غجرية الوادي ذياب بن صخر العامري

غجرية الوادي

كنت في السادسة أو السابعة من العمر عندما استيقظت بلدتنا العمانية "حيل العوامر" في صباح يوم بارد من أيام الشتاء على جلبة صادرة من جانب الوادي، وهكذا لم نضع وقتنا في اللعب كعادتنا في أرجاء البساتين المحيطة بدارنا المبنية من الطين، بل هرعت مع صبية آخرين متتبعين الصوت ومتقفين السواقي المائية المنسابة التي قادتنا إلى الجانب الشرقي المطل على الوادي، وهناك بدا "وادي الحيل " أكثر وداعة من ذي قبل حيث كلل الغمام سماءه الرحبة مما أكسبه قدرا كبيرا من السكينة والدعة، ومع ذلك ما أن اقتربنا من السدرة الكبيرة المنتصبة في وسط الوادي التي كانت أحد مراتع لهونا الطفولي البريء الرائع حتى اكتشفنا مصدر تلك الضوضاء التي اخترقت بساتين النخيل والمانجو والجوافة والموز والليمون والعنب والتين، ووصل إلى أسماعنا بعد أن مزق هجوع البلدة الحانية الحالمة، إذ إن الغجر قد حلوا بالبلدة وقرروا نصب خيامهم الصغيرة في ظل السدرة الوارفة الكبيرة.. لا بد أنهم قد أزمعوا الرحيل والانتقال من مكان قصي ليلة البارحة وقد قضوا الليل كله على ظهور حميرهم ميممين وجوههم شطر بقعة أخرى أكثر كلأ ونضارة وأمنا، وقد وصلوا الآن بعدما أيقظوا البلدة بضوضائهم:

أجمعوا أمرهم بليل فلما

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

اقتربنا أكثر من السدرة وجلسنا القرفصاء نرقب باهتمام حركات هؤلاء القوم الذين سمعنا عنهم الكثير من أهل البلدة الذين يترقبون مقدمهم منذ سنوات، إذ إن آخر زيارة لهم للوادي كانت قبل خمس أو ست سنوات، ولذا لم يكن أحد منا نحن الصبية يحفظ شيئا عن تلك الزيارة، ولكن أهل البلدة كانوا يروون لنا الأقاصيص عنهم وينسجون حكايات مشوقة عن أسلوب حياتهم المختلف والمتمثل في تنقلهم الدءوب وعدم استقرارهم وسبل كسب رزقهم، مما أثرى لدينا الخيال وجعل صورا متلاحقة عديدة ومختلفة تمور وتدور وتتكون وتتلون وتتشكل في أذهاننا المتعطشة لمثل هذه الحكايات، كانوا يقولون لنا: إن الغجر يأتون إلى البلدة فيقيمون بها يومين أو ثلاثة ثم لا يلبثون إلا مبارحتها والانتقال عنها إلى بقعة أخرى.. وكنا نطلق عنان أخيلتنا العفوية الصافية لتعتمل فيها ضروب شتى من المقارنة والشبه بين حلهم المدهش وترحالهم السريع، فنربط ذلك بإقامة عصافير الصيف القصيرة ورحيلها المفاجئ عند انقضاء الموسم، كما كانوا يخبروننا بأن الغجر مع أنهم يقيمون فترة قصيرة في المكان الواحد إلا أنهم يقومون بأعمال عديدة ومتنوعة من سن للسكاكين والمقاص وأدوات الفلاحة والحراثة المستعملة إلى صنع الجديد منها، وأنهم يقومون بحجامة أهل البلدة بإخراج الدماء الفاسدة من رءوسهم بقصد كسبهم مزيدا من الصحة والنشاط، وانطلاقا من أن آخر العلاج الكي فإن الغجر خبيرون بكي المرضى بمياسم حديدية بعد وضعها في النار، وأنهم عارفون أيضا بختانة الأطفال، كما أنهم يتنبؤون بما سيئول إليه حال الناس خيرا كان ذلك أم شرا، وذلك من خلال قراءة راحات أياديهم، بل إن لديهم مساحيق سحرية لتنشيط إنجاب الأطفال وخاصة الذكور منهم، كل هذا جعلنا نتطلع إلى هؤلاء القوم كأنما هم آتون من كوكب آخر يتعدى الجانب الآخر من وادينا الذي كان مبلغ همنا ومنتهى مدانا المسافي المرئي، أما الآن والغجر يحتلون الشجرة التي كنا نلعب تحتها فقد أصبح وجودهم حقيقة لا خيالا، إنهم الآن ما زالوا في معمعة حل أمتعتهم وإنزالها من على ظهور الحمير التي أشبعت الوادي نهيقا فيما أخذت دجاجاتهم تقرقر وهي في أقفاصها التي تم وضعها للتو على الأرض. أسرع أحد الغجر لالتقاط ثلاث من أثافي الوادي الكبيرة، وبعد أن رسم مثلثا في ذهنه وضع كل واحدة في زاوية من زوايا المثلث الوهمي، ثم أشعل النار بينها، وما أن بدأ الدخان في التصاعد حتى بدأ في إخراج الدجاجة تلو الأخرى من الأقفاص الخمسة، وفي كل مرة يخرج فيها دجاجة كان يمسك بها جيدا ويطوفها حول الموقد لثلاث مرات فكأنه كان يرسم بها دوائر وهمية في الهواء ثم يخلي سبيلها فتنطلق الدجاجات تعدو تحت الشجرة وحولها بعد أن كانت سجينة الأقفاص طيلة الرحلة، والغريب أن الدجاجات لم تذهب أبعد من مركز المخيم، فالغجر يؤمنون بأن ملامسة دخان الموقد للدجاج له تأثير فعلي عليها، إذ يجعلها لا تبرح مكان إقامتهم، وبالتالي فإنه يسهل عليهم الإمساك بها ووضعها في الأقفاص ثانية عندما يزمعون الرحيل، كنا مندهشين جدا من تلك الحركات الدائرية، وفي كل مرة يتم فيها إطلاق دجاجة نوزع النظرات إما على بعضنا أو على الغجري الساحر أو في أغلب الوقت على الدجاجة الموهوبة الحرية حديثا، وبعد أن فرغ الغجري من إخراج دجاجاته من أقفاصه الخمسة أرسل بصره نحوها متفقدا ومتأكدا من مدى ولائها وطاعتها لعمله السحري فوجدها كلها تدور في فلك طاعته إلا ديكا واحدا شذ عن القاعدة وآثر الذهاب نحو الحقول البعيدة، وهنا استشاط الغجري غضبا وهرع مسرعا بعد أن أهاب بنا جميعا المبادرة بمساعدته لإلقاء القبض على ذلك الديك المتمرد الخارج على قانونه السحري، وهكذا انطلقنا راكضين معه وخلفنا الغجر الآخرون وأحدثنا ضجة غير معهودة، ومع ذلك لم نفلح ولم يفلح الغجر في الإمساك بالديك الهارب، ثم قفلنا عائدين إلى الشجرة، ووضع غجري آخر قدرا كبيرا على الأثافي الثلاث، وبدأ الغجر يعدون طعامهم فتغرغرت القدور وسمع صوت غليانها من بعيد، ثم قام اثنان من الغجر بتثبيت كير كبير من الجلد وأخذا ينفخان بواسطته النار التي اشتد أوارها فتحول الحديد الموضوع فيها إلى قطعة حمراء من اللهب، وأخذ أحدهم يطرقه طرقا شديدا كان يسمع من مسافات بعيدة، وحاصل الأمر أن الغجر في ذلك اليوم أحدثوا تعتعة وزعزعة ونشنشة سمع بها الداني والقاصي من أهل البلدة، وقبيل أصيل ذلك اليوم عدت إلى الوادي قادما من الجهة الجنوبية أو العلوية كما كان يسميها أهل البلدة، وكان الغجر قد استكملوا عندئذ نصب خيامهم وجعلوا أبوابها مقابل جهة البحر الشمالية، وفي ذلك الوقت كانت السماء قد ادلهمت بالسحب الكثيفة، فيما أخذت الريح تزمجر بشدة وكادت أن تسفسف الخيام الصغيرة وتطير بها، وبينما كنت أسير بين الخيام لمحت فتاة بديعة الجمال كانت تهم بالولوج في إحدى الخيام " وأذكر أنه انتابني وأنا في ذلك العمر المبكر شعور غريب وغامض، وكل ما أتذكره أنه كان شعورا بالشفقة البريئة على فتاة كنت لم أر بعد مثيلا في حسنها وجمالها ولو أنها كان تكبرني بعشر سنوات على الأقل، قلت لها ما معناه: كان من الأفضل لو جعلت باب خيمتك مقابلا الناحية العلوية، لأن الريح الآن تدخل بسهولة في الخيمة، ولكنها أجابتني بخبث لم أدرك معناه في ذلك الوقت: لا.. الأفضل أن أبقي خيمتي على ما هي عليه الآن لأنك قد تأتيني، إذا غيرت بابها، على حين غرة من الجهة العلوية. وفي صبيحة اليوم التالي عدنا إلى السدرة وكان الغجر قد عقدوا تحتها حلقة مستديرة رجالا ونساء وقد ضمت الحلقة أيضا بعض رجال البلدة الذين جاءوا للحجامة، وفي اليوم الثالث وجدنا الغجر عاقدين صفقة لبيع وشراء ومبادلة الحمير بطريقة مثيرة للإعجاب، وأحدثوا أصواتا مرتفعة وملأوا الوادي ضحكا وقهقهات عالية متوالية، وفي عصر ذلك اليوم حان موعد الرحيل واقتربت مني الفتاة الحسناء مودعة وأظهرت لي ودا حميما لم تظهره لي من قبل كأنها كانت تعتذر لي عن أمر بدر عنها، ومع ذلك لم أفهم من الأمر شيئا، وفيما كان أبوها يساعدها على امتطاء دابتها همست لي قائلة: سأراك في الشتاء القادم. وفي اليوم التالي لرحيلهم عدنا للعب كعادتنا تحت ظل الشجرة ولكن المكان كان قد أقفر وأصبح خاويا ووديعا كعادته ولم يعد للغجر فيه ثاغية ولا راغية إلا صياح ديك مختال كان يحاول العودة إلى قفصه بعد أن شبع من تنسم حرية الوادي الطلق، وبقينا في ترقب الغجر عاما كاملا، وفي صباح يوم شتائي معتدل البرودة عاد الغجر فعلمنا في الحال بوصولهم، وكالعادة هرعنا إليهم فوجدناهم يعملون ما قد عملوه في العام الفائت، كل فرد بدا كسابق عهده إلا الفتاة.. فلقد بدت في هذا العام أكثر جمالا ورشاقة وإشراقا، وأكسبها الكحل جمالا فوق جمالها الطبيعي إذ جعل حدقتي عينيها تبدوان أكثر اتساعا وبريقا، وقد أمعنت في التزين بالحناء وضمخت وجهها وبدنها بالزعفران والورس والآس والصندل فكان نشرها يضوع على وجه الوادي الجميل كأنها عروس أسطورة شرقية، كما أنها لبست أقراطا كبيرة ودمالج وخلاخيل زاهية، مما أضفى عليها جمالا أخاذا، ومع أن أهلها جعلوا أبواب خيامهم قبالة البحر كعادتهم إلا أنها جعلت بابها هذه المرة مقابل الجهة العلوية "الجنوبية" واقتربت مني وبادرتني قائلة: لقد عملت بنصيحتك هذه المرة، ولكنني مع ذلك لم أسبر غور معناها لأنني كنت لم أزل بعد صبيا صغيرا، وأذكر أنه في يوم رحيلها قالت لي: سأراك في العام القادم، وجاء في العام القادم والأعوام التي تلته أقوام آخرون من الغجر ولكن لم تكن هي بينهم، ثم انقطع الغجر كلية عن الحلول بالوادي ولم يعد لهم ذكر ولم يعرف أحد أين هم سكعوا وأين هكعوا.

ومرت أعوام وأعوام ولم أر غجرية الوادي حتى اليوم، وفي آخر مرة زرت فيها "وادي الحيل " كانت معالمه قد تغيرت كثيرا، قطعت الوادي من جنوبه إلى شماله بالسيارة على طريق حديث مرصوف، أملت شقه مقتضيات الحياة العصرية، ولكن اقتضت الضرورة أيضا أن يكون هذا الطريق على حساب اجتثاث تلك الشجرة الكبيرة التي كانت يوما ملتقى ومرتع عهد الصبا، تلفت نحو جانب الوادي الشرقي لأرى شواهد رموس تضم رفات أناس صالحين طيبين، ثم نظرت إلى الجانب الغربي لأجد البساتين الغناء وقد تحولت إلى أرض يباب ما عدا نخلة واحدة وقفت متحدية ولو أنها في نزعها الأخير لتصارع مصيرها المحتوم الناجم عن ارتفاع منسوب مياه البحر على حساب انخفاض مستوى المياه العذبة المستنزفة، لقد أبت تلك البساتين الوفية استمرار الحياة وآثرت اللحاق بأصحابها الذين كانت لهم صولات وجولات في أرجائها الرحيبة، وأوقفت السيارة قرب هيكل ديك مختال كانت قد دهسته سيارة رعناء فتناثر ريشه الزاهي الجميل ليغطي وجه الطريق الأسفلتي الكالح، أزحت جثته وواريتها الثرى بجانب الوادي ومشيت صوب النخلة السامقة الوحيدة وحضنت جريدها المحتضر فسالت من العين دمعة حرى، وما أن فرغت من قراءة الفاتحة على الذاهبين حتى عادت بي الذكرى إلى سدرة الوادي الرءوم التي ضمت جمعا في حناياها منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وتذكرت غجرية الوادي بأحداقها النجل وأريجها الزكي وهي تودعني قبل أربعين سنة وقلت في خاطري: لو أنني كنت مطلعا في ذلك الوقت على أشعار العرب لأسمعتها في الحال بيتي شعر للمتنبي لحظة رحيلها الأخير الأبدي:

متعينا من حسن وجهك ما دام

فحسن الوجوه حال تحول

وصلينا نصلك في هذه الدنيا

فإن المقام فيها قليل.

 

ذياب بن صخر العامري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات