"الحس البيولوجي" محمد رءوف حامد

رؤية مستقبلية
من اكتشاف التكامل والتناسق المثالي للأجزاء متناهية الصغر داخل الكائنات الحية يولد نموذج معرفي جديد، يلقي بشعاعه على حركة العلم والحياة في القرن القادم. بل يوجه- أيضا- قرارات السياسة والاقتصاد. إنها رؤية جديرة بإمعان النظر فيها.

ربما لا يكون للزمن في حد ذاته بعد أو شكل خاص به، لكن أفكارنا وتصوراتنا وأفعالنا هي التي تعطي للزمن أبعاده وأشكاله المختلفة، وتعطينا نحن إحساسنا بالزمن. وهكذا فإن انسياب الوقت في حد ذاته من اليوم إلى الغد، أو من العام الحالي إلى العام القادم، أو من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين ليس له معنى ذاتي خاص. إنه "الحس" الذي يعطي للزمن أهميته ويعطينا نحن إدراكنا للزمن. وإذا كان الحس يعرف أساسا بأنه أي من القوى الخاصة (الرؤية- السمع- الشم- التذوق- اللمس) التي عن طريقها يدرك الكائن الحي العالم الخارجي، فإن القواميس قد تضمنت تعريفات أخرى للحس (مثل القدرة على الاستقبال وإمكان الشعور بالأشياء- الحكمة العملية- الشعور- امتلاك عقل راجح..) وعن تعريف الحس البيولوجي فهو في تقديرنا يرتكز على أي من ( أو كل ) التعريفات السابق الإشارة إليها ويمكن إجمالا وصف الحس البيولوجي في فترة زمنية ما بأنه "جوهر المعرفة البيولوجية المؤثر في أفكارنا عن الأشياء وفي تفاعلاتنا معها".

وعلى هذا الأساس فإن الحديث عن الحس البيولوجي في القرن القادم يجابهنا بعدد من الأسئلة المهمة:

1- ماذا كان الحس البيولوجي الرئيسي للقرن العشرين؟

2 - كيف تفاعل هذا الحس البيولوجي مع المجالات المعرفية الأخرى (غير البيولوجية)؟

3- ما هي العوامل الرئيسية التي يحتمل أن تؤثر في تشكيل الحس البيولوجي للزمن القادم؟

4- يحتمل أن يتفاعل هذا الحس البيولوجي مع المكونات الأخرى للمعرفة (المكونات غير البيولوجية)، ومع الأفعال واتخاذ القرارات في الزمن القادم؟

إنجازات القرن العشرين البيولوجية

وإذا كانت بعض الأكاديميات العلمية الكبرى في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ترى أن أهم إنجازات الإنسان في القرن العشرين هي نزول السفينة أبوللو على سطح القمر، فإن هذا الحدث لم يكن في تقديرنا إلا نتاجا غير مباشر لحدثين بيولوجيين أكثر عمقا ورهبة، وهما التعرف على الشبكة العصبية لجسم الإنسان Neural net - work واكتشاف التركيب البنائي والأهمية البيولوجية لجزئ دون DNA وهو الجزيء الذي يحمل الشفرة الوراثية التي بموجبها تنتقل الصفات الوراثية من فرد إلى الجيل الذي يليه.

فالاكتشاف الأول (الشبكة العصبية) قاد بشكل مباشر إلى ظهور ما يعرف بالسيبرنيتيك Cybernetics البحث في التطبيق التكنولوجي للنماذج البيولوجية الموجودة في الجسم)، وقد أدى ذلك إلى التنامي المتسارع لعلوم الكومبيوتر والذكاء الاصطناعي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن اكتشاف التركيب البنائي والنشاط البيولوجي لجزئ "DNA" قد قاد إلى نمو البيولوجيا الجزيئية Molecular biology، ومن ثم ظهور اكتشافات في شفرة الصفات الوراثية وكذلك في آليات انقسام الخلايا وتجدد الأنسجة، وهكذا فإن الاكتشافين معا "الشبكة العصبية" وجزئ "DNA " كانا أساس التطورات المتتالية في علوم الحاسبات والشفرة، وقد نتج عن كل ذلك أن انطبع القرن العشرون بحس جديد لم يكن موجودا في العصور السابقة وهو "البرمجة" Programming " فالبرمجة إذن هي الحس البيولوجي للقرن العشرين.

البرمجة من الأحياء إلى الكومبيد والعكس

وقد كانت البرمجة هي الأساس المعرفي الذي قاد إلى ظهور الإنسان الآلي- والأقمار الصناعية- ونزول الإنسان على سطح القمر- والأسلحة العسكرية المتطورة، واستخدام إشعاع الفوتون والبوزيترون في عمل خريطة للأجسام الحية- واستحداث أدوية بطرق الهندسة الوراثية والعديد من وسائل الحرب البيولوجية. (وربما أيضا فيروس الإيدز؟).

وإذا كانت البرمجة هي الحس البيولوجي للقرن العشرين فما هو الحس البيولوجي المتوقع في القرن القادم؟ أو في الأقل ما هو الطريق إلى الحس البيولوجي الجديد؟؟؟

في إطار التحولات على الحدود بين الزمن الحالي (القرن العشرين) والزمن القادم (القرن الحادي والعشرين) نجد ظاهرتين مهمتين:

الظاهرة الأولى: أن تقدم علوم الكومبيوتر قد أعطى العلوم البيولوجية وسائل تقنية جديدة للبحث العلمي، وقد قادت هذه الوسائل إلى اكتشافات علمية بيولوجية عظيمة أدت بدورها إلى تغذية مرتدة لعلوم وتقنيات الحاسب الآلي وهذه بالتالي تطورت أكثر وأكثر وأعطت العلوم البيولوجية من جديد تقنيات أكثر تقدما... إلخ، ومن ثم يمكن إجمالا وصف هذه الظاهرة ب "التغذية المرتدة الثنائية بين العلوم البيولوجية وعلوم الكومبيوتر".

الظاهرة الأخرى: بينما يوجد دائما فاصل زمني ومكاني بين البحث العلمي من ناحية، وعمليات الإنتاج الصناعي،Mass production من ناحية أخرى، فإننا نجد أن أحد أهم وأحدث فروع البيولوجي يتميز بوجود كلا النشاطين في زمن ومكان واحد، إذ يحدث ذلك في مجال إنتاج الأدوية بواسطة وسائل الهندسة الوراثية.

ثنائيات جديدة

ويتوقع أيضا أن يحدث الشيء نفسه مستقبلا بخصوص الأدوية المحتواة في كبسولات دقيقة Liposomes تمكن الدواء من الوصول والتأثير فقط في المكان المقصود داخل الجسم (العضو المصاب). هذه الظاهرة " تلاحم البحث العلمي مع الإنتاج التجاري في مكان وزمن واحد" ظاهرة جديدة وخطيرة يتوقع أن تمتد إلى مجالات أخرى في الزمن القادم. نحن إذن على عتبة القرن الواحد والعشرين أمام ظاهرتين عظيمتين في مدلولاتهما ونتائجهما (سلسلة التغذية المرتدة الثنائية بين العلوم البيولوجية وعلوم الكومبيوتر- تلاحم أنشطة البحث العلمي والإنتاج التجاري في الزمان والمكان)، ويمكن لهاتين الظاهرتين أن يكون لهما نوعان من الآثار المترتبة، آثار اقتصادية تتعلق بالقيمة المضافة ( Added Value ) ليس مجالها هذا المقال، وآثار معرفية مهمة.

الرياضيات تتقدم والبيولوجيا تتكامل

وعن الآثار المعرفية المتوقعة فهي:

* التوصل إلى معارف متقدمة ودقيقة بخصوص الأنساق الجديدة المتناهية في الصغر داخل جسم الكائن الحي وخاصة الإنسان The very minute subsystems .

* التوصل إلى النماذج الرياضية الأمثل Optimum mathematical models للعمليات البيولوجية في الجسم.

* اكتشاف الخواص الخطية للعديد من الظواهر البيولوجية التي مازالت تبدو غير خطية، وكذلك اكتشاف حدود العلاقات البيولوجية غير الخطية لبعض هذه الظواهر.

* التوصل إلى معرفة متقدمة نسبيا عن "التكامل" و"المثالية" في الأنساق البيولوجية Biological Sys-tems .

انعكاس "التكامل" البيولوجي و "المثالية" البيولوجية على العلوم الرياضية بمعنى حدوث تقدم متسارع في العلوم الرياضية نتيجة اكتشاف علاقات على مستوى عال من المثالية "كما وكيفا" داخل الجسم البيولوجي.

* التوصل إلى درجات عالية من اليقينيةCertainty وبلوغ مستويات جديدة من اللا يقينية Uncertainty

* الارتقاء إلى معرفة جديدة ويقينية عالية عن الوحدة "Unit" والتكامل بين الأنساق المتناهية في الصغر بعضها بالبعض الآخر وكذلك بين هذه الأنساق وكل مستويات الأنساق الأكبر ( Subsystems and Systems ).

* حدوث انعكاسات رئيسية من كل من اليقينيات الجديدة والحس التكاملي الجديد والرياضيات الجديدة على المكونات غير البيولوجية للمعرفة.

الحس البيولوجي يقود المعارف والقرارات

ويمكن القول إن الحس البيولوجي القادم سوف يؤثر عن طريق المفاهيم والإدراكات الجديدة على المعرفة بكل فروعها (علمية وتقنية وإنسانية)، وكذلك على اتخاذ القرارات في كل المجالات (السياسة والاقتصاد...إلخ).

وهكذا فإن العلماوية الجديدة New scientism ستنشأ - بوضوح أشد مما كان عليه الحال في القرن العشرين- من قلب البيولوجياوية. Biologism وربما سينقلنا ذلك إلى ما يمكن وصفه بال Bio - Scientism (البيوعلماوية).

ويمكن أن نتصور أن نمو الموضوعية الجديد على أساس "البيوسيانتيزم" سيجعل إنسان القرن الحادي والعشرين- على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والحكومة والشركات العملاقة والعالم ككل- يواجه التحدي الكبير، أن "يفكر ويقرر أحكامه على أساس بيولوجي، أي على أساس الحقيقة أو العلاقات البيولوجية المثلى كما يعبر عنها رياضيا"..، أو أن يظل يفكر ويتصرف بنفس مستوى الحياة العملية للقرن العشرين أي بالطريقة التي تعتمد على القوة الفيزيائية (الثروة- الأساليب العسكرية- العلاقات).

التلاؤم مع الجديد..أو التهميش

بين الطريقين، أو بين الزمن الحالي والحس البيولوجي للقرن الحادي والعشرين توجد مسافة كبيرة سيقطعها كل كائن بشري في كل مكان من هذا العالم بسرعة تتناسب، تناسبا طرديا مع الوعي المعرفي الحالي له، فقد يقطعها شخص في وحدة زمنية واحدة بينما يقطعها آخر في وحدات زمنية تكاد تكون لا نهائية، (قد تتعدى القرن الحادي والعشرين؟) وهكذا على كل كائن بشري جماعي (مؤسسة- مجتمعا- أمة) أن يتعرف على (ويحدد) عجلة النمو المعرفي الخاص به ومدى تلاؤمها مع النسق العلمي الكلي للعالم Global Scientific System، ذلك مع اعتبار أن الاستيعاب العملي للبيوسيانتيزم القادمة سيكون له مدلولاته وانعكاساته- التي يصعب توقعها من الآن- على شكل العلاقات البشرية في القرن القادم. فمثلا من سيتخلف عن الاستيعاب والتفاعل الإيجابي مع مفاهيم الزمن القادم هل سيظل بالنسبة للآخرين كائنا بشريا حرا؟.. أم أنه سيهمش؟، وما هي أبعاد التهميش الممكن؟؟. هذا سيعتمد إلى حد كبير على فلسفة البيوسيانتيزم القادمة كما سيتفهمها الإنسان المتقدم في القرن الحادي والعشرين.