قراءة نقدية في.. "أبوعجاج طال عمرك" نذير جعفر

قراءة نقدية في.. "أبوعجاج طال عمرك"

مجموعة قصصية لطالب الرفاعي

تتمحور المجموعة القصصية الأولى للكاتب طالب الرفاعي حول المشكلات الجديدة التي طرأت على المجتمع الكويتي إثر التبدل النوعي الذي أحدثه النفط في مجمل العلاقات وأنماط السلوك الإنساني. وهو يحاول أن يصوغ ميول الواقع الموضوعي الحية والخفية صياغة فنية عبر استبطانه لهذه التغيرات ونتائجها على مصائر أبطاله.

تشكل موضوعات الاغتراب والتشيؤ، والعمالة الوافدة، الهواجس الرئيسية التي ينشغل بها الكاتب، وبؤرة العمل القصصي لديه، وغايته، ومرماه الحيوي. وسنتوقف عند كل منها على حدة عسى أن نكوّن صورة متكاملة عن المناخات المتعددة لهذه المجموعة التي تمثل في اعتقادنا إحدى العلامات المهمة في مسار القصة القصيرة وتطورها في الكويت شكلا ومحتوى.

تندرج تحت هاجس الاغتراب والتشيؤ ثلاث قصص هي: "شاشة" و"أشياء صغيرة" و"مرساة". وتمثل هذه العناوين الثلاثة استباقا سرديا ينفتح على النص، ويحيل القارئ ويوجهه إلى الدلالات الفكرية والنفسية التي تحملها هذه القصص على مستوى القول. فالحياة في عصر التكنولوجيا ومجتمع الرفاه، والخدمات والاستهلاك تحولت إلى مجرد "شاشة"، شاشة " كمبيوتر "، شاشة " تلفاز"، شاشة " فيديو"، شاشة تختصر المسافات البعيدة بين الأمكنة لكنها تباعد في الوقت نفسه بين الإنسان وذاته من جهة، وبين الإنسان والآخرين من جهة ثانية، وبذلك تموت الروح. وتتشيأ أمام الزحف العشوائي للآلة، ويعيش الجسد في عزلته وغربته الموحشة: "بارد.. مستو تماما.. خال من أي نقوش أو حياة هو السقف وكذلك أنا". (ص 19) إنها الحاجة الملحة إلى حرارة الأنفاس الإنسانية التي لا تعوضها بأي حال من الأحوال كل مظاهر الترف والتكنولوجيا التي تغرق البطلة في جحيمها وتتلظى بنارها.

وتتحول الأشياء الصغيرة إلى حاجز نفسي بين الحبيبين/ الزوجين، إنها "أشياء صغيرة" حقا لكنها فيظل الرتابة اليومية، والعادة، والتكرار، وضغوط العمل، تتفاقم تدريجيا وتتحول إلى جدار من الصمت يفصل بين المتحابين، ويعمق العزلة بينهما، وليست الطباع المختلفة وحدها التي تفعل فعلها هنا، وإنما ذلك الهلاك الداخلي واليومي الذي يكمن خلفها، ويحول كل شيء في حياة الزوجين إلى دراما خفية تمتص طاقتهما على الحب والتفاعل والانسجام، فيعيش كل منهما في غربة عن الآخر وعن نفسه أيضا مفتقرا إلى الحنان والتفاهم والسلام الداخلي.

وهنا تطرح القصة سؤالها المهم: هل بالحب وحده يحيا الإنسان؟. وتأتي خاتمة القصة المفاجئة والمتوترة لتهز ركود الحياة وتجيب بالنفي!! فترمي حجارتها الثقيلة والموجعة في المياه الساكنة، ويكون الانفصال هو الخيار الوحيد: "بعد مرور ثلاث سنوات، فوجئ معظم الأصدقاء عند سماعهم خبر الطلاق ". (ص 11).

أما قصة "مرساة" فهي المحطة الأخيرة في حياة رجل أتعبه الانتظار وتبكيت الضمير، بعد أن اكتشف أن نرجسيته كانت السبب في طلاق زوجته، ولم يبق له سوى أن يحط الرحال ويرسو على شاطئ النهاية ثمنا لخطئه، وعقابا يطهر به روحه المعذبة بعد أن خسر حلمه الجميل في حياة عائلية مستقرة وهادئة، ويئس من عودة الحبيبة/ الزوجة إليه طوال ثماني عشرة سنة من الانتظار المر. إنها صورة أخرى من صور الاغتراب والإخفاق والتفكك في مجتمع مفتوح على كل الاحتمالات بفعل التغييرات المفاجئة التي تجتاح كيانه.

إن الصراع في القصص الثلاث صراع داخلي يعتمل في أعماق الشخصية حتى يبلغ ذروته، ثم يكشف عن نفسه في المواقف السلوكية المأزومة لأبطال القصص (حيرة، تردد، تبخيس للذات، نوازع عدوانية..) إنه الصراع بين الفطرة والتكنولوجيا، بين القيم الراسخة في العقل الباطن والقيم التي تفرضها شروط الحياة الجديدة، بين فضاء الحلم وإيقاع الواقع المتسارع والمتوتر.

وقد استخدم الكاتب أكثر من تقنية فنية للتعبير عن هذا الصراع وتصوير مظاهر الأزمة الداخلية عند أبطاله. فالقصص الثلاث تبدأ من نقطة حاسمة متوترة في الحدث بجمل أشبه بالإضاءة المفاجئة لحركة كانت مستمرة من قبل، ويأتي البياض العازل، والحذف، والإيحاء الذي يشي به سياق السرد ليعمق هذا التوتر ويلفت انتباه المتلقي، ويثير فضوله: "... أخيرا تعب هذا القلب " (ص80)."... يا عمري... " (ص5). "تسرع بخطواتها. تدخل سيارتها. تسحب الباب بضيق خلفها. تنقطع في الحال ضجة الشارع.. " (ص18). كما تتلاحق الجمل الفعلية القصيرة التي تسرع إيقاع السرد ووتيرته، وتولد فيه حركة نفسية متواترة ومشحونة بطاقة انفعالية كثيفة: "هجرني نومي، عششت بي غصتي، وأقنعت نفسي، قلت: ستعود. قلت: مستحيل ينتهي كل شيء بيننا" (ص 83).

وتتحول كلمة: "كالعادة" المأهولة وفق سياقها بمقاصد المؤلف البعيدة إلى لازمة التكرار باستمرار في قصة "أشياء صغيرة" لتخلق بذلك فاعلية تعبيرية على المستوى اللغوي محايثة لحالة الرتابة اليومية التي تختزل الحياة إلى مجرد واجبات يغلفها الملل والسأم: "تقبله. يرد قبلتها، بينما يرتسم على وجهه بقية انزعاج كعادته لحظة يصل من عمله "، "كعادته يأكل صامتا، وكعادتها تراقبه " (ص 6)، "... يا الله.. كعادته أبدا.. لم ينفض الستارة من الماء العالق بها" (ص 8).

ويأتي استبدال الأسماء الشخصية بالرموز في قصة "شاشة"لتعميق فكرة التشيؤ والاغتراب، فنرى الآنسة (ت)، والطفلة (س)، شأنهما في ذلك شأن أي رقم آخر على شاشة الكمبيوتر.

كما نجد تنويعا في أشكال الزمان يعكس رغبة الكاتب في تمثل شتى تقنيات السرد، وتوظيف الأمثل منها في بناء حبكته. ففي " شاشة" و" أشياء صغيرة" يتوازى زمن الكتابة مع زمن الحدث حيث يتوالى الحدث بتوالي الجمل على الورق في نسق زمني صاعد من البداية إلى النهاية. ويبدو الراوي غير المباشر (ضمير الغائب) حياديا مما يضفي صفة (الموضوعية) على تنامي الحدث وتطوره. أما في قصة "مرساة" التي تمثل تجربة ذاتية للراوي فإن الحدث يروى بشكل مباشر على لسان البطل (ضمير المتكلم) الذي يصنع الحدث، ويتفاعل معه، ويلونه برؤاه وانفعالاته عبر نسق زمني هابط يبدأ من نهاية القصة ثم يتدرج بالنزول حتى يصل إلى البداية، وعدم التوازي هنا بين زمن الكتابة وزمن القصة يخلق شيئا من التشويق والتوتر الدرامي في بناء الحبكة القصصية.

ويأتي الحوار المكثف والمتوتر ليلعب دوره في الكشف عن الأزمة وأبعاد الصراع، والدوافع الغامضة، عبر توظيف الكلمة في المشهد الحواري بشكل دقيق بوصفها الرد الحي لكلمة الآخر الذي تستثير جوابه وتتوقعه، وتتموضع باتجاهه، مما يمنحها طاقة إيحائية ودلالة كبيرة في تصعيد الحدث والتأثير على المتلقي:

"- لماذا لا تتكلم؟! يكف عن الأكل. يرفع بصره إليها و: - سؤال كل يوم.. " (ص 7).

ويتسربل الخطاب القصصي بين حين وآخر بغلائل شعرية لا تعكس نزعة شكلية أو رغبة في التزويق اللفظي بقدر ما تؤدي وظيفتها في مخاطبة الوجدان، وفي الكشف عن النوازع الرومانسية الدفينة أمام طغيان الآلة وجبروتها:

"تسبح غرفة نومها بموسيقى عذبة"، "يحتضنها فتتبعثر لآلئ وياسمين ورغبة" (ص 5).

ولا تخفى على القارئ المتابع علاقة التناص التي تتحقق بين مشهد من قصة "مرساة" وآخر قصيدة كتبها الشاعر الراحل أمل دنقل: "تراءى لي كل ما في الغرفة أبيض: ضوء النهار، الجدران، الستائر، سماعة الطبيب، شاشة التلفزيون، كيس المغذي، رداء الممرضة، الأضواء اللاصقة، أغطية السرير، صوت الدكتور وابتسامته، واستدارة ساعته " (ص 80).

إن وحدة المناخ في القصص الثلاث تجعل منها متتالية قصصية قوامها الإحساس المتعاظم بالاغتراب والتشيؤ في ظل علاقات اجتماعية جديدة تتقدم فيها جوانب الحياة المادية على حساب تراجع القيم الروحية والوجدانية. وبذلك يرصد الكاتب جانبا مهما من جوانب التأزم في حياة أبناء الخليج تحت ضغوط التغيير المفاجئ السريع الذي أحدثه النفط في البنية الاقتصادية والاجتماعية.

العمالة الوافدة

تعد مشكلة العمالة الأجنبية في الخليج من المشكلات الضاغطة التي تترك آثارها على مجمل أوجه النشاط الإنساني وتوجهاته. وإذا كان الكاتب الإماراتي عبدالحميد أحمد قد تناول هذه المشكلة في: "السباحة في عيني خليج يتوحش " (1982)، و"البيدار" (1987)، كما تناولها كل من ليلى العثمان ووليد الرجيب في بعض قصصهما، فإن طالب الرفاعي هو الآخر يشاطرهما في حراثة هذا الحقل البكر منذ عام (1978) في قصته: "بيت العزاب " التي أتبعها بسبع قصص أخرى تشكل نصف مجموعته تقريبا وهي: " الإنسان لا يموت "، "إجازة " "أبوعجاج طال عمرك "، "الموت مجانا"، "ليلة أخرى"، "مجبور". ولعل اختيار قصة "أبوعجاج طال عمرك " عنوانا لهذه المجموعة لم يكن بمحض المصادفة، بل هو تأكيد على خصوصية البيئة المحلية من ناحية، وعلى جسامة هذه المشكلة التي تستأثر دون سواها بالجانب الأكبر من اهتمام الكاتب من ناحية ثانية.

تطرح هذه القصص مشاكل العمالة الوافدة على عدة مستويات: مستوى المعاناة الفردية، ومستوى القوانين التي تنظم وجود هذه العمالة، ومستوى الانعكاسات السلبية التي تخلفها على المجتمع ككل.

ففي المستوى الأول تكشف القصص عن الصلات السببية بين المحيط الاجتماعي للإنسان ومصيره، فتصور معاناة الفرد في الغربة، وآثارها على سلوكه وحياته، والغربة هنا تتعدى الحيز المكاني إلى الحيز الوجودي حيث المغترب يعيش حالة نفي مستمرة، فهو عاجز عن التكيف مع المجتمع الجديد من جهة، وعاجز عن رفضه من جهة ثانية. إنه مهمش تماما، ومعزول عن محيطه الذي يمنحه الاستقرار والأمان.وهو مع ذلك معرض لأشكال متعددة من القهر والابتزاز.

وفي المستوى الثاني (الحقوقي) تطرح القصص بجرأة مشكلة المواطنة، ومفهوم الوطن، وحقوق الإنسان، والقوانين التي تحمي العامل، وهي لا تخلو في هذا الجانب من المباشرة الخطابية وضغط الخطاب الأيديولوجي ومحاكاته على مستوى الشعارات المطروحة، ولاسيما أن معظمها قد كتب في الفترة التي بلغ فيها المدّ القومي واليساري أوجه.

أما في المستوى الثالث فإن القصص تسلط الضوء على مشكلة الاتجار بالعمالة الوافدة، ونمو شريحة طفيلية، نفعية، لا يهمها سوى الربح، وما تتركه هذه الشريحة من آثار سلبية على مجمل النشاط، الاقتصادي والاجتماعي. وبذلك تغوص هذه القصص وراء زبد الواقع ومظاهره الخادعة لتلتقط تياراته العميقة، فتصور لنا برؤية نافذة شرائح من المجتمع، ونماذج من الناس المغمورين، النابضين بالحياة، في تفردهم الإنساني الخاص، ضمن شروط قاسية تحاول أن تستلب حريتهم وكيانهم وإنسانيتهم. لكنهم مع ذلك يقاومون، وينتصبون أمامنا بقاماتهم العالية بكل قوة، فتنطبع صورهم في الوجدان والذاكرة ولا تغادرهما أبدا.

فالفراش "أبوشاكر" الذي يستغنى عن خدماته بعد ثلاثة وعشرين عاما من العمل المتواصل والمخلص، يحس بالمرارة والألم لكنه لا يهزم، ويردد أمام السائق أبي سليم الذي ينتظره المصير نفسه: "الإنسان لا يموت ". والعامل "مكني " يكابد مرارة البعد عن أولاده طوال خمس سنوات دون أن يحظى بإجازة واحدة، وحتى عندما يرفض طلب إجازته ويحس بانكسار عميق، يعود إلى متابعة عمله لأنه مصدر عيشه الوحيد، ولا خيار آخر أمامه سوى تحمل المسئولية بشجاعة. و"عبدالزهري " يرى بعينيه كيف تلتهم النار غرفته الخشبية، وجسد أخيه النائم، في بلاد ليست بلاده، وأرض ليست أرضه، دون أن يتمكن من فعل أي شيء. وأبوإسماعيل يموت فوق معوله تحت سياط الشمس اللاهبة رافضا الاستجداء والتذلل إلى رب العمل. ثم الطفل "وليد" بائع الجرائد الذي كبر قبل الأوان ليتحمل مسئولية الأسرة مع أبيه بعيدا عن مدرسته وملاعب طفولته. ويبلغ الاستلاب أقصاه في قصة: "ليلة أخرى"حيث العمل من السادسة صباحا حتى السابعة مساء يمتص كل قدرات البطل إلى الحد الذي يحرمه من أي متعة إنسانية مع شريكة حياته.

إنها قصص العمال الوافدين الذين جاءوا من كل مكان بحثا عن "الرفاه الموعود" ولكن ما أن تطأ أقدامهم أرض الواقع القاسي حتى يتبخر ذلك الحلم اليوتوبي ويتلاشى. وحتى هؤلاء الذين تواتيهم فرص النجاح ويحققون الثراء المادي سرعان ما يكتشفون أنهم خسروا أنفسهم، وذاكرتهم، وربما أوطانهم.

في الجانب الآخر من الصورة نجد أنماط السلوك الوصولي والنفعي، الذي لا يهمه سوى الربح ولو كان على حساب الاتجار بأرواح الآخرين.. فأبوعجاج لا يتورع عن بيع قوة العمال إلى الشركات بأثمان بخسة متسترا وراء كبر سنه، ومستغلا بعض الثغرات في قوانين العمالة التي تسمح له بذلك. والمهندس (المتعهد) لا يسأل عن مصير العامل الذي سقط من الدور الخامس قدر سؤاله عن أجرته اليومية والمبلغ الذي سيقبضه عنه من التأمينات!! إنه الصراع بين قيم الحق والعدالة وقيم الأنانية والجشع. والكاتب في رصده وتصويره لهذه الحالات والظواهر إنما يحاول أن يقدم صورة حية عن أثر التحولات الاقتصادية في سلوك الناس وميولهم واتجاهاتهم.

على المستوى الفني نجد تنويعا كبيرا في أساليب السرد، وبناء الحبكة الدرامية، واستخدام مختلف التقنيات الفنية، ابتداء من تحطيم وحدتي الزمان والمكان عبر العناوين الداخلية، ومرورا بوسائل التوزيع الخطي والطباعي، وانتهاء بالاستخدام المرن لضمائر السرد، وأشكال الزمان، وتوظيف الوصف في التفسير والترميز.

ففي قصص: "الإنسان لا يموت " و"إجازة" و"الموت مجانا" و"ليلة أخرى" و"مجبور" ينهض السرد من موقع الراوي الذي يتكئ على واعية الشخصية المركزية عبر ضمير المخاطب في محاولة لرصد التداعيات الحرة للبطل التي تتداخل فيها الأزمنة المتخيلة أو المتذكرة مع الأحداث المعيشة في نسق زمني متقطع في سيره من الحاضر إلى الماضي، ومن الماضي إلى المستقبل: "مازالت تتذكرها ليلتك الأولى هنا في الكويت " (ص 12). "يوم باشرت عملك أرسلوك إلى هذه المدرسة، ولم تزل تجلس في الغرفة ذاتها. ثلاث وعشرون سنة انقضت وأنت تجلس فيها" (ص 13).

ويتجاوز الوصف وظيفته في تحديد المكان ومظاهر الأشياء إلى إلقاء ظلال أخرى تتضافر مع بقية العناصر للكشف عن علاقة الشخصية بمحيطها ومدى التأثير المتبادل بين الإنسان والأشياء: "طول يومك وأنت متهالك على كرسيك، تقابلهما: الخزانة التي بهت لونها، وحوض الغسيل الأبيض، وخلفهما الحائط الأصفر" (ص 14).

فالخزانة الباهتة، والحوض الأبيض، والحائط الأصفر، ليست سوى ظلال لشخصية الفراش أبي شاكر الذي بات يواجه مصيره المؤلم بعد عمر طويل قضاه في العمل المتواصل دون أي ضمان لشيخوخته المهددة بالموت.

أما ضبابية المكان في معظم القصص، وعدم العناية بتفاصيله، فربما تعود إلى تلك العلاقة الواهية التي ترتبط من خلالها الشخصيات بعوالم غريبة وطارئة على ذاكرتها، ولا تمثل لها في النهاية سوى محطة من محطات الاغتراب والنفي الجديد.

وإذا كانت هذه القصص تقوم غالبا على حبكة تقليدية قوامها تعلق السابق باللاحق بشكل مطرد، فإن قصتي: "أبو عجاج طال عمرك " و"تحت الشمس " تتحطم فيهما الحبكة التقليدية ببعديها الزماني والمكاني عبر الترقيم الداخلي للمقاطع والعناوين الفرعية التي تشكل وحدات ارتكاز في تنامي الحدث من جهة، وفي إضاءة دواخل الشخصيات والكشف عن الصراع بزواياه المتعددة من جهة ثانية.

فالعناوين الأربعة في قصة: "أبوعجاج طال عمرك " وهي: "فتحت الإشارة" "منتشيا يتحرك "، "رويدا أكمل طريقه "، "بسلامة أبي عجاج " تعطي لكل مقطع محتواه ودلالته الخاصة واستقلاليته الفنية، كما أنها تشكل بمجموعها وحدة متكاملة توضح تطور الحدث، وتكشف عن سلوك أبي عجاج ودوافعه الخفية في مواقف متباينة، وتخلق فاعلية تعبيرية موازية للفكرة التي تحاول القصة إيصالها إلى القارئ.

وعلى المنوال نفسه تتوزع قصة "تحت الشمس " ولكن العناوين الفرعية هذه تشكل وحدات بنائية داخل نسيج القصة دون أن تستقل بذاتها، وتقوم بوظيفة القطع المكاني والزماني، وتسريع وتيرة الحدث عبر التلخيص المكثف والانتقال المفاجئ من مشهد إلى آخر.

إن التناغم في هذه القصص بين الشكل والمحتوى، والبعد عن النزعات العدمية، وعن التصوير الذهني والفانتازي للواقع، يعطي لهذه التجربة في تناول مشكلات العمالة الوافدة مكانتها المهمة في تعميق الاتجاه الواقعي للقصة القصيرة في الكويت.

إن التنوع الكبير في التقنيات الفنية، والحرص على البعد الدرامي، والتكثيف الذي لا يخل بمحتوى ودلالة النص، وسبر أغوار الواقع عبر رؤية نفاذة وفنية عالية، والبعد عن المباشرة الفجة والإقحام الأيديولوجي، كل ذلك يجعل من هذه المجموعة القصصية علامة ناصعة في مسار القصة القصيرة في الكويت.

 

نذير جعفر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف المجموعة القصصية