جمال العربية.. راهب الليل: طاهر أبوفاشا
جمال العربية.. راهب الليل: طاهر أبوفاشا
بعد توقف عن الإبداع الشعري دام خمسة وثلاثين عامًا، عاد الشاعر والكاتب وفارس الدراما الإذاعية طاهر أبوفاشا إلى فنه الأثير: الشعر. قبل هذا التاريخ بأعوام طويلة، كان قد أصدر دواوينه الثلاثة الأولى: صورة الشباب والقيثارة السارية والأشواك، معلنًا عن موهبة شعرية مبكرة، ولغة شعرية أصيلة ومتميزة، وعالم جديد من الرؤى والتجارب والمواقف، اكتملت من خلال سمات شاعر يقتحم الساحة، ويفرض اسمه على المجتمع الثقافي والواقع الأدبي. ثم حدث أن اجتذبته الإذاعة، بعد قيامها بعدة سنوات، فوقف نشاطه الأدبي وطاقته الإبداعية عليها، مؤلفًا للبرامج الغنائية والأعمال الدرامية، واستمر على ذلك طيلة فترة انقطاعه عن الشعر اللهم إلا بضع كتابات كانت تُؤلَّف وتُلحَّن طبقًا لما تقتضيه طبيعة هذه البرامج، وأصبح حصاده عن هذا الإنجاز مئات البرامج التمثيلية والغنائية، في مقدمتها «ألف ليلة وليلة» التي كتب منها ثمانمائة حلقة، و«ألف يوم ويوم» وقد كتبها بصورة خاصة لإذاعة الكويت وأوبريت رابعة العدوية التي صدحت بأغانيها أم كلثوم وتبارى فيها عدد من الملحنين لقصائده البديعة بالإضافة إلى سلسلة «أعياد الحصاد». وهي صور غنائية تتناول الكثير مما تنتجه الأرض المصرية الطيبة. ولم يقتصر نشاطه الإبداعي على الإذاعة وحدها، فبعد افتتاح التلفزيون عام 1960 امتد نشاطه إليه وألَّف له بعض أعماله الدرامية والمسرحية التي عرضت على مسارح التلفزيون ثم نقلت إليه. وكانت فجيعته في رفيقة دربه وأم أولاده عام 1979 زلزالاً هائلاً في حياته وفي وجدانه. جعله يتطاير شظايا، ويعود إلى الشعر بعد طول انقطاع، وكانت بشائر العودة تتمثل في ديوانه الرابع «راهب الليل» الذي أصدره عام 1983 الذي يقول في مقدمته: أطلْتُ في ليلها قيامي مفصحًا عن الكامن وراء هذا العنوان الذي اختاره لقصيدته أولاً ولديوانه ثانيًا وهو «راهب الليل» حين يقول: عاشق الروح مستهامْ هكذا يقدم طاهر أبوفاشا نفسه راهبًا لليل، معبِّرًا عن عمق الجراح ومرارة الألم، لكنه يؤكد في الوقت نفسه تساميه وارتفاعه على الجراح والآلام، ومادام يمتلك الحبّ والحياة، فهو قادر على أن يطلع الحبّ والجمال، مهما كان حجم ما تصْنعه الحياة به، من منطلق فهمه للحب بوصفه كبرياء، وقوة، وارتفاعًا وتساميًا، وصمودًا في معركة الحياة. واللغة في يد شاعر مقتدر صناع، يعرف أصول فنه لغة طيّعة، لا عنت فيها ولا مشقة، ولا غرابة ولا حوشية، تنساب في سلاسة الماء، وتتسلل إلى النفس من منافذها العقلية والحسّية والوجدانية، والشاعر يعتصر من صميم وجدانه خلاصة معاناته، ويسكبها في تجليات فنه وشاعريته. من هنا، فهو يهدي إلى الملاح التائه علي محمود طه الرمز الشعري المضيء في كوكبة شعراء أبولّو رواد الشعر الرومانسي الوجداني يهدي إليه قصيدته «ميلاد شاعر» التي أبدعها متابعةً ومعارضة لقصيدة علي محمود طه التي تحمل العنوان نفسه: إلى مثله تصبو عذارى الخواطرِ *** فضجَّ بأعراسِ السماوات عيدُها ويتسع ديوان «راهب الليل» لما أبدعه طاهر أبوفاشا من قصائد أصبحت أغنيات ذائعة بعد أن شَــدتْ بها أم كلثوم، ولحنها الثلاثة الكبار: رياض السنباطي ومحمد الموجي وكمال الطويل. من بينها قصيدته التي يقول فيها كأنه يذوب في كلماتها وأنغامها وصورها الشعرية: غريبٌ على باب الرجاءِ طريحُ ويتخير طاهر أبوفاشا من أبيات رابعة التي يحفظها ويرويها كثير من الناس وهي أبيات أربعة لا غير، يتخيرها ليضيف إليها من الوزن نفسه والقافية نفسها، ستة أبيات: بيتان في المقدمة وأربعة أبيات تلي أبيات رابعة التي يحفظها ويرويها كثير من الناس وهي أبيات أربعة . ولشدة إحساسه بجوِّ أبيات رابعة وكيميائها الصوفية، فإن أبياته التي أضافها تجيء كأنها من تأليف رابعة وإبداعها، فالشعور هو الشعور، والصياغة هي الصياغة، واللغة هي اللغة في تدفقها وحرارتها وانسيابها وامتلائها بمفردات العشق الإلهي والوجد الصوفي. تقول أبيات القصيدة: عرفتُ الهوى مذ عرفتُ هواكا ثم تجيء أبيات رابعة: أحبُّكَ حُبَّين: حُبَّ الهوى وبعدها يقول أبو فاشا: وأشتاقُ شوقيْن: شوقَ النّوى وفي قصيدة عنوانها «حانةُ الأقدار» يقول طاهر أبوفاشا، وهي إحدى قصائد «الأوبريت الغنائي الدرامي» رابعة العدوية: حانةُ الأقدارْ *** ورحتُ إلى الطير أشكو الهوى كان طاهر أبو فاشا (1908 1989) كما يقول عنه صديقه الشاعر عبدالعليم عيسى في تقديمه لديوانه: «أديبًا شاملاً، فهو شاعر، وهو قاصٌّ، وهو باحث وهو كاتب درامي، وهو فقيه في اللغة محيط بدقائقها وأسرارها لكن اعتزازه كان بالشعر أكثر من سواه، وطالما سمعته يقول في تحسُّرٍ: لقد جَنت الإذاعة عليَّ شاعرًا، على الرغم مما حققته لي من شهرة. وكان طاهر أبوفاشا مع هذا كله مُحّدثًا بارعًا من طراز فريد، يستهوي السامعين بظَرْفه ولطافة نفسه، وبحكاياه ونوادره، وبطُرفه وأماليحه، تسعفه في ذلك بديهة حاضرة، ونفْس رحبة، وذاكرة واعية، وذكاء حاد. وأحسب أنه لو تقدم به الزمان لكان نديمًا على بساط الرشيد!». ولقد كان بالفعْل كذلك، وأكثر.
![]() |