنما يصير كل ذلك, يصير هنديا أحمر, فلسطينيا, أسود, امرأة، لكي ينتزع كلا منهم من احتضاره». إننا إذ نكتب فإننا نهب دائما كتابة لمن لا يملكونها, إلا أن هؤلاء بدورهم يهبون الكتابة صيرورة لن تكون من دونها. صيرورة دونها ستكون الكتابة محض تكرار في خدمة القوى القائمة, ولذلك فكل كتابة هي هبة لأقلية, وكل أقلية تقاوم هي صيرورة تنتشل ذاتها من الخضوع وتنتشل الأرض من التبدد وتنتشل الفكر من الخمول والتواطؤ والتورط. فكل إبداع يتم تركيبه, أو وظيفة يتم ابتكارها, أو كتلة أحاسيس يتم استخراجها, هي مناطق جديدة وشعوب جديدة, وكل شعوب جديدة هي فضاءات معرفية, وسطوح فنية وفلسفية, وانتشالات فكرية وترحالات فلسفية.

          لا تكمن أهمية كتاب «ما الفلسفة؟» في أنه استحدث تعريفاً جديداً للفلسفة ولصورة الفيلسوف فقط، فالكتاب نفسه مارس  مهمة يجب أن تضطلع بها الفلسفة. «الفلسفة إبداع للمفاهيم»، لذا مارس النص هذه المهمة بجدارة فأنتج العديد من المفاهيم التي اتسمت بالجدة، وأعاد إنتاج مفاهيم قديمة من خلال إكسابها وتحميلها دلالات ومعاني جديدة. هكذا تصبح الفلسفة - كالفن - آلة منتجة للمعاني والدلالات. وتصبح كل فلسفة تجربة ذاتية، فريدة لا تتكرر مهما تقارب الشكل الظاهري بين الفلسفات والحقائق. كما سيصبح الحديث عن صواب أو خطأ أي مفهوم لا معنى له، فكل مفهوم له حقيقته وأسلوبه في الوجود.

----------------------------------

          وقُلِ: الجزائرُ..!!! واصغِ إنْ ذُكِرَ اسمُها
                                        تجد الجبابرَ.. ساجدينَ ورُكَّعا!
          إن الجزائرَ في الوجود رسالةٌ
                                        الشعبُ حرّرها.. وربُّك َوَقّعا!
          إن الجزائرَ قطعةٌ قدسيّةٌ
                                        في الكون.. لحّنها الرصاصُ ووقّعا!
          وقصيدةٌ أزليّة، أبياتُها
                                        حمراءُ.. كان لها (نفمبرُ) مطلعا!
          نَظمتْ قوافيها الجماجمُ في الوغى
                                        وسقى النجيعُ رويَّها.. فتدفَّعا
          غنَّى بها حرُّ الضّمير، فأيقظتْ
                                        شعباً إلى التحرير شمّر مُسرِعا

مفدي زكرياء

 

 

 

جيل دولوز - فيليكس جواتاري