حضارة الكلور في قفص الاتهام سمير صلاح الدين شعبان

حضارة الكلور في قفص الاتهام

الكلور، يراه الصناعيون عصب التقنية المعاصرة ، فهو يتغلغل في باقة شديدة التنوع من المنتجات المهمة أو الضرورية لحياة الإنسان المعاصر، بدءا بالأدوية والمبيدات، مرورا بالأصبغة، واللواصق، وانتهاء بالبلاستيك واللدائن. لكن هناك من يرى للكلور وجها آخر.. فهل هو شيطان أم ملاك؟.

يعني الكلور لأنصار البيئة: ثقب الأوزون، والمذيبات المحرضة للسرطان وجميع حوادث الصناعة الكيميائية المفجعة، التي وقع آخرها- حسب علمنا- حينما أمطر حي غريزهالم في فرانكفورت بوابل من الكلور المنتشر من أحد مصانع شركة هوكست "العريقة" في قمة الاحتفالات بالتنكر "الكارنفال أو الفاشينغ، في اثنين الورد" في ربيع 1993 م.

سجل حافل

لم يشعل فتيل الجدل الحالي غاز الكلور، أو فلنقل عنصر الكلور الحر، على الرغم من أن عنصر الكلور غاز سام اكتسب شهرته المأساوية من استخدامه في ساحات القتال: ففي 22 نيسان/ أبريل 1915 م سلط الجنود الألمان 180 طنا من غاز الكلور "سمي وقتها غاز الخردل " على القوات الفرنسية المتمركزة على مقربة من بلدة ايبيرن YPERN، وفتحوا بذلك الباب لسلاح جديد من أسلحة الدمار الشامل، بيد أن موجة الاستياء الحالية تشير بأصابع الاتهام إلى كيمياء الكلور ومنتجاتها النهائية، التي يمثل الكلور مادتها الأولية.

ومن أشهر هذه الأمثلة مركب د. د. ت، المبيد للحشرات، الذي تسلل إلى سلسلة الغذاء بكميات كبيرة، وأضحى بذلك رمزا لإفناء العديد من أنواع الطيور، واختفائها من البيئة، ويضاف إليه باقة كبيرة من الفريونات "مركبات الكلور والفلور مع الفحوم الهيدروجينية" المتهمة بتفكيك طبقة الأوزون في طبقات الجو العليا ومنها مركب لم تكن تعرفه الجماهير من قبل "أورتو نتروآنيزول " الذي أطلق في ربيع 1993 م سلسلة من الحوادث في مصانع شركة هوكست العملاقة، مما أجج الجدل وقدم لأعداء الكلور أدلة لا يستهان بها.

وفي جميع حوادث الصناعة الكيميائية، وخيمة التبعات، والتي وقعت في السنوات الأخيرة كان للكلور إصبع بارز فيها:

1976 م، سيفيسو الإيطالية، حيث خرجت إحدى منشآت الإنتاج عن السيطرة، وأمطر الناس والحقول بسحب من مادة "دي أوكسين DIOXINE" شديدة السمية.

1984 م، بوبال الهندية، حيث تسربت مادة سامة "فوسجين، المصنف ضمن الأسلحة الكيميائية" قتلت 3 آلاف شخص من فورها.

1986 م، قرب بازل BASEL السويسرية "الشهيرة في الأدبيات العربية باسم بال "، حيث اندلع حريق كبير لمبيدات أعشاب حاوية على الكلور، تسللت مع الماء المستخدم في إطفاء الحريق إلى نهر الراين، وتسببت في مجزرة جماعية لأسماكه.

وهنا يتساءل المواطن العادي: ما دامت خطورة الكلور ومشتقاته كبيرة إلى هذا الحد، فلماذا لا تنزع الصناعة يدها منه، على مبدأ "ابعد عن الشر وغني له "؟.

ويجيب الصناعيون عن هذا التساؤل بأن أمر الكلور ليس بالبساطة التي اعتادها الشارع أثناء الجدل حول الانسحاب من الطاقة النووية، فلو تم وقف جميع المفاعلات النووية دفعة واحدة لحدثت "هزة" في تأمين الطاقة الكهربائية، لكن محطات توليد الكهرباء الأخرى- مثل تلك التي تحرق النفط أو الفحم الحجري أو الغاز الطبيعي- ستستمر في أداء عملها دون اضطراب يذكر، لأن الطاقة النووية "مفصولة" انفصالا واضحا عن مصادر الطاقة الأخرى.

وهنا يكمن الفارق الجوهري بين الطاقة النووية وكيمياء الكلور، فلو سحب المرء- بين عشية وضحاها - ملايين أطنان الكلور المنتجة في سائر أنحاء العالم "حصة ألمانيا وحدها 3. 4 مليون طن " من شبكة التوزيع شديدة التفرع لتزلزلت أركان جميع فروع الصناعة الكيميائية- وغير الكيميائية- الأخري: يمثل الكلور مفتاحا رئيسيا لإنتاج قرابة 60 بالمائة من مجموع منتجات الصناعة الكيميائية.

يرجع فضل التغلغل الواسع لكيمياء الكلور إلى انطلاقها من مادتها الأصلية الرئيسية: ملح الطعام "كلوريد الصوديوم " الزهيد والمتوافر بكميات كبيرة، إضافة إلى الماء والهواء وبعض الفلزات إضافة إلى النفط، وعند شطر ملح الطعام "كلوريد الصوديوم " المذاب في الماء "بواسطة الكهرباء" تستحصل كيمياء الكلور على منطلقاتها الأساسية "غاز الكلور والصود الكاوي وغاز الهيدروجين ".

ومن هذه الفئة القليلة يتم استحصال 300 مركب كيميائي، تمثل اللبنات الأساسية للتقانة الكيميائية الشاملة، وعند معالجة هذه المركبات التي تعد بالمئات مع الخامات الكيميائية الأساسية (الكلور والصود الكاوي إضافة إلى حمض الكبريت، والنشادر "الأمونيا" أو الإستيلين)، يحصل المرء على قرابة 5 آلاف مادة معقدة.

ونتيجة مزج مواد مختارة من هذه الآلاف القليلة يتم استحصال المنتجات التي تغزو حياتنا اليومية، بجيش يقدر عدد أفراده بحوالي 30 ألفا، مثل اللواصق، المنظفات، العقاقير الطبية، وغيرها.. وفي كثير من الحالات لا "يشم " المستهلك رائحة المنتجات الكيميائية، بدءا بالسيارة، مرورا بالمنسوجات وانتهاء بالإلكترونيات الترفيهية والعادات الغذائية، التي طبعت بطابع مميز للصناعة الكيميائية، بما فيها كيمياء الكلور.

وحق لنا أن نتساءل هنا: كيف احتل الكلور الخطر هذه المكانة المرموقة؟.

لا يمثل الكلور ظاهرة نادرة في الطبيعة، فهو ينتمي إلى العناصر العشرين الأولى في القشرة الخارجية لكوكبنا الأرضي، ويقارب تركيزه في مياه المحيطات، اثنين بالمائة، ففيم الاعتراض؟ يجيب أنصار البيئة بأن الكلور في الطبيعة يلجمه ارتباطه بالعناصر الأخرى، ويلقون باللائمة على مطلقي سراحه وتحويله إلى المذنب الأساسي لحضارة الكيمياء المعاصرة.

لكن البراكين- على الأقل- تطلق الكلور الغازي المتهم، بيد أن شراهته الشديدة للاتحاد مع العناصر الأخرى "لا يبزه بين العناصر غير المعدنية إلا الفلور" تجعله يسعى من فوره إلى البحث عن شريك "مثل البوتاسيوم أو المغنيسيوم ".

شراهة ذرة الكلور الشديدة للاتحاد هي المسئول الرئيسي عن عدوانيته وآثاره الضارة على نسيج كل من الإنسان والحيوان والنبات، وكذلك سبب ولع الصناعة الكيميائية به.

ولعل أوضح الأمثلة في هذا المضمار طغيان الصناعة البتروكيميائية على سائر فروع الصناعة الكيميائية الأخرى خلال عقد واحد تقريبا "الستينيات "، التي سبحت على موجة نفط الشرق الأوسط الرخيص، فمن المعروف أن النفط يتكون بصورة رئيسية من الفحوم الهيدروجينية "الخاملة " أصلا، لكن الكلور الشره يتفاعل معها بسهولة، مضفيا عليها شراهة للتفاعل لم تكن تمتلكها، وبذا يمكن تحويلها إلى العديد من لبنات البناء البتروكيميائية، التي تشكل الخامات الأساسية للصناعة المعاصرة.

وأسارع هنا إلى التذكير بأن النفط لم يكن العامل الحاسم في اكتشاف مواهب الكلور وشراهته، بل اقتصر دوره على تحسين مكانة الكلور.

تاريخ متأرجح

إذ بدأ بروز الكلور بصفة عامل اقتصادي معتبر في الحضارة التقنية الحديثة في أواخر القرن الثامن عشر، حينما اكتشف الكيميائيون مقدرته على إزالة الألوان "القصر"، وليس غريبا أن يزداد إقبال صناعة النسيج على مركبات الكلور، التي تختصر زمن عملية القصر "قصار الكلسيوم، ومحاليل تحت الكلور" ومع تنامي صناعة النسيج في القرن التاسع عشر أضحى الكلور ينتج بكميات صناعية ضخمة.

وكما يقول المثل "مصائب قوم عند قوم فوائد" إذ خرج الكلور رابحا من موجة الوعي البيئي لتلك الفترة: ارتبط تصاعد الصناعة النسيجية بتزايد استهلاك البوتاس "فحمات البوتاسيوم "، الذي كانت ضحيته مساحات واسعة من الغابات، لذا أجبر الضغط الجماهيري على الاستغناء عن البوتاس، فاستعاضت عنه الصناعة بقريبه الكيميائي: الصودا "فحمات الصوديوم "، المنتجة من مناجم الملح الصخري العملاقة، ومن فضلات استحصال الصودا "روح الملح " تم إنتاج الكلور على نطاق صناعي "بعملية الاكسدة أو التفاعل مع أكسجين الهواء".

وبدأت نقطة الانعطاف باتجاه الوضع السائد حاليا في أواخر القرن الماضي، إذ أدى ابتكار الكهرباء إلى جعل طريقة التحليل الكهربائي الطريقة المفضلة لإنتاج الصود الكاوي "ماءات أو هيدروكسيد الصوديوم "، وهنا يتم تحليل ملح الطعام إلى كلور وصود كاو بتكاليف أرخص.

وقتها كان الطلب كبيرا على الصود الكاوي "لتغطية الحاجة المتزايدة للحرير الصناعي "، نتج معه الكلور بكمية تفيض على الحاجة بشكل ملموس جدا، وكان لا بد للصناعة من التفكير بطريقة عملية للاستفادة من " فائض " الكلور هذا، فاهتدت إلى ضرورة إدخال الما دة الزهيدة هذه في شبكة المركبات الكيميائية، وتسخير الكلور في إنتاج مستحضرات صالحة للتسويق، تضاف إلى الاستخدامات التقليدية للقصر والتعقيم.

وشرع في استخدامه في إنتاج الأصبغة "مثل إنديغو"، بيد أن الموجة العارمة جاءت مع البدء بالاستخدام الواسع للمذيبات المكلورة ولدائن متماثر كلوريد الفينيل PVC. وبذا تحولت كيمياء الكلور من مستثمر صرف للقمامة إلى واحد من أهم موردي الخامات الصناعية.

وبذا أضحى الكلور إحدى الدعامات الرئيسية للصناعة الكيميائية الحديثة، يؤدي انهيارها "على سبيل المثال عن طريق وقف الإنتاج الضخم للمذيبات ومتماثر كلوريد الفينيل " إلى زلزلة معظم أركان الشبكة الكيميائية، ولو اكتفى المرء "بالحد" من إنتاج الكلور لاضطر المرء إلى خفض إنتاج الصود الكاوي، الذي تحتاجه الصناعة بكميات كبيرة حتى يومنا هذا.

وهنا يذكر أنصار البيئة بأن الصود الكاوي برز أصلا بصفته بديلا عن الصودا "فحمات الصوديوم " في مجالات استخدامها التقليدية، ويتساءلون: فلماذا لا نعيد عجلة التاريخ إلى الوراء ونحل الصودا ببساطة محل الصود الكاوي؟ ويضيف المعترضون أن قرابة 50 بالمائة من باقة المنتجات المرتبطة باستخدام هذا الغاز الخطر لا تحتوي على الكلور في المنتج النهائي، ويقتصر دوره على المراحل البينية، فلماذا لا نمرر هذه المنتجات على "جسور" أخرى خالية من الكلور؟.

منع أم تحويل؟

ترد الصناعة عن هذا التساؤل بالإيجاب، وبأن استراتيجيتها الأولى تتركز في التفكير بطرائق إنتاجية "بديلة" خالية من الكلور لاستحصال 5 آلاف اللبنات الأساسية، وضمن الاستراتيجية الثانية يتم الاقتراب خطوة أخرى نحو المنتج الخالي من الكلور عن طريق الحد من استخدام المواد التي تظهر تبعاتها السمية أو البيئية السلبية أو منعها منعا تاما.

وتتجلى الاستراتيجية الثالثة للشركات في تشديد تدابير الحيطة والأمان، التي ستزيد التكلفة بالضرورة، ويتذمر المنتجون منذ بعض الوقت من قلة أرباحهم من البلاستيك الرائد عالميا: متماثر كلوريد الفينيل PVC، والذي يبتلع- وحده ربع الكلور المنتج في سائر أنحاء العالم. وهذا يوحي باقتناع الصناعة بإمكان تجاهل جميع الحوادث المؤلمة، والاستمرار في ركوب " النمر" الخطر، ومع أن الساسة غير مطمئنين، إلا أنهم لا يرغبون في كبح جماح النمر أثناء انطلاقه بسرعته القصوى ووقفه عن الحركة بطرفة عين، إذ تجعلهم شبكة المواد المتداخلة يميلون إلى الاستعاضة عن "المنع " العنيف بعبارة "التحويل " الطرية: ليست كيمياء الكلور "خانا" مغلقا يفتحه المرء أو يغلقه متى شاء!.

وحسب اعتقادي المتواضع فإن هذه الاستراتيجيات الثلاث: التفكير بلبنات أساسية بديلة، واستبعاد مركبات الكلور الخطرة، وإجراءات الأمان قد تخفف سرعة انطلاق النمر- حتى حين- بيد أن الإحصاءات تنذر بهبوب العاصفة، ففي السبعينيات كان الإنتاج العالمي للكلور مؤشرا للتقدم والرفاه، لكن الكمية المنتجة من هذا العنصر الأصفر الضارب إلى الأخضر تجمدت عند رقم ثابت، ولو كان مرتفعا.

آفاق المستقبل

تدل هذه النتيجة على الدور الفاعل للشارع الغربي، الذي يتساءل: هل يمثل الكلور ضرورة اقتصادية لا غنى عنها؟ تتعذر الإجابة عن هذا التساؤل اعتمادا على المسوغات العلمية- التقنية وحدها.

فعلى سبيل المثال هناك مبيدات للأعشاب ترتبط مهمتها بوجود ذرة الكلور في تركيبها، وقل مثل ذلك في بعض العقاقير الطبية، المستخدمة في شفاء البشر من الأمراض، كما أن البلاستيك رقم "PVC" يشكل الكلور نصف وزنه تقريبا، وسيعني منعه التحول إلى منتجات مختلفة جذريا، وهذا ما تطلبه حركة السلام الأخضر سطح GREEN PEACE، وتشمل لائحتها البديلة الخشب، والنحاس والجلود، والتي لا تبهج أصحاب المصانع الكيميائية.

وليس غريبا أن تستغل الشركات الغربية ضعف أجهزة الرقابة أو فسادها في اختصار نفقات تدابير الأمان، لتجعل الدول المضيفة تدفع دم الآلاف من أفراد شعبها لقاء امتصاص حفنة من يدها العاملة.

وما أمر بوبال الهندية منا ببعيد.

 

سمير صلاح الدين شعبان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




حضارة الكلور في قفص الاتهام





معظم الصناعات الكيماوية هبتها الكلور ولعنتها تلوث البيئة





أنهار الصودا الكاوية أحد إفرازات حضارة الكلور