المكسور يمشي والقزم يطول في جراحة عبقرية عماد سويد

المكسور يمشي والقزم يطول في جراحة عبقرية

أصبح بالإمكان وبطريقة الدكتور اليزاروف إنجاز ما كان مستحيلا التفكير فيه قبل عقد واحد من السنين، فالأقزام يمكن أن يطولوا، والمقعدون يمكن أن يمشوا، والمشوهون يمكن أن تستقيم أعوادهم، إنها جراحة عظام عبقرية لطبيب يوشك أن يكون إنجازه العلمي فلسفيا وروحيا، وهذه المقالة تتأمل في أغوار هذا الإنجاز.

أصيب جراح العظام الإيطالي "كارلو مونرو" بكسر في ساقه، تطور بعد المعالجة إلى اختلاط كريه، هو اندمال معيب متقيح مزمن، مما خلق لجراحي العظام الإيطاليين تحديا في معالجته، وكادت الحالة أن تفضي إلى البتر، وعندما حمل الجراح الإيطالي شكواه إلى زميله، أشار عليه بجراح للعظام، صعب الاسم، غامض الشهرة، يعيش في صقيع سيبيريا، ويقوم بجراحات جديدة مثيرة اسمه " اليزاروف ".

استطاع "اليزاروف " أن يسيطر على الحالة، ويصل بها إلى شاطئ السلامة، فزال القيح، واستقامت الساق واندمل الكسر.

هذه القصة كانت السبب في خروج "اليزاروف " وطريقته من الشرنقة السوفييتية، والتدجين الأيديولوجي للعلماء، كما حصل من قبل مع أفيلوف وليزانكو في قصة علم الوراثة والأيديولوجية الماركسية، خرج "اليزاروف " من الشرنقة الضيقة ليطير إلى العالم بجناحي فراشة جديدة، وبذلك ولد علمه في العالم، وكتب له النماء، وسادت طريقته وأصبحت منهجا قائما بذاته في المعالجة. والآن ما هي الإثارة في طريقة "اليزاروف "؟ ما هو الجديد فيها في فن جراحة العظام؟ أية أفكار تسيطر على نواتها؟ أية منهجية توجه حركتها؟ بل لنقل أين الإبداع في هذه الطريقة؟

الحياة مليئة بالأسرار

في جو الصقيع والبرد الرهيب في "كورجان " جلس " اليزاروف " لفترة تزيد على نصف قرن وهو يتأمل الواقع البيولوجي، محاولا اكتشاف أسرار جديدة وقوى مجهولة، ومعادلات غامضة، وآليات لا تطفو على السطح!!.

كان عليه قبل كل شيء كسر المسلمات السابقة، والأيديولوجيات الدوغمائية في المعالجة الجراحية لأن مشكلة المشاكل، وجوهر الإعاقة العقلية هو ما أشار إليه القرآن، عن عقدة الآبائية ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين؟!.

إن جوهر التاريخ هو التطور الفكري، هو حركة المجتمع من خلال أفكار ورؤى جديدة، ومعالجات جديدة، من خلال تنمية روح المبادرة تلك التي أشار إليها عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" في كتابه "روح الرأسمالية" عندما اعتبرها أحد عناصر انطلاق النهضة الأوربية، إن الحياة مليئة بالأسرار، والسر يحرك شهية المعرفة، ويفتح روح الفضول للاكتشاف، ولو أرسل خشب أشجار المعمورة إلى المصانع لاستخراج الأقلام، ولو أن بحار الدنيا السبعة تحولت إلى مداد، ثم سخرت الأقلام لتكتب هذه الأسرار لفنيت الأقلام، وجفت البحار، ولم تنته هذه الكلمات ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعد سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله.

عقل فيلسوف وهمة طبيب

كان "اليزاروف " يرصد الواقع البيولوجي لاكتشاف قوانينه، والتي سخر بموجبها، شأنه شأن الواقع الكوني الخاضع لكلمات الله، فالكون يتسخر أي يخدم مجانا في اللحظة التي يتم فيها الكشف عن القانون الذي يسيطر عليه، وهو ما أشار إليه القرآن: وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه.

هل تأملت السحلية الصغيرة عندما يحاول الطفل العبث بذنبها كيف تطرح ذنبها متخلصة منه وهاربة إلى الحرية؟! ليتراكم بعد ذلك على الذنب المفصول حشد من النمل في وجبة شهية؟! لماذا لا تمتلك أجسادنا هذه القدرة؟ فإذا انقطع أصبع نما آخر مكانه!

ما الذي يجعل الخلايا السرطانية، سرطانية؟

لماذا يعلن السرطان التمرد العام في البدن، ويقود حملة عصيان مدمرة كل أجهزة الجسد؟ إن لعنة مرض الإيدز فجرت عتبة اكتشافات جديدة للدخول إلى الكنز المقدس في الخلية، لكشف اللثام عن تركيب ثلاثة مليارات من الجينات ترقد فيها خواص الإنسان، في أعظم مشروع عرفه الجنس البشري هو أعظم من ثورة المعلوماتية، ومشروع ناسا لارتياد أعضاء، لأنه مشروع "اكتشاف الإنسان ".

لقد قبع "اليزاروف " هناك في الصقيع يفكر بعقل فيلسوف، وهمة لبيب، وروح رائد مكتشف وبعبقرية نفاذة، لقد وصل إلى فهم ثوري جريء، يعتبر قلبا لكل مفاهيم جراحة العظام، بل هي تقنية تتجاوز جراحة العظام لتطبق في فضاء الجراحات الأخرى.

في التصور القديم يبقى القزم ضئيلا، لا يرفع رأسا، ويطلب العون، ويستدر الشفقة، تتعثر قدماه في المشي ولسانه في النطق؟! من أصيب بالتشوه أضحى قدرا لا يمكن تغييره، ولا أحد يفكر في تغيير ما استقر عليه الانحراف؟! الاندمال المعيب والتقيح المزمن الكريه مصيره إلى البتر ولو بعد حين؟! المشلول كتب عليه أن يبقى مقعدا مدى الحياة، يتجرع الغصص، ويزدرد الحسرات، وعلى صاحب الكسر أن يجر طرفه الثقيل لأشهر طويلة بجبس أبيض يذكر بالقبور التي يصفر فيها الريح، حتى يلتئم الكسر، وتتكلس الحواف.

وبذا فهمت العضوية على نحو جامد ثابت لا يتغير، ولكن هل الوجود كذلك والله يقول يزيد في الخلق ما يشاء؟؟ إن فهم الوجود على أنه كم ثابت يمثل نصف الحقيقة، ذلك أن الحياة تسبح بين الجمود والحركة، بين الثبات والتطور، بين الوجود والصيرورة، وعندما يتدخل الجهد البشري ليمط قصيرا، أو يصلح تشوها أو يقيم معوجا فإنه يعالج ما يعالجه بقدر الله وضمن سنته التي تسيطر على الوجود المادي والبيولوجي والنفسي والاجتماعي والحضاري والبشري برمته فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.

فكرة الشفاء

دخل دماغ "اليزاروف " إلى مخ العظام لفهم آلية نمو العظام وعلاقته بالأنسجة المحيطة، فقلب المفاهيم السائدة، فقال: إذا كان الكسر ينشط النمو فيندمل الكسر، أي أن الكسر هو الذي يحرض آلية النمو، فما المانع أن أسخر هذه الآلية، وأضع يدي على سرها؟ ليس أن أرد كسرا، بل أكسر عظما سليما؟! كي أضع تحت تصرفي هذه " الآلية- الميكانيزم " فأوجه النمو بالوجهة التي أراها سليمة، وبذا ما دامت مستودعات النمو موجودة، أستطيع أن أطيل عظما، أو أقيم معوجا، أو أقاوم تقيحا معتدا بأسلحة النمو هذه.

هذا هو جوهر فكرة "اليزاروف "، هي بسيطة ولكنها رائعة وانقلابية، هي جميلة وساحرة، وجمالها يأتي من بساطتها، لأن أهم عناصر الجمال البساطة.

فكرة "اليزاروف " تقوم ليس على تجبير العظام ورد الكسور، بل كسر العظام، وتحريض النمو في العظم والأنسجة المتصلة به، من عصب، وشريان، ووريد، وعرق لمفاوي، وعضلات، وفي النهاية الجلد الذي يتمطى؟!. إن هذا الشق والكسر للعظم يتولى القسم الخارجي فقط، أي قص القشرة الخارجية وتثبيتها من الخارج بحلقات، ومسامير، وأعمدة، بشكل ميكاني مدروس في الاتجاه المزمع إنشاؤه، ثم شد الطرفين المكسورين بعيدا عن بعضهما البعض لتحريض آلية النمو، وبذا أمكن إطالة العظم، ومد الشريان، ومط العصب، وزيادة الأوردة، وترميم الأنسجة المهددة، وتقويم الأعضاء المعوجة، فهي كما نرى فكرة رائدة تعتمد أن يرمم الجسم نفسه بنفسه، فيتم بها تحسين التروية الدموية، وتنشيط السيالة العصبية، ورفع تقلص العضلات، وشد الأوتار، وردم القيح، ومط الجلد، وزيادة الجمال في الأطراف والتخلص من التشوهات. تتيح طريقة "اليزاروف " للمكسور الساق أن يمشي على كسره مباشرة، وللمشلول أن يبدأ الأمل في الحركة - هناك تجارب الآن على نخاع الظهر عند المشلولين، لتنشيط نموه وهو من مستحيلات العلم اليوم، لأن الطب الحالي بتّ فيه بلا عودة! وفي فقر التروية الدموية بضخ الدم وتحسين الدوران، وفي الأقزام أن يمنحهم بسطة في الجسم، وقد تم ضرب رقم قياسي بتطويل وصل إلى 30 سم، بل إن اليزاروف دفع الرقم إلى 90 سم! بمعدل زيادة ا ملم يوميا- وللمشوهين أن يستعيدوا عافيتهم، وجمال شكلهم، وللمقعدين أن يتفاءلوا بدخول عتبة جديدة في المعالجات.

قال صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله من داء إلا وجعل له دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله فهذا الحديث يفتح الباب أمام فكرة الشفاء لأي مرض مهما استعصى واستفحل.

وبعد..، فإن طريقة "اليزاروف " ليست سحرا ولا ألغازا، فلا توجد أسرار في العلم، كما أنها ليست فوق النقد ولا دون الخطأ، بل هي فهم لسنة الله في خلقه، والقوانين التي تحكم البيولوجيا، وإذا كان الحديد ثقيلا ومن طبيعته أنه يسقط إلى الأرض، فإن الذكاء الإنساني حوّله إلى طيارة تحلق في الأجواء، وصاروخ يخترق الجاذبية، ليس بخرق القانون، بل باستخدام قانون جديد يتخلص به من قانون الجاذبية، فالتشوه، والشلل، والعجز، والصمم، والضعف، والتردي حدث بفعل قانون "سقوط " ونحن نعالجه بقانون "صعود".

إن الإبداع له واسطة، وأعظم شرط فيه هو عشق المعرفة، والتجديد ورؤية العلم بدون حدود، لأنه من علم الله الذي أحاط بكل شيء علما، قال صلى الله عليه وسلم لا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم الذي لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله تعالى.

 

عماد سويد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بجهاز بسيط وجراحة ليست معقدة يمكن للعظام أن تطول وتلتئم