كارتير غوودريتش.. شخصيات كرتونية من ذهب

 كارتير غوودريتش.. شخصيات كرتونية من ذهب
        

          يجلس الفنان المبدع على طاولته، يضع فنجان قهوته جانبًا، ثم يمسك بقلم الرصاص، ويحركه على تلك الورقة البيضاء الفارغة، ليرسم خطوطًا متشابكة، متداخلة ومتقاطعة...يتوقف بين الحين والآخر، لينظر إلى نفسه في المرآة، ويحدق بملامح وجهه النحيف الهادئ، باحثًا عن معالم إحدى الشخصيات التي يود ابتكارها، ثم يبتسم ابتسامة الواثق من نفسه، وبعدها يكمل الرسم... يمر الوقت، فتنتشر مجموعة من المساحات الرمادية التي نسجتها كثافة الخطوط المتعانقة بنسبٍ متفاوتة، محددةً معالم الظل والنور، لتظهر بعدها شخصية خيالية فريدة، غريبة بمقاييسها ومتميزة بتعابيرها، لتؤكد من جديد، براعة هذا الرسام الساحر، في ابتكار الشخصيات الكرتونية، إنه كارتير غوودريتش Carter Goodrish، أحد أبرز مبتكري شخصيات أفلام الرسوم المتحركة الحديثة على مستوى العالم.

          يخبرني كارتير عن العلاقة المتينة، التي ربطت بينه وبين والده حينما كان صغيرًا، فيقول: «كان والدي مصدر إلهامي الأول لأصبح رسامًا، فكونه فنانًا تشكيليًا، حالفني الحظ أن أعيش الأجواء الفنية منذ صغري، فقد سمح لي والدي غالبًا بالبقاء إلى جانبه في محترفه الفني، ممدًا على الأرض، أرسم صور المعارك القديمة. وكونه كان أيضًا مؤرخًا، أعطى لنفسه دور الراوي، ليجمعنا أنا وإخواني وأختي، ويقرأ علينا القصص، ويخبرنا الكثير من المعلومات التاريخية. كان والدي أيضًا يشتري لنا الكتب القيمة، التي تزين صفحاتها رسوم جميلة لأهم الفنانين، أمثال نويل كونفرز وايث N.C. Wyeth وآرثر راكهام Arthur Rackham وغوستاف تانغرين Gustaf Tenggren. ومن كثرة إعجابي بهذه الرسوم الرائعة لتلك القصص الكلاسيكية، كنت أعيد رسمها بكل تفاصيلها الدقيقة، فتعلمت من هذه التجربة ودون قصد الكثير حول كيفية رسم جسم الإنسان وملابسه، وبالمناسبة، لم أكن أهتم حينها للقصص المصورة الأمريكية، التي كانت بالنسبة لي مضجرة هي وأبطالها الخارقون». طبعًا هذه كانت البداية، فكارتير لم يكن يعلم أن كل ما تدرب عليه في صغره، سيعطي ثماره في المستقبل، ولكن من المؤكد أن والده شعر بموهبته، فساهم في تنمية ثقافة ابنه البصرية، آملًا أن يصبح لهذا الصغير شأنٌ يومًا ما، وهذا ما حصل بالفعل.

          درس كارتير الرسم في كلية رود أيلاند للتصميم The Rhode Island School of Design وهذه الكلية تحمل اسم الولاية الأمريكية الأصغر مساحةً وتدعى رود آيلاند. وبعد تخرجه، اتجه إلى ولاية نيويورك New York، ومكث بها لسنوات، عمل خلالها كرسام لصالح عدد من المجلات ووكالات الإعلانات. وكان له أسلوب رسم مميز، نال إعجاب عدد من المسئولين في المجلات التي كانت تصدر في تلك المدينة، ما دعاهم إلى أن يطلبوا من كارتير أكثر من مرة، رسم غلاف المجلة، وهذا يعتبر إنجازًا لأي رسام. ومن أهم تلك المجلات، مجلة النيويوركر The New Yorker، حيث زينت رسوم كارتير أغلفتها مراتٍ عديدة. وقد نتساءل هنا: كيف أصبح هذا الرسام مصممًا لأهم شخصيات الكرتون في الأفلام السينمائية، ولم يكن يعمل في هذا المجال؟ وهنا يجيب كارتير قائلًا: «حينما اتصلت بي شركة دريم ووركس DreamWorks العام 1996 لتعرض علي العمل على فيلم أمير مصر The prince of Egypt، لم أكن أعلم حينها شيئًا عن صناعة الرسوم المتحركة، وأظن أن هذا الأمر لعب لصالحي، فقد كانت الشركة حينها تريد أن تبدأ إنتاجها بصناعة فيلم يختلف عن أفلام ديزني Disney الشهيرة، ولهذا السبب كانت تبحث عن فنانين لديهم أساليب مختلفة، يمكنها من خلالهم أن تقدم نوعًا مختلفًا من الإبداع». وهنا يضيف كارتير: «أشكر المدير الفني في ذاك الوقت، ريتشي شافيز Richie Chavez، الذي كان يتابع رسومي على صفحات المجلات، وكان معجبًا أيضًا بأسلوبي، فاتصل بي وعرض علي الالتحاق بنخبة من الفنانين الموهوبين القادمين من عدة بلدان مختلفة، للعمل على فيلم أمير مصر. وكنت حينها في مرحلة أحتاج فيها للتعرف على شيء جديد، بعدما أمضيت سنوات عديدة رسمت خلالها لصالح المجلات ووكالات الإعلان، فقبلت دعوة ريتشي، وفي الحقيقة بفضله دخلت إلى عالم صناعة السينما، وأنا مدينٌ له بذلك»... وهنا تفكرت بآخر جملة ذكرها لي الرسام كارتير الوفي بطريقة عفوية، نوه من خلالها بمن كان لهم الفضل على مسيرته الفنية، وهذا الأمر يدل على نبل هذا الفنان، ولا بد هنا أن أشكر الفنان الكبير هاني المصري على أخلاقه المهنية الرفيعة ودعمه، فله الفضل في تقديمي لصديقه الفنان كارتير غوودريتش، الذي تعرف عليه بدوره خلال العمل على فيلم أمير مصر The Prince of Egypt. ويخبرني كارتير عن هذه الصداقة فيقول: «من الذكريات الجميلة التي لا أنساها، أنني حينما بدأت العمل في مجال صناعة الرسوم المتحركة، سمحت لي الفرصة آنذاك أن أتعرف ولأول مرة، على عدد من الفنانين الأجانب، القادمين من خارج الولايات المتحدة الأمريكية، وكونت حينها صداقات عديدة، كان أبرزها ثلاثًا، الأولى مع فنان إسباني يدعى كارلوس غرانغل Carlos Grangel، والثانية مع فنان فرنسي يدعى نيكو مارليه Nico Marlet، والثالثة مع فنان مصري يدعى هاني المصري Hani El Masri. أشعر أنني محظوظ بصداقتهم القوية، وبالاحتفاظ بمجموعة من رسومهم الأصلية التي أهدوني إياها، فهم ليسوا فنانين هائلين فحسب، بل هم أيضًا أشخاص نبلاء».

          ابتكر كارتير غوودريتش الكثير من الشخصيات الكرتونية، التي نالت جوائز عديدة، لصالح كبرى شركات الرسوم المتحركة، منها استديوهات بيكسار Pixar، حيث شارك بتصميم شخصيات فيلم البحث عن نيمو Finding Nemo، وفيلم شركة الوحوش Monsters Inc، وصمم جميع شخصيات فيلم راتاتوي Ratatouille، ونال عنها العام 2007 جائزة آني من أسيفا هوليوود ASIFA-Hollywood ,Annie Award for Character Design، التي تعتبر من أهم الجوائز للمبدعين في مجال الرسوم المتحركة. كما شارك كارتير أيضًا في تصميم شخصيات آخر فيلم لشركة بيكسار، التي استحوذت عليها شركة ديزني العام 2006، ويدعى بريف Brave، المتوقع عرضه في صالات السينما خلال هذا الصيف. ويجدر الذكر هنا، أن مؤلفة قصة هذا الفيلم والتي شاركت بإخراجه براندا شابمين Brenda Chapman، كانت قد شاركت أيضًا في إخراج فيلم أمير مصر في استديوهات شركة دريم ووركس DreamWorks، حيث تعرفت خلال تلك الفترة على إبداع كارتير، كونه الرسام المسئول آنذاك عن تصميم جميع شخصيات الفيلم. وبالمناسبة، شكلت تلك التجربة بداية رحلته في مجال صناعة الأفلام كما ذكرت لكم آنفًا، قبل أن يكمل العمل مع الشركة نفسها، أي دريم ووركس، على أفلام أخرى، مثل شريك Shrek، سبيريت Spirit، سينباد Sinbad. وحاليًا يشارك في تصميم شخصيات فيلم كروود Crood الذي ينتهي العمل منه خلال فصل الربيع من العام المقبل 2013.

          كارتير عمل أيضًا مع استديوهات أخرى، كونه أصبح معروفًا في هذا المجال، وهذا ما جعل قصته مع دريم ووركس DreamWorks العام 1996، أي مشاركته في العمل على أول إنتاج لشركة حديثة التكوين، تتكرر مع استديوهات إيلومينيش Illumination العام 2007، حيث أسندت إليه هذه الشركة الجديدة في عالم إنتاج الرسوم المتحركة، مهمة تصميم جميع الشخصيات الكرتونية في أول فيلم تنتجه، أطلقت عليه اسم «الحقير أنا» Despicable Me وقد لاقى هذا الفيلم نجاحًا كبيرًا في العالم، فبالرغم من أن تكلفة إنتاجه لم تكن ضخمة مثل باقي أفلام الكرتون، وقد بلغت 69 مليون دولار، إلا أن أرباحه تخطت هذا الرقم بكثير لتصل إلى 543 مليون دولار، مما دفع بالشركة لإنتاج الجزء الثاني، والذي يصبح جاهزًا للعرض خلال العام 2013. ولقد تقصدت هنا بأن أذكر الأرقام، لأشدد على مسألة مهمة جدًا، وهي أن صناعة الرسوم المتحركة، لا توفر فقط فرصة لدعم الفنانين المتميزين وإظهار طاقاتهم، بل أيضًا فرصة استثمارية مربحة لمن يجيد صناعتها، آملين أن يأتي ذاك اليوم، الذي تزدهر فيه هذه الصناعة في الشرق الأوسط، لأني أثق أن لدينا الكثير من المواهب المميزة في هذا المجال.

          ابتكار الشخصيات لا يأتي بسهولة، بل هو عمل جاد وبحث متواصل. فمعنى كلمة ابتكار، يعني أن تبحث عن شيء جديد ليس له سابق، فحينما تبتكر شخصية كرتونية، يجب ألا تأخذ شخصية كرتونية أخرى وتعدل عليها، لتقدمها كشخصية جديدة، بل يجب أن تتعلم كيف تبتكر شخصية فريدة، تحاكي القصة التي تريد أن تضعها بها، وتتأقلم مع مكانها وزمانها، وهنا يحدثنا كارتير عن هذا الموضوع قائلًا: «في العادة قبل البدء بتصميم الشخصية، أبحث عبر الإنترنت عن بعض المصادر المساعدة، مثل نوعية الملابس، وربما صور للممثل الذي سيقوم بإضافة صوته على الشخصية، مع العلم أنني لا ألتقي الممثلين إطلاقًا حينما يطلب مني تصميم الشخصيات التي ستحمل أصواتهم. وقد أستعين أيضًا بكتبي الفنية، كمصادر إضافية. ولكن كل هذه المصادر تبقى ثانوية، لأن الأهم، هو تلك العلاقة مع أناسٍ حقيقيين، وهنا أراقب كثيرًا وجوه الناس وحركاتهم، وألجأ دائمًا إلى المرآة، وأقوم بتغيير ملامح وجهي، بما يتناسب ومعالم الشخصية التي أبحث عنها، وبعد تجارب عدة، أختار أهم الرسوم التي نفذتها، لأعرضها فيما بعد على مخرج الفيلم، لنناقشها معًا حينها ونرى إن كانت بحاجة إلى بعض التعديلات، وهذا الأمر ممتع لأن النقد البناء يفيد الفنان، ويجعله يطور نفسه». يبتكر كارتير يوميًا خمس شخصيات كرتونية جديدة تقريبًا، وحينما سألته عن علاقة المزاج بالرسم، إن كان يمكنه مثلًا أن يرسم حينما يكون منزعجًا، أجابني قائلًا «بالتأكيد هذه العلاقة موجودة، وأحيانًا قد ينتابني شعورٌ بالتعب أو الإرهاق، فلا أقوى على الرسم، ولكن حينما يكون الرسم هو عملك إلى جانب كونه هوايتك، يجب عليك التصرف بمهنية عالية، لتجبر نفسك على الإنتاج».

          «إن لم أكن رسامًا لكنت فنانًا تشكيليًا مثل والدي أو عازفًا لموسيقى الجاز Jazz» ولكن كارتير نجح في أن يكون رسامًا مميزًا، وليس فقط في مجال السينما والإعلان، بل أيضًا من خلال كتب الأطفال، فهو كاتب ورسام لسلسلة The Zorro and Mister Bud تنشرها دار سيمون وشاستر Simon and Schuster في ولاية نيويورك الأمريكية، وقد صدر منها أربعة كتب، ويعمل كارتير الآن على كتابين جديدين، ويتحدث عن هذه التجربة قائلًا: «أكثر ما أعجبني في هذه التجربة، أن علي أن ألعب الكثير من الأدوار منفردًا، فأنا المنتج، المخرج، المدير الفني، مصمم المشاهد والشخصيات، الملون، المسئول عن الإضاءة،... إن هذا الأمر يمتعني للغاية، وهذا هو الأهم».

          وفي الختام، يوجه كارتير نصيحة لجميع القراء بشكل عام، ولمحبي الرسم ومن يريدون أن ينجحوا في هذا المجال بشكل خاص، قائلًا: «قم بدراسة الرسوم التي تعجبك، ولكن حاول أيضًا أن تبحث عن مصدرها، وعن الفنان الذي رسمها، وبمن كان متأثرًا من الفنانين، وهم بدورهم بمن تأثروا. دع فرص العمل تأخذك إلى الأفضل، وكن سعيدًا دائمًا، واثقًا من نفسك ولا تحكم على رسومك بسرعة، بل أحيانًا قد تنتظر سنة لتقييم عملك، وفي النهاية، لا تنسَ بين الحين والآخر أن تتوقف، لتشم رائحة الزهور» ... ما يميز هذا الفنان أنه صادق مع نفسه، فهو يعتبر أن هناك شخصيات ابتكرها يندهش حينما يراها الآن كيف تم تحريكها في السابق لأنها كانت صعبة، ويعبر عن عدم رضاه عن مستواها الآن، مقارنة مع ما وصل إليه من خبرة، وهذا طبيعي لدى الفنانين الحقيقيين، الذين لا يقفون يومًا ويقولون لأنفسهم «وصلنا»، بل يثابرون ويسعون دائمًا للوصول نحو الأفضل، وهؤلاء هم من يحدثوا الفرق ويحملوا إضافة مميزة لأعمالهم، تاركين بصماتهم الفنية للأجيال القادمة.
-------------------------------
* فنان تشكيلي لبناني مقيم في باريس.

 

بلال بصل*