المنفى الأبيض سلافكو جروم

المنفى الأبيض

ترجمة: الدكتورة هناء عبدالفتاح

الظلام داكن هنا، الليل يحتل الغرفة بكاملها، في المرآة يضيء وجهي، كما لو كان ثمة كف أبيض ملتصق به، كلا!، إنها مجرد بقعة بيضاء عادية، عادية تماما، بقعة عادية.

لم أعان الكثير في الأسفل، هناك .. في الردهة الفسيحة، يرقد الأموات، لا يوجد أحد في البيت، الصمت يحل بالمكان، والسكون.

ومع ذلك ربما أكون متيقنا من مشكلة ما، ربما بمقدوري التحدث عنها بقدر ما .. في هدوء .. دون انفراج العيون، دون صياح!! إنهم ينامون ..

أحيانا ما ينامون قليلا في الردهة، ربما لا ينامون و .. ليس لهذا الأمر أهمية!.

يستيقظون، ينهضون، وهكذا مع تلك العيون الغريبة البارزة، يجلسون بلا حراك فوق موائدهم.

كان لا الأسفل ثمة رجل، اضطر بسبب الفقر المدقع أن يصوب مسدسه نحو طفليه فقتلهما، ثم قام بنفس الفعلة مع نفسه، كان هناك صبي لم يتعد عمره السادسة عشرة، قفز من النافذة، يرقد فوق المائدة ساكنا، قص حكايته، لم يتوقف عند أي كلمة، لم يصبه الانفعال عند أي فقرة من فقرات حكايته، كان صوته ينساب متساويا كالماء.

في التقرير الذي كتب عنه بالإضافة إلى لقبه ما يلي: تلميذ بالمدرسة الثانوية، قفز من فوق سطح بيته المكون من ثلاثة طوابق، قصة حب يائسة، كان الميت يحكي: كنت أحب زميلتي، سطرت أشعارا عنها، عثر أبي- يوما ما- على مذكراتي التي كنت أدونها في كراسة خاصة وقرأها، سخر مني واستولى عليها، بالأمس كان في بيتنا ضيوف، اتجه أبي إلى غرفته بعد العشاء، وعاد إلينا وكراستي في قبضة يده، قال متضاحكا: أيها السادة، انظروا! لدينا شاعر في البيت، لم أفكر على الإطلاق في أن ابني سيصبح شاعرا!!. رجوت أبي ألا يقرأ أشعاري، ولكنه بدا في القراءة، نهضت وقلت له إذا لم تتوقف فسأقفز من النافذة، سخر مني واستمر في القراءة، أما أنا فقد هرولت صاعدا إلى سطح البيت، هناك استندت على حافة النافذة، وبكيت، شعرت فجأة بوجود أبي، لم أعتقد أنه سيأتي، أردت فقط أن أخيفه، ولكني عندما شاهدته خجلت وألقيت بنفسي فوق قاعدة النافذة، ثم قفزت إلى أسفل.

أما جاره، وهو "خياط " ذو ثمانية عشر عاما، فقد خنق نفسه، أخبرنا: - منذ عامين مضيا، في "الكشك " الواقع أمام "الأتلنتيدا" اشتريت خمس سجائر، كانت البائعة سيدة كبيرة فى السن، ولكنها جميلة جمالا أخاذا، دائما ما كنت أحلم بأن امرأة كهذه يمكن أن تكون أمي، فأمي غسالة، تتعفن، تفوح رائحتها صابونا، وباستمرار تتنازع، منذ ذلك الوقت كنت دائما أهيم على وجهي بالقرب من محل السيدة الجميلة، يوما ما جاءوا إليها بالتبغ محملا في الصناديق، وشاهدت كيف أن السيدة تحمل بنفسها صندوقا بأكمله، اقتربت منها وساعدتها، نهضت بعد ذلك ونظرت إليها، أما هي فقبضت على يدي، وتركت لي بين راحتيها عملة معدنية، تركت هذه العملة تقع على الأرض وهربت، عدت فيما بعد أدراجي ثم أخبرتها "أيتها السيدة، لا ينبغي عليك أن تهرولي هنا وهناك مجهدة ومعك هذا الحمل الثقيل، إن يدي السيدة لضعيفتان، أنا الذي سأحمل هذه الصناديق "، انتظرت طويلا- فيما بعد- مجيء الصناديق، ولأنها لم تأت سريعا، جريت في اتجاه "الكشك "، فوقعت تحت عجلات عربة سيارة، نزفت مني الدماء، حملني الناس إلى داخل " الكشك "، عندما قاموا بتضميد جراحي، وأرادوا أخذي، تعلقت بقدمي السيدة وقبلتهما، نقلوني إلى المستشفى، انتظرت حتى تأتي السيدة إليّ لزيارتي، في يوم الأحد التالي زارتني بالفعل، جاءت بالأزهار والحلويات، تحولت هذه الزيارة إلى زيارة مهمة كبرى، جلست فوق السرير وحكت لي قصتها، وقالت إنها تزوجت من ضابط كبير في الجيش، ولكنها طلّقت منه، نشبت الحرب، كل ما تبقى هو سجادتان وستائر، كان الدخول إلى شقتها مثلما يدخل الإنسان مكانا بواسطة سلم، أما الحيطان فبقيت- كما هي- مغطاة بالورق المقصوص من المجلات المصورة. مارست- فيما بعد- بيع السجائر، لمست يدي، عندما عادت إلي عافيتي، ابتعت أنا أيضا السجائر في "الكشك " الذي كانت تملكه، وكنت أحمل بدلا عنها علب السجائر الكارتونية، قصت السيدة شعورها المسدلة، وشاءت أن تضع الأصباغ الملونة على وجهها. قال الناس إن السيدة الرقيقة تغيرت فأصبحت امرأة عجوزا مثيرة للسخرية والرثاء، دعتني للسكنى معها في شقتها، كان كل شيء رائعا في زمن لم يزد على العامين، في حينها تضاحك الناس وسخروا منا، أخرجوا ألسنتهم بين ظهرانينا، وصاحوا: العاشقان المضحكان! قالت السيدة مرة من المرات إنه يجب الانفصال، وإنني سأحيا طويلا، وإنها يوما ما سترغم على أن تتركني!.

كنت أشعر بالأسف من أنها تنفق علي، يوميا كنت أقف في صف من صفوف شغل الوظائف الخالية، كي أحصل على أي عمل، وكان الأمر على نفس المنوال في ذلك اليوم، في السادسة صباحا عدت إلى المدينة خاوي الوفاض، كانت السيدة جالسة بـ " الروب "، ناظرة في صمت تمسح الأفق بعينيها، ثم قالت: يا حبيبي، اقتربنا من الفراق. أعرف تماما أنها لم تكن تفكر بشيء يتسم بالسوء، كانت تنتظر منى فقط ردا على قولها يثير في نفسها الراحة والطمأنينة، لم أفعل شيئا غير أن دخلت غرفة النوم ببيتها، وعلقت نفسي بستائر النافذة مختنقا.

عديدة.. عديدة تلك القصص والحكايات التي سمعتها في "المنفى الأبيض " حيث يرقد فقط المنتحرون، وأولئك الذين يتلقطون من الشوارع، إن أكثر ما ترك في نفسي أثرا، ما تركته فتاة راقدة في صمتها، ففيها قدرة غير محتملة تنعكس في نفسها، لتعطش غير مفهوم لظلام الموت.

رقدت هذه الفتاة.. زرقاء بيضاء .. سطّرت عنها هذه السطور في دفتر الموتى: طالبة، بدون أسباب معروفة لدينا رمت نفسها في النهر، طوال ذلك اليوم شعرت بالعشق نحوها، وتوجست خيفة من أفكار شتات دارت في نفسي حولها، شاهدتها جالسة على حافة "الأريكة"، رأسها مائل في الكتاب الماثل أمام عينيها، يبدو وكأنها تستعد للامتحان، لكن ذلك الشعور بالرعب القاتل "بأنها قد لا تنجح في الامتحان "، دفعها إلى الماء، كلا! ليس ذلك الرعب وحده، بل إنه الاشمئزاز من كل تلك العذابات المنبثقة عن الامتحانات، هذا هو ما جعلها تشعر بالإثم، لذلك سقطت في الهاوية.

ربما يكون ذلك سببا لما قالته لها أمها يوما ما: ادرسي جيدا!. ولم تستطع فعل ذلك، ثم تذكرت ما قالته ثانية !!.

لا أوافق على الافتراض النابع من الفكرة القائلة بأنها قفزت للماء بسبب الحب، لايمكن لأحد ألا يحب فتاة مثلها، إنها فقط أحبت أولئك الذين احتضنوا خديها وصمتوا بجوارها صمتا أقرب إلى السكون.

عند حلول المساء أتيت بالأزهار، ورفعت حاجبيها إلى أعلى قليلا.

- ماذا يعني هذا الأمر؟. خرجت هذه الكلمات من شفتيها بصعوبة بالغة، لاحظت أنها تحب النوم كثيرا.

- أحبك، أتيت لك بأزهار.

أدارت رأسها.

من أنت- سألتني.

- إنسان مسكين، صديق.

- ألا تحبين الأزهار؟.

عندئذ قالت والرعشات مست جسدي بكامله: لماذا لم تقطع الحشائش أو حتى تقص شعرك؟.

تضيء في المرآة شمعة، وأنا أفكر مليا في مشاكلي، وحيد أنا، ليس عندي شخص أتحدث إليه.

في إحدى ليالي الشتاء، دفع الجليد بقوته "سائرا"، هائما على وجهه، ليوجهه نحو سقف بيتنا، هاهاها، لا بد أن اللافتة الموضوعة على الباب "المنفى الأبيض " قد خدعته! كان العمل كثيرا، والزمن متأخرا في الليل، كنت أقوم بتغسيل الموتى في القاعة، كان السكون مسيطرا على المكان، وكنت أثرثر مع موتاي، فجأة طرق شخص الباب، وقف عند حافته، المتسكع- ذلك الهائم على وجهه- بسترته الممزقة، ينحني أمامي احتراما لي:

- آسف!. آسف يا سيدي المحترم، لأنني جئت إلى بيتكم، ولم يدعني أحد، في الخارج صقيع كهذا، دفعني إليكم، ربما أستطيع رد جميلكم يوما ما، إنني قادر على القيام بفعل أي شيء، يا إلهي، إن كثيرا من البشر لديكم يموتون، من المؤكد أنكم أصبتم بمرض عضال.

أفهمته أنه لا يوجد هنا مأوى، بل مشرحة كبيرة، ينقل إليها جميع المنتحرين، وبشر أصيبوا في "حوادث " متباينة، أو آخرون هم ضحايا مدينتنا.

- آسف يا سيدي، آسف- انحنى أكثر فأكثر معتذرا!- ولكن أبمقدوري يا سيدي مساعدتك؟! أيمكن لي أن أبقى ولو لفترة معينة تحت سقف بيت يحميني؟ لا تلق بأحكامك على شخص مثلي من هيئة ملابسي، لقد أصابني أخيرا الفقر المدقع، ولكنني "فني عربات " ماهر، يمكن لك يا سيدي كذلك أن تعطيني قلما في يدي لأكتب ما تريده، فلتسمح لي بالبقاء يا سيدي حفارا للقبور!!.

مال نحوي، وانثنى وانحنى بكل ما أوتي من قوة وبمختلف الصور المتعارف عليها والمجهولة،. ماذا أفعل - استطردت قائلا- لقد رقت لي، ولكن كيف أجد لك عملا هنا أيها المتسكع الشريد؟!. طلبت منه أن يغادر البيت، فلتذهب من حيث أتيت!.

نظر "الهائم على وجهه " إلى زجاجة الكحول غير المقطر، الذي يستخدم لتنظيف الموتى، فصاح قائلا: سيدي؟!.

شعرت بالأسف نحوه، وأعطيته الزجاجة، احتسى رشفة كبيرة منها، ثم دفعته إلى الباب بعد ذلك.

بعد لحظات زحف من جديد بقدميه فوق الأرض، بدا وجهه عند الباب ضحوكا خدوما، وفي يده يحمل مقعدا دائريا: -

عثرت عليه في الممر، واعتقدت أنه من الأفضل أن أحمله إليك، يا سيدي رئيس القسم، فلتقف على المقعد، كي لا ترهق نفسك، عندما تقوم بحلق ذقن هذا الرجل الراقد.

نظرت إليه نظرة ملؤها الاحتقار المتعالي، مع أنه راقني كثيرا في أعمق أعماق نفسى، وقف المتسكع في مكانه بلا يقين، وعندما لاحظ أنني أبحث عن شيء، أعطاني بسرعة "المنشفة"، زاد غضبي.

- فلتذهب إلى الجحيم، إنك تعرف تماما أنني لست في حاجة إليك! لا أحد يأتي إلينا- هنا- إلا عن طريق القنوات المائية، اقفز إلى الماء وستكون ضيفا علينا!.

نظر إلي نظرة متسمة بالغباء، اتسعت حدقتا عينيه مصوبا نحوي نظرته الثاقبة، ثم تراجع بظهره إلى الخلف و..

كانت الساعة الخامسة صباحا، دق جرس الباب، حملت عربة الإسعاف شخصا غرق في النهر، كان هو نفسه ضيف الليل، المتشرد المتسكع الهائم على وجهه، ذا النظرة الثاقبة الخدومة!.

لم أشعر بالمعاناة من هذا الأمر، لكن شيئا ما أدركته: هذا أم ذاك، بمقدوري قوله!! منذ حلول الليل، أجلس يلفني الظلام، وأفكر.

أحبهم، أولئك الموجودين في الأسفل!، نحن أصدقاء.

ألمس حدقات أعينهم، أدفىء بكفي خدودهم، يأتون إلينا عبر القنوات، نحن أصدقاء، أصدقاء.

 

سلافكو جروم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات