الكمبيوتر والنظم الخبيرة محمد نبهان سويلم

الكمبيوتر والنظم الخبيرة

تتسارع خطى صناعة الكمبيوتر في العالم، وعلى مشارف القرن القادم تقترب آمال عريضة في أجيال من الكمبيوتر ترى وتسمع، ولعلها تلمس وتشم أيضا. ومن ثم، لابد من التوقف أمام أبجديات هذه الصناعة، وهذه إحدى الوقفات.

روى أحد كتاب القصة العربية أنه زامل طالبا في مرحلة الدراسة الثانوية، وكان زميله هذا يتصف بطيبة القلب والخلق الكريم والاجتهاد إلا أنه كان مصابا بمرض لا يستطيع الخلاص منه، فقد كان لا يجيد في فنون كتابة الإنشاء سوى موضوعات الأفراح مهما كان رأس الموضوع ودوافعه، ويوما أراد أستاذ اللغة العربية وضعه في مأزق فجاء برأس الموضوع على أنه- أي صديق الكاتب- اتخذ طريقه إلى بلد أوربي على متن طائرة لكن القدر لم يمهلها كثيرا فانفجرت فوق الصحراء.. وطلب منه كتابة موضوع إنشاء حول ذلك المضمون، ولم يحتر الطالب فكتب سطرا واحدا عن سفره ومائة سطر عن أن الطائرة عندما انفجرت سقط حطامها وسقط معها في الصحراء على مقربة من فرح بدوي، وانطلق يصف مظاهر الفرح، واصفا الأغاني والأهازيج والرقص والموائد العامرة، بعدها لم يكلفه أستاذ اللغة العربية بكتابة أي موضوع آخر، وأخذ يقلب كفيه متعجبا من الطالب وذاكرته التي لا تقدر عن الأفراح فكاكا.

البيروقراطية والكمبيوتر

تذكرت هذه الحكاية وأنا أخط هذه الدراسة المبسطة حول علوم الذكاء الصناعي التي غطت واستوعبت أربعة تخصصات مختلفة هي الإنسان الآلي، النظم الخبيرة، والإنسان بلا ورق أو ما يسمى "أتمته المكاتب "، كما تستوعب تخصصات جديدة في مثل حاسبات إلكترونية ترى وتنطق وتشم وتلمس وتعالج اللغات الطبيعية. والنظم الخبيرة تشبه إلى حد كبير صديق كاتب القصة العربية، فهي ترى الحياة وكأنها كتاب قواعد وتطبق هذه القواعد بدقة شديدة واستعمال صحيح وقدرة مؤكدة، وتتعرض هذه النظم للضياع عندما يعرض عليها أمر ليس موجودا في هذا الكتاب، شأنها شأن طفل صغير ألقيت في ذاكرته خطأ متعمدا أن المسافة بين القاهرة والكويت مائة كيلو متر، والمسافة بين القاهرة والزقازيق ثمانون كيلو مترا، وشب الطفل واستوى عوده وفتل عضده ومازالت ذاكرته تستوعب ما حفظ خطأ، فإن سألته يوما عن المسافة بين القاهرة والكويت انطلق دون تردد أو عوج أو التواء مائة كيلو متر، وإذا عاودت سؤاله عن المسافة بين القاهرة والزقازيق فسوف يلقي السمع ويرد بنفس ما حفظ، وإن حاولت مناقشته كيف والكويت المدينة عاصمة دولة الكويت بينما القاهرة عاصمة مصر وما الزقازيق إلا إحدى مدن مصر، فإنه سوف ينظر إليك متعجبا ذهلا ويحار أمره، ويرتج عليه، فقد أخذ على غرة فكتاب ذاكرته لم يتلق هذا البيان ولا هذه المعارف.

يقول القارئ وهل هذه هي النظم الخبيرة التي تزعمونها؟ رويدا سيدي، فليس من المدهش أن نعرف أن هذه البيروقراطية هي إحدى مميزات الذكاء الصناعي في النظم الخبيرة.. الالتزام.. وسمها إن شئت البيروقراطية الميكانيكية للآلة، فالقواعد هي المادة الأساسية لأجهزة الخبرة وبرامجها، فإنتاج مثل هذه النظم يتطلب الجلوس مع الخبراء كل في مجاله وتشفير معلوماتهم وإدخالها إلى الحاسبات وفق قاعدة محددة لا تحيد عنها قيد أنملة "إذا.. حينئذ.."، لاحظ المغالطة اللغوية التالية، التي قد تفوت على ذوي ذكاء وفطنة كأن تقول، إذا وجد سحاب في السماء حينئذ يسقط المطر، فالجملة مغلوطة منطقيا، إذ ليس شرطا أن يسقط المطر كلما وجد سحاب، فقد ترصع السماء الدنيا بسحاب الصيف أو سحاب الخريف ومع هذا لا تسقط مطرا، ولا تروي أرضا، فلا تهتز الأرض أو تربو، إنما دقة العبارة التي توافق وتناسب هوى الحاسبات ونظم الخبرة أن تتحول الجملة إلى: إذا سقط المطر حينئذ يوجد سحاب.

ولكي يستطيع النظام الخبير تحديد شجرة فإنه يجب أن يتضمن جملة قواعد منها، إذا كان الفصل الجغرافي هو فصل الشتاء والشجرة تحمل أوراقا حينئذ فهي شجرة دائمة الخضرة، وأيضا مثل إذا كانت الشجرة دائمة الخضرة وأوراقها إبرية الشكل، حينئذ فالشجرة شجرة صنوبر، وأيضا مثل إذا كانت الشجرة دائمة الخضرة وأوراقها.. حينئذ فهي شجرة كذا، وهذه القواعد وسواها وسواها كثير يمكن أن تشكل قاعدة معرفية لكل أشجار ونباتات العالم، فإن صادف العلماء نبتا جديدا وغرسا غير معروف بدأوا في أخذ رأي النظام الخبير.

وهذه القواعد يتلقاها داخل الحاسب برنامج Soft Ware من البرامج الجاهزة دعاه مبتكروه آلة الاستدلال، تطبق هذه القواعد على أي حقائق أخرى يغذى بها الجهاز، فإذا تم إبلاع أي نظام خبرة يتضمن هذه القواعد بأن الفصل الجغرافي هو فصل شتاء، وأن الشجرة تحمل أوراقا، فإنه يستنتج أن الشجرة دائمة الخضرة، ثم يحاول بعد ذلك أن يطبق القواعد على الأشجار دائمة الخضرة بالبحث في قاعدته المعرفية الاستدلالية عن شكل الأوراق، وهكذا إلى أن يتم التوصل إلى نتيجة أو يستمر في تطبيق القواعد فإن لم يجدها أضاف المعلومات المدخلة إلى قاعدته المعرفية وأصبحت المدخلات قانونا جديدا.. وهكذا.

ومثل هذا الاستدلال الآلي قد يصل إلى حد بعيد مثير للدهشة، لكن لكل أمر في دنيا المخلوقات حدودا وقيودا وإلا تفك إلا بمزيد من البحث والتأصيل، فإن للنظم الخبيرة مشكلة عويصة وهي التفكير أو الاستدلال الحرفي نتيجة ارتكازها إلى الحاسبات الإلكترونية ودوائرها الإلكترونية المعقدة، فإذا لم يتم إبلاغ الآلة ضمنا أن تفعل ذلك فإنها لا تستطيع النظر للموضوع من زاوية تكامل القواعد، مثل، الشجرة خضراء في يناير، ويناير يعني الشتاء، ومع ذلك يختلف الأمر وتعتبرها قاعدة جديدة لا علاقة لها بالشجرة التي تحمل أوراقا في الشتاء، على الرغم من أن أي إنسان يعلم أن يناير قلب الشتاء ولبه، مما يتطلب إدخال قواعد جديدة للربط بين الأشهر والفصول، وهنا يحتاج إلى إدخال كم كبير من التفاصيل التي تتعلق بالموضوع ولكل فرضياته حتى يتمكن الحاسب (النظام الخبير) من استخدامها، وهنا تنشأ مشكلة أخرى تتمثل في القدرة على التعامل مع هذا الكم الوافر والهادر من القواعد.

طبقات من المعلومات

ويتطلب الأمر إيجاد طريقة للاختيار بين القواعد المختلفة والربط المنطقي بينها، وهو موضوع يعتبر واحدا من أخطر التحديات التي يواجهها القائمون على تصميم النظم الخبيرة، ويرجع السبب في ذلك إلى أن معظم هذه النظم لا تستطيع- حتى الآن- الرجوع إلى نتيجة سبق سحبها عن طريق تطبيق قاعدة خاطئة، إذ إن الحصول على نتيجة صحيحة من أول مرة أمر لازم، لذلك استدعى الأمر تحديد مدى مصداقية القواعد المستخدمة، بحيث تضاف درجة المصداقية إلى كل قاعدة مدخلة إلى النظام الخبير، فإذا كانت المصداقية (1) فهذا يوضح أن النظام يعتقد أن القاعدة هذه حقيقة مطلقة، أما إذا كانت درجة المصداقية قيما سالبة مثل (سالب واحد "- 1 ") فهذا دليل على عدم الاعتماد على تلك القاعدة، والقيم بين موجب واحد وسالب واحد تبين درجات الشك في دقة وصحة ومطلقيه القاعدة من الصواب وفي النهاية يتم اختيار النتيجة التي تنال أكبر قدر من معاملات المصداقية.

إن أسلوب معالجة آلة الاستدلال للقواعد المسجلة أمر جدير بإلقاء نظرة سريعة، فقد يجري الاستدلال، كما في حالة الشجرة، بداية من جذورها ثم الأفرع وصولا إلى الأوراق، كأن نقول هذه شجرة عائلة فلان، والد فلان، جد فلان، وقد يكون الاستدلال بأسلوب معاكس يبدأ من الأوراق ثم الفروع وصولا إلى جذور الشجرة، كأن نقول هذا فلان بن فلان بن فلان حفيد فلان، وبهذا يحاول الجهاز أو النظام الخبير استخدام كل مكونات القواعد الممكنة من أجل الوصول بسرعة إلى النتائج المرجوة، ولكلا الأسلوبين مزايا ونواقص، ولا فضل لأسلوب على الآخر إلا بمدى ما يحقق من حقائق وبمدى سرعة استجابته لمستخدمه. ومع كل إشراقة شمس وانسحاب الظلام أمام ضوء النهار تتطور أجهزة النظم الخبيرة تطورا كبيرا فلم يعد لأسلوبي البحث الراجع أو البحث المتقدم السيطرة الوحيدة على طريقة الاستدلال، إذ طرح أخيرا نظم دعوها أغلفة نظم الخبرة وهي تتيح تطوير الاستدلال في مجالات عديدة، وتشبه الأغلفة طبقات فوق طبقات من القواعد، في أعلاها قواعد عامة تتدرج في التخصص الدقيق كلما انتقلت آلة الاستدلال إلى استدعاء طبقة تالية، وهكذا وصولا إلى عمق الأعماق فيما هو متاح على الجهاز الخبير.

برامج تشرح وتفسر

والنظم الخبيرة إحدى نتائج بحوث الذكاء الاصطناعي وهو العلم الذي نشأ منذ الخمسينيات مع تفكير العلماء في إكساب الحاسبات الإلكترونية القدرة على أداء أعمال يتطلب القيام بها ذكاء من الإنسان، لذلك كانت بحوث الذكاء الصناعي خليطا من العلوم جمع بين علم النفس والأعصاب والرياضيات والمنطق والحدس وعلم التشريح وبعد بحوث مضنية معقدة بدأت بشائر هذه الدراسات الشاقة والمجهدة في البزوغ، وكان أبرزها وفي المقدمة منها النظم الخبيرة، وهي ببساطة شديدة استخدام الحاسبات في تكديس مئات الآلاف من الحقائق والقواعد، ويتم تخزينها وفق المبدأ الذي أسلفناه ونؤكده "إذا.. حينئذ.."، وتخزن على وسائط تخزين الحاسبات ويتم استدعاؤها فور الحاجة إليها، وفي ظل وجود برمجيات تشرح وتفسر مما تتيح للإنسان التعامل مع هذه النظم باللغة الإنجليزية، لذا اكتسبت النظم الخبيرة أرضية مقبولة ومعقولة وكانت انطلاقة وإشارة البدء في بحوث أكثر وأشد تعقيدا سيكون عمادها الجيل الخامس من الحاسبات الإلكترونية والذي ينتظر إعلان ميلاده في غضون سنة أو أكثر.

والواقع أنه منذ الستينيات ظهرت برامج كثيرة في مجالات النظم الخبيرة وبذلك تحولت الحاسبات الإلكترونية إلى زمرة من الخبراء أو الخبراء الآليين في فروع شتى، ولعل أظهرها على الساحة وأسبقها إلى الخدمة البرنامج الطبي الخبير "مايسين " والذي أعلن عنه في السبعينيات والذي زود بقاعدة معرفية تناولت إصابات البكتريا والفطريات وأساليب علاجها بالمضادات الحيوية، وركز برنامج "مايسين " ضمن ما ركز على مظاهر المرض، والآثار الجانبية للعلاج والعلاقات المتقاطعة بين مختلف التأثيرات العضوية، وتلاه برنامج آخر دعي Prospector تناول الأبحاث الجيولوجية وطبقات الأرض وأنواع الصخور وتحاليل العينات وكان ولايزال يرشد كثيرا من رجال التعدين والبترول.

ولأن النجاح مثل المرض المعدي في معظم بلدان العالم فما أن هلت الثمانينيات حتى أعلن عن عدد لا نهائي من النظم الخبيرة تناولت التعليم والاقتصاد والبنوك وصيانة السيارات وإدارة النقل وملئت كلها بالحقائق والقواعد وكانت مثل نحزن حقائق منظم سريع، لكنها لا تقدر على اكتساب خبرة ومعارف ذاتية، حتى جاء عقد التسعينيات وبدأ الأمل يزداد إشراقا في إمكانها اكتساب خبرات ذاتية نتيجة للتطوير الكبير في معدات الحاسب الآلية والبرمجية وارتكان الأخيرة على أنظمة يطلقون عليها برامج الشرح والتعليم.

طموح الجيل الخامس

والواقع أنه رغم كل فوائد النظم الخبيرة بداية من نظام "مايسين " الطبي، ونظم الإدارة ونظم التصنيع، إلا أنها مازالت محدودة الفائدة بالنسبة للأعمال التي تتطلب قدرة على التفكير والإدراك والإبداع واتخاذ قرارات تشمل مؤثرات بيئية متعددة. ومما يؤكد ما أسلفناه تجربة لواحد من أشهر البنوك الأمريكية في العالم إذ غير بطاقته الائتمانية، وأرادت إدارة البنك تحويل بطاقات عملائها المقدرين بعدة ملايين على امتداد رقعة الكرة الأرضية، ووجدت الإدارة نفسها أمام مأزق عويص يتطلب عشرات السنين لإنهائه، ولجأت الإدارة إلى علماء النظم الخبيرة، وطرحت الأمر عليهم، وقدموا للبنك نظاما خبيرا يقوم بتنفيذ ثلثي الإجراءات الروتينية، فماذا وجد الخبير الآلي شيئا غير عادي فإنه يقدم تقريرا يشمل جميع الحقائق إلى الموظف المختص ليتخذ القرار النهائي والخطوة الحاسمة، وكانت أخبارا سارة لفتت أنظار البنك، وتسللت قصة نجاح النظام الخبير عبر الأروقة والقاعات وعلاج الحبور والسعادة جباه العاملين إلا المديرين كانوا عابسين قانطين، فالنظام الخبير ليس بشرا يمارسون عليه أساليب الإدارة والقيادة والسيطرة فهو مجرد حاسب إلكتروني معبأ به حزمة برامج لا تدرك ولا تعي البعد البشري والعلاقات الإنسانية بين المدير والموظفين. ويقول الدكتور أيجور الكسندر، أستاذ هندسة النظم في الكلية الملكية بإنجلترا إن إكساب الحاسبات القدرة على الذكاء لن يتأتى من خلال الدوائر الإلكترونية التقليدية مهما بلغت كثافة تركيزها ودرجة تصغيرها، وإن الأمل معقود على الشبكات العصبية وحاسبات الجيل الخامس حيث توجد بلايين التوصيلات الإلكترونية التي تصب في مراكز صغيرة تسمى النيورونات وبالتالي فإن المشغل الدقيق الواحد سوف يضم مئات الآلاف من المشغلات الأصغر والأدق ولكل واحد منها ذاكرته الخاصة، وسيكون لهذه الحاسبات شأن عظيم في التنبؤ بالجو وأعمال البورصة، ويؤكد هذا نتائج تجربة في أحد أضخم بنوك اليابان، حيث ارتكن في تقديراته على حاسب الشبكة العصبية، ونجح الحاسب نجاحا عظيما، وحقق تنبؤات صحيحة بنسبة 65% عن حركة الأوراق المالية في بورصة طوكيو خلال النصف الأول من عام 1995، في حين لم يحقق أعظم وأبدع خبراء البورصة أكثر من 50%، وكسب البنك من وراء الحاسب ملايين الدولارا ت. أخيرا، أجدني أضم صوتي إلى نداء أطلقته العربي في إحدى معالجتها لمفهوم "عصر المعلوماتية" حيث ورد التمني ألاّ يمرق من أيدينا هذا العصر كما مرقت عصور البخار والكهرباء والذرة- في حينها- والله أدعو ألاّ يفلت عصر المعلوماتية من الوطن العربي، فالمعلومات قوة ومتعة، وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟!

 

محمد نبهان سويلم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




التنبؤ بالمناخ ليس سحرا بل أحد معطيات الكمبيوتر





تستطيع النظم الخبيرة استعادة صور الماضي بناء على معطيات الحاضر الكمبيوتر هنا يتعقب تكوين القارات منذ 58 مليون سنة





أعمق أسرار الخلية الحياة يسعى إليها الكمبيوتر عن طريق النظم الخبيرة