اللغة حياة.. قد يراد التجميل فيكون التشويه

 اللغة حياة.. قد يراد التجميل فيكون التشويه
        

          يحلو لبعض المنشئين أن يجمّلوا العبارات، لاسيّما تلك المقتبسة عن بعض اللغات الأجنبيّة، فيأتون بمعنى مغلوط أو غير دقيق، ويشوِّهون الصيغة. فبعض التجميل إفساد، حتى في الصورة البشريّة، وكم من مزيّنة قبّحت وجه العروس الجميلة وأسهمت في تساقط شعرها، وكم جرّ تجميل الأنوف والصدور من ويلات على بعضهنّ، وكم من النساء دخلن المستشفى لإجراء جراحة تجميل فخرجن محمولات على المِحفّات.

          ومن ذلك أنّ مجمع اللغة العربيّة أشار إلى أنّ كلمة الدَّوْر تفيد، في ما تفيد، معنى المهمّة، يقصد التكليف الذي يؤمر به الإنسان، أو ما يتبرع لإنجازه بنفسه من عمل أو جهد؛ فاستشهد أحد الباحثين، في بعض مقالاته، بإشارة المجمع تلك، لكن من سوء طالع المجمع أن وقعت المقالة بين يدي مصحّح أو محرر يفضّل استعمال صفة هامّ، أي ذي أهميّة، على صفة مهمّ، وظنّ أنّ كلمة «مهمة» صفة وليست اسماً، فصحّحها مرّة بهامّ لأنّ ما عُطف عليها مذكّر، ومرّة بهامّة، فخرجت إشارة المجمع عن سبيلها، كما يخرج القطار عن سكته، وفارقت القَصد الذي أراده المجمع فراقَ غيرِ مُذَمَّم.

          وفي الفرنسيّة عبارة: voler à basse altitude ، ومعناها: طار طيراناً منخفضاً؛ فتبرّع عدد من المذيعين والصحفيّين لتجميل العبارة بالعربيّة، ولمنحها بعض الشعريّة أو البراعة الفنيّة، ولتحاشي تكرار جذر «طير» إذا أُدخلت في العبارة كلمة طيران، فجعلوا الطيران تحليقاً، وقالوا: حلَّق طيران العدو على علوٍّ منخفض. وغنيّ عن البيان أنّ الطيران فعل يدلّ على عموم التنقّل في الهواء بوساطة الجناحين والذيل، سواء أكان الطائر قريباً من الأرض أم مرتفعاً بعيداً منها؛ أمّا التحليق فهو فعل خاصّ من أفعال الطيران يعني الارتفاع والاستدارة في الهواء؛ قال النابغة الذبيانيّ في بائيّته المشهورة:

          إذا ما غَزَوْا في الْجَيْشِ حَلَّقَ فَوْقَهُمْ
                                        عَصائِبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بعَصائِبِ

          وفي الحديث الشريف استعارة لهذا المعنى، إذ يقول بعض الرواة: «فحَلَّقَ رَسولُ اللهِ بَصَرَهُ إلى السَّماء» ورواه ابن منظور في «اللسان» بلفظ:« فحَلَّقَ بِبَصَرِهِ إلى السَّماءِ كَما يُحَلِّقُ الطائرُ إذا ارْتَفَعَ». وقد أدّى هذا التجاوز في الترجمة إلى جمع متضادّين في معنى واحد، هما التحليق والانخفاض. وزاد الطين بِلّة عبارة: علوّ منخفض؛ لأنّ العلوّ أيضاً ضد الانخفاض، وهذا شبيه بقولنا: جمالٌ قبيح، وذكاءٌ غبيّ، وطَودٌ سحيق؛ ولا يكون ذلك إلا على سبيل التهكم، أو في الصور السرياليّة غير الواقعيّة. صحيح أنّ العبارة الفرنسيّة: basse altitude قد تترجَم حرفيّاً بالارتفاع المنخفض، لكنّ المترجم غير مضطر إلى النقل الحرفيّ، وغير ملزم بأن ينقل إلى العربيّة عادات اللغات الأجنبيّة الخاضعة، في ما تخضع، للتطوّر المجازيّ الناجم عن التجارب الحيويّة والاجتماعيّة والعلميّة لأهل اللغة؛ وبوسع العربيّ أن يقول ببساطة: طار طيرانُ العدوّ (أو طارت طائراته) على علوّ قليل؛ أو طار على مستوى منخفض، أو طار منخفضاً، أو انخفض في طيرانه.

          والعرب تقول: اجتمع القومُ، واجتمع الناسُ، وما أشبه ذلك، ولم تقل اجتمع المجلس؛ لأنّ المجلس مكان الجلوس، وقد يدلّ مجازاً على الجالسين في مكان واحد. لكنّ المجلس صار، في العصر الحديث، يعني مؤسّسة رسميّة أو أهلية مؤلّفة من جماعة يجلس أفرادها في مكان واحد، لينظروا في شئون تبرعوا بدراستها، أو أُوكل أمرها إليهم، أو ليتخّذوا قرارات منحوا الحقّ باتخاذها. ولذلك جاز القول: اجتمع المجلس، على سبيل إيجاز الحذف، والمقصود أعضاء المجلس، على نمط «واسأل القرية».

          لكنّ بعضهم يقول: عَقَدَ المجلس جلسة، وانعقد المجلس، ليس دقيقاً؛ لأنّ العَقد والانعقاد يفترضان أحد أمرين: إما الربط الحقيقيّ، كعقد الراية وانعقادها، أو الربط المجازيّ، أي العهد والميثاق واليمين، سواء كان ذلك في زواج أو صلح أو مسالمة أو ولاية أو ملك.. إلخ. ومن مجازات العَقد صيرورة الشيء كالعقدة في اجتماعها أو في تكوّرها أو في صلابتها أو في كثافتها.. إلخ، فيقال: انعقد التمر واللبن والرمل والعِرق والغيم والنسب والصِّهر.. إلخ. ولعلّ الذين استعملوا عبارتي: عَقَد المجلسُ جلسةً، وانعقد المجلس، أخذوا معنى اجتماع العقدة، وهو تشبيه بعيد، ولاسيّما أنّهم استطردوا من ذلك إلى مصطلح العَقد، وهو عندهم بمعنى الوقت المعيّن لاجتماع المجلس حكماً، فأبعدوا في المجاز، ولذلك كان الأصحّ استعمال المصطلح المرادف وهو الدَّور أو الدَّورة. لكن راق بعضهم أن يجمّلوا التعبير فقالوا: التأم المجلس. والحقيقة أنّ اللأْم يدلّ في المعنى الحقيقيّ على وصل الشيء بالشيء أو لصقه به؛ ويدلّ مجازاً على معنى الاتفاق والصلح. أي أنّ الالتئام لا يكون إلا بعد انشقاق أو كسر، أو بعد شِقاق، فيقال: التأم الجرحُ، والصدعُ، والناسُ بعد الفتنة، والمودّةُ بعد الخصام، والحبُّ بعد الهجر؛ يقول المثل «التَأَمَ جُرْحٌ وَالأُسَاةُ غُيَّبٌ»؛ ويقول العبّاس بن الأَحْنَف:

          أَلا لَيْتَ ذاتَ الْخالِ تَلْقَى مِنَ الْهَوى
                                        عُشَيْرَ الَّذي أَلْقَى، فَيَلْتَئِمَ الحبُّ

          وفي الحديث الشريف الذي يصف الكافر في قبره:«فَيُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمي عَلَيْهِ؛ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ». والأشياء الملتئمة والمتلائمة، هي التي تكون متوافقة. وليس المراد بالتئام المجلس توافق أعضائه ولا تلاحمهم، بل التقاؤهم في مقر معيّن، وفي وقت معين، لدراسة شئون عامة؛ والمفترض أنّ أولئك الأعضاء، ولاسيّما أعضاء الحكومة، إنّما هم هيئة سياسيّة متفقة، مبدئيّاً. ولذلك يبدو هذا التجميل إخلالاً بالمعنى، وفيه - فضلاً عن ذلك - إجهاد للمتلقّي: السامع أو القارئ، لأنّ فعل التأم ليس من الأفعال التي يعرفها الكلّ، ويفترض أن يكون الإعلام موجهّاً إلى الكافّة، فكيف إذا جُعل هذا الفعل في استعارة بعيدة؟

          إنّ المعنى الحقيقيّ أولى بالاستعمال من المعنى المجازيّ، في الشئون العامّة التي يراد إبلاغ مضامينها إلى الكافّة، كالأخبار السياسيّة والاجتماعيّة، وكالأحكام القضائيّة، وكالقرارات والمراسيم الحكوميّة؛ وقد يُقبل المجاز أحياناً في هذه إذا اتصل بعرَض الموضوع لابجوهره، وكان قريباً واضحاً وليس بعيداً ملتبساً. وخير المجازات ما يأتي على البديهة، عفو الخاطر، غير معقّد ولا متكلّف، ولا مصنوعٍ بيد منشئ متحذلق؛ وفرق بين أن تَزِين الغرفةَ بأزهار طبيعيّة، وإن كان موضعها الأصليّ هو الحديقة، وبين أن تَزِينها بأزهار صناعيّة مهما بلغ إتقان الصانع؛ فكيف إذا كان الصانع قليل العلم أو فاسد الذوق، وجعل للزنبق شوكاً، وللبنفسج أكماماً عريضة سميكة، وللتين زهراً؛ لا طلباً للغريب، بل جهلاً بالمألوف والمعروف؟.

 

 

مصطفى علي الجوزو