هؤلاء السينمائيون العرب وسيرهم الذاتية أحمد رأفت بهجت

هؤلاء السينمائيون العرب وسيرهم الذاتية

إذا أراد المخرج السينمائي التوغل من خلال أفلامه في أعماق ذكرياته الخاصة أو سيرته الذاتية، فإن عليه الإيمان بأن هذا الاتجاه سيظل دائما سلاحا خطرا تحكمه قدرة الفنان على الكشف عن مكنونات ذاته. ومدى صدقه. فهو الفيصل بين أن يخلق الفنان بنفس الإمكانات تحفة فنية خالدة أو أن يقدم مسخا زائفا.

لقد انعكست أصداء "السير الذاتية" على العديد من أفلام بعض أعلام السينما العالمية .. فبينما كان الإيطالي "فيلليني " لا يستطيع أن يهرب من خيالاته السينمائية التي تعمق سيرته الذاتية في أفلامه: " 2/ 81"، "روما فيلليني "، "إني أتذكر" " المقابلة"، كان الفرنسي فرانسوا تروفو ( 1932- 1984 ) يقدم الكثير من ملامح فترة شبابه التعسة من خلال شخصية الفتى "أنطوان دوانيل " في أكثر من خمسة أفلام منها " الأربعمائة ضربة" " قبلات مسروقة " " منزل الزوجية"، وكان السويدي " أنجمار برجمان " والأمريكي " وودي الين " والمجري "ستيفان زاو" .. وغيرهم يترجمون رؤياهم الخاصة في الدين والحب والتاريخ والأحداث السياسية المعاصرة في سيرهم الذاتية التي احتلت مكان الصدارة في أكثر من فيلم من أفلامهم الشهيرة. ورغم تفاوت التجاوب النقدي والجماهيري تجاه هذه النوعية من الأفلام. فإن الواقع يؤكد أنها كانت تقدم في نطاق سينما متقدمة ومتعددة الاتجاهات، وتملك تنوعا هائلا من الجماهير مختلفة الثقافات والأذواق .. وفي النهاية تظهر في نطاق سينما- سواء أمريكية أو أوربية- تشبعت بالأفلام المأخوذة عن السير الذاتية الخاصة بالقادة والزعماء والعلمام والنجوم والأبطال في شتى مجالات الحياة. بل تمادت إلى حد التعامل مع "السير الذاتية" للمجرمين والقتلة وراقصات الاستربتيز!!.

ومن هنا فإن أول تساؤل يطرح نفسه أمامنا عند الحديث عن الأفلام العربية المأخوذة عن "السير الذاتية" لبعض مخرجينا هو: هل قامت السينما العربية بدورها في تجسيد تاريخ وسير أعلام وأبطال وقادة التاريخ القديم والمعاصر للأمة العربية حتى يتفرغ سينمائيونا لصياغة سيرهم الذاتية؟.

إن "أفلام السير الذاتية" التي يقدمها السينمائي عن ذكرياته ربما تعكس الكثير من حياة شعبه على كل المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما قد تمثل انطلاقة من دائرة الموضوعات التقليدية في السينما العربية، إلا أن أهداف التعامل معها قد تتباين. فربما يرتكز الفنان على سيرته الذاتية لأنها غالبا ما تتحدث عن الماضي الأمر الذي يجعله لا يواجه أي مشاكل رقابية تحد من تعبيره وربما يستشعر الفنان أهمية تجربته مع الفن والحياة وينشد من تقديمها تأكيد ذاته وبلورة رؤيته تجاه قضايا مجتمعه ليحقق الاقتراب ممن سبقوه في هذا الاتجاه في السينما العالمية. وأخيرا هناك - وهنا تكمن الخطورة - عملية الإدماج المدروسة بين السير الذاتية للفنان وبعض الأنماط والأحداث والرموز السلبية التي تحقق لبعض الإنتاج العربي- المشترك مع أوربا- مصداقية الوثيقة لتأكيد إدانة المجتمعات العربية بالأيدى العربية في مواجهة المتفرج الأوربي. وهذا النوع الأخير نجد أن تشابه موضوعاته، ووحدة أهدافه، والاشتباه في مصادر تمويله، وأحتضان بعض مهرجانات السينما العالمية له بدون أسباب فنية حتمية، كلها أمور تدفعنا إلى البحث عن مدى خطورته خاصة عند تعامله مع قضايا الشعوب والأوطان!.

حامينا.. والبدايات

انبثقت البدايات الأولى في هذا الاتجاه من أفلام المخرج الجزائري محمد الأخضر حامينا. فأغلب أفلامه كانت ترتكز على حياته وذكرياته الشخصية قبل وأثناء وبعد حرب التحرير الجزائرية. ويوضح حامينا في أكثر من مناسبة مدى التشابه بين قصة الأم في فيلمه الأول "رياح الأوراس " 1966 وقصة جدته التي ماتت تأثرا بمقتل والدة الأخضر على أيدي الجيش الفرنسي، ويؤكد أن هناك مواقف عاشها في صباه ما بين عامي 1939 و 1954 واعتمد على ذاكرته للوصول إلى الصورة الصحيحة لها في أفلامه "ديسمبر" 1972 (الجزائر- فرنسا) "وقائع سنوات الجمر" 1975 (الجزائر- فرنسا)، " الصورة الأخيرة " 1986 (الجزائر - فرنسا) وجميعها استقبل بحفاوة بالغة في دورات مهرجان كان الفرنسي، حيث فاز "رياح الأوراس" بجائزة العمل الأول في كان 1967. وحقق "سنوات الجمر" مفاجأة لم يكن يتوقعها أحد عندما فاز بجائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان 1975.

وربما يرى البعض أن المشاركة الفرنسية في إنتاج بعض هذه الأفلام كانت سببا ودافعا وراء هذا الاهتمام الأوربي، ولكن الحقيقة هي أن حامينا وهو يقدم في كل أفلامه أحداثا تتعلق بالصراع الجزائري- الفرنسى كان يتستر خلف شعارات مثل "تجنب الديماجوجية الثورية" "إن جميع الفرنسيين ليسوا من الأوغاد" "إنه من غير اللائق إظهار التعذيب في السينما".. إلى غير ذلك، لكي يخلق أحداثا ربما يسند بعضها إلى وقائع من سيرته الذاتية، ولكنها الوقائع التي تهدف فقط إلى أن تهادن استعمار الأمس القريب، وأن تخلع على بعض أفراده صفات النزاهة والعدالة.

إن فيلم "رياح الأوراس " منذ أن شاهدناه في مصر في نهاية الستينيات ونحن نستشعر تجاهله لفظائع هذا الاستعمار. وجاء فيلمه "سنوات الجمر" ليثير إعجاب العين الأوربية- على حد تعبير د. رفيق الصبان في مجلة السينما والمسرح يوليو 1975- التي ترى فيه شيئا فولكلوريا ويرضي ضميرها السياسي تردده الوطني وإغفاله إيذاء أوربا المتمثلة في فرنسا. كما يؤكد فكرتها عن العالم الثالث وتخلفه أو بمعنى أدق هو التأويل الفرنسي عن استعمار الجزائر كما يرى بعض النقاد الجزائريين!! وا يكن غريبا بعد ذلك أن يغازل حامينا اليهود والفرنسيين "من خلال قصة مدرسته الفرنسية مسز بواييه " في فيلم "الصورة الأخيرة" الذي يعتبره "إعلان حب تجاه بعض الفرنسيين الذين كنت مغرما بهم إبان تلك الحقبة حوالي عام 1939 ".

لقد بدأ حامينا منذ أن أخرج فيلمه الروائي الأول يعطي السينمائيين العرب ذلك الإحساس المثير. الإحساس بأنهم يستطيعون غزو أوربا بأفلامهم بل والفوز بالجوائز المهرجانية إذا استطاعوا تقديم لون من الموضوعات يهيىء للمتفرج الأوربي تلك الافكار التي يرتاح إليها عند تعامله مع الشرق العربي. ألا وهي أن يعطي صورة أصيلة في ظاهرها ولكنها ملتوية مشوهة لا تبغي إلا مزج التقاليد العربية بدوافع التخلف والقهر بحيث يجد بطل الفيلم- العربي أيضا - نفسه غارقا إلى أذنيه في تلك الهموم التي تجعله يدرك أن حياته أهدرت وتتحول نظرته إلى نفسه وإلى مجتمعه فتصبح نظرة شديدة قاسية. وعندما يحاول أن يبحث عن القيم الحقيقية- وهو عمل يهدد وبلا شك تقاليد هذا المجتمع- لن يجد أمامه سوى الاتجاه إلى الغرب سواء بالهجرة إليه أو الإيمان بقيمه أو التواصل مع العناصر الإيجابية داخل مجتمعه العربي وهذه العناصر لن يجدها إلا في شخصيات نادرة وغالبا ما تكون يهودية!!.

لقد نجح حامينا في أن يجعل "السير الذاتية" اتجاها تتوارى خلفه مواهب حقيقية من المخرجين في شمال إفريقيا أو المهاجرين منها إلى فرنسا وكان من نتائجه ظهور "السيرة الذاتية" للمخرج الجزائري المقيم في فرنسا مهدي شريف في فيلم "الشاي في حريم أرشميدس " 1984 وفيه يلصق كل الموبقات الاجتماعية في مجموعة من أبناء المهاجرين العرب، مجموعة أصبحت غير نافعة للمجتمعات المتحضرة وغير مرغوب فيها، وإذا كان للشباب الفرنسي مآسيه في مجال البطالة والتفكك الاجتماعي والضياع النفسي، فإن العرب أصبحوا جميعا حالات مرضية لا جدوى من إصلاحها.. ويبقى الاستثناء في بطل الفيلم المنشود الذي أصبح أديبا- المخرج في الواقع- بمساندة بعض اليهود. ويؤكد شريف في حديث له بمجلة سينما توجراف- يوليو 1985: (إن جميع عناصر فيلمه عن سيرته الذاتية.. ولكن لم أشأ إلقاء اللوم على المجتمع الفرنسي لم أشا أن أقول: إذا كان المهاجرون العرب بؤساء فالسبب هم الفرنسيون. وكنت أريد تفادي هذا "الكليشيه " (الطيبون والأشرار).

وتوالى ظهور "السير الذاتية" لمخرجين من أمثال التونسي "نوري بوزيد" الذي قدم معاناة بطله اللوطي في فيلم "ريح السد" 1986، ورشيد بوشارب وبطله الناقم على وطنه الأصلي الجزائر بعد أن عاش نعيم فرنسا في "شاب " 1990. وفريد بوجدير الذي يستعيد جزءا من ذاكرته حين كان طفلا في حي الحلفاوين التونسي وذكرياته في أحد حمامات النساء في الحي في فيلمه "الحلفاوين " 1991.

ولقد أثار "ريح السد" وقت عرضه ضجة بن النقاد العرب لخصها الناقد محمد رضا في مقال له بمجلة الحوادث اللبنانية يقول فيه: "الذين وقفوا مع بوزيد رأوا في هذا التقديم عملا عاديا للغاية. فإن اليهود عاشوا في تونس كما عاشوا في غيرها، قديما وحديثا، ولا يوجد مانع موضوعي واحد يحول دون تقديمهم. لكن الذين عارضوا هذا التقديم لم يفتقدوا كذلك الحجة القوية". حجة المعارضين تقوم على أساس أن الشخصية الوحيدة الطيبة في هذا الفيلم (ماعدا شخصية البطل اللوطي) هي شخصية اليهودي. الذي لجأ ذلك الشاب إليه باحثا عن الفن والوداعة والفهم الإنساني العميق. أما باقي الشخصيات فكلها عدائية.

والبقية مع شاهين

ربما كان الاختلاف الوحيد بين الأخضر حامينا ويوسف شاهين هو أن الثاني جاء تعامله مع سيرته الذاتية بعد عشرات الأفلام الروائية التي تدعمها طبقة مستورة من الأفكار التي تعكس رغبته الدفينة في أن يكون مخرجا لأعماله صدى في الغرب، في البداية نجح في أن يكون متوازيا خاصة عند معالجته لموضوعات جوهرها الصراع بين الشرق العربي والغرب مثل "جميلة" 1958، "الناصر صلاح الدين " 1963.

فهجومه الصريح على الاستعمار الفرنسي في الفيلم الأول لم يمنعه من أن يجعل الفتاة الجزائرية جميلة تكتسب كيانها ثم حياتها، ليس من المقاومة الجزائرية البطولية ولكن من كتاب "قانون نابليون " الذي أتاح لها الفرنسيون دراسته في الجامعة، وكان سندها في مواجهة جلاديها، وتساعدها عشرات الشخصيات الفرنسية والأوربية (الراقصة القبرصية سيمون، المحامي الفرنسي إمبلاد، الطبيبة الفرنسية جيانين، لسجان الفرنسي.. وغيرهم)، ثم يأتي دور الصحافة الفرنسية الحرة لتتوجها بطلة قومية يتحدث عنها العالم! وبنفس المنطق خلق في الفيلم الثاني توازنا عند تعامله مع الناصر صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد، وهو توازن لم يتحقق إلا بتجاهل الفيلم بعض المذابح التي ارتكبها ريتشارد قلب الأسد ضد العرب.

لذلك عندما بدأ شاهين التعامل مع سيرته الذاتية في فيلمه "إسكندرية ليه " 1979، كان يعرف جيدا طريقه إلى المتفرج الغربي، ولم يكن غريبا أن يفوز هو أيضا عن هذا الفيلم بالجائزة الأولى في مهرجان برلين 1989. رغم أن الفيلم لم يكن أفضل أفلامه التي شارك بها في المهرجانات من قبل، وكان لهذا الفيلم الفضل في استمرار شاهين مع سيرته الذاتية في فيلميه "حدوتة مصرية" 1982، "إسكندرية كمان وكمان " 1991. ومن خلال هذه الثلاثية نستطيع أن نستخلص عدة ملامح أهمها:

1 - لا يمكن أن نتجاهل مقارنة ثلاثية شاهين الذاتية بما قدمه فيلليني وتروفو وبوب فوس خاصة بالنسبة لأفلامهم التي صورت لحظات تعامل المخرج الحرفي والفني والإنساني قبل تصوير الفيلم (2/ 81 لفيلليني) أو مشاكل المخرج أثناء فترة التصوير نفسها (الليل الأمريكي لتروفو) أو تداعيات المخرج الإنسان والفنان أثناء مواجهته للموت، أثناء إجراء عملية جراحية في القلب (كل هذا الجاز لبوب فوس).. كل هذه النماذج وغيرها سنجد صداها في أفلام شاهين عن سيرته الذاتية ولكن هذا لا يصنع خصوصيته ورؤياه الذاتية المحسوبة بوعي.

2 - انبثق الجزء الأكبر من "إسكندرية ليه " من ملاحظات شاهين المباشرة تجاه مواقف وشخصيات يبدو أنها لا تدخل في نسيج سيرته الذاتية بقدر ما تعبر عن آرائه في الأحداث المعاصرة في مصر خلال فترة الأربعينيات.. بينما نجده يتعمق في سيرته في الجزء الثاني "حدوتة مصرية" وفيه يؤكد على عوامل القهر والأنانية والتفاهة التي تحاصره: "الحياة كلها قمع في قمع من صغري للجامعة لدلوقت " فالمدرسة يسيطر عليها التزمت الكاثوليكي وتحكم أستاذه الفاشي (الشبيه بهتلر) والمجتمع تنقصه عناصر المرح والثقافة والحرية، والبيت عامر بالبشر(الأب. الأم. الزوجة. الأولاد. الأقارب) ولكن مجرد مأوى له وليس سكنا يشعر فيه بالراحة النفسية والاطمئنان العائلي. والجميع فيه "غرباء عايشين في بيت واحد أنا فشلت مع ولادي وعيلتي زي ما أهلي فشلوا معايا" وفي ظل هذه الحياة عاش يؤجل احتياجاته حتى أصبح على يقين بأنه لن يتمكن من تغيير أي شىء ومع تراكم تأثير الصراعات الكبيرة والصغيرة يكتشف أن قلبه على وشك التوقف بعد أن سدت شرايينه أو تكاد، وفى الجزء الثالث من سيرة شاهين ستتوارى قليلا حياته الأسرية ليتم الدمج بين خيالاته السينمائية أثناء إعداد وتنفيذ بعض أفلامه. وستبقى شخصية يحيى التي تمثله في إطار يبدو فيه وكأنه المدافع الأمثل عن الديمقراطية بين فناني مصر بعد صدور ما سمي بقانون 103.

3 - تؤكد ثلاثية شاهين أنه تعلم عن طريق ملاحظاته المباشرة ما تتميز به أنماط الأفلام التي تتقبلها المهرجانات السينمائية الغربية بعد تجاربه في مهرجان كان مع فيلم "ابن الليل " ومهرجان برلين مع فيلم "باب الحديد" ومهرجان موسكو مع فيلم "جميلة" والمحصلة تأتي في الفيلم الأول من خلال محاباته للشخصية اليهودية المصرية "سوريل " وابنته "سارة" باعتبار أن الأب يرفع شعارات مناهضة الإرهاب والتعصب في أعقاب الحرب العربية- الإسرائيلية: "إني أرفض الإرهاب أيا كان هدفه. وأدين اغتصاب حق على حساب آخر، الأخ سيقتل أخوه زي بدء الخليقة. أوه يا أورشليم ياقاتلة الأبرياء والأنبياء ". ويقيم شاهين في "إسكندرية ليه " علاقة حب حميمة بين الابنة اليهودية سارة وشاب مصري يساري كان محصلتها في اعتقادي فوز الفيلم بجائزة مهرجان برلين مناصفة مع الفيلم الألماني "ديفيد".

ولقد حاول شاهين في الجزء الثاني من سيرته أن يؤكد الهيمنة اليهودية على السينما والإعلام الأمريكي ويأتي هذا التأكيد على لسان زوجته (يسرا) في "حدوتة مصرية": "للمرة العشرين. يهودي أمريكا في يقول كويس كتير. لكن يفتح الله.. حاتخدوا مخرج عربي ليه؟ ".

4 - حاول شاهين أن يخلق معادلا موضوعيا للعلاقات المثلية داخل أفلامه المأخوذة عن سيرته الذاتية. فالعلاقة بين قريبه الأرستقراطي عادل (أحمد محرز) والجندي الإنجليزي تومي في "إسكندرية ليه " جعلها ترتبط بتحول الأرستقراطي من ميوله الدموية تجاه الاستعمار الإنجليزي إلى الوعي غير المعلن بأن كل مكتسباته الحضارية حققها له الإنجليز. وإيمانه بأن هذا الجندي والجيش الذي ينتمي إليه قد لعبا دورا فى إنقاذ مدينته الإسكندرية من جحافل النازية. ويأتي زيارة هذا الأرستقراطي لمقابر جنود الحلفاء في العلمين بعد مقتل الجندي تومي بسنوات لتؤكد هذه التعادلية المفتعلة والتي يكررها شاهين في "حدوتة مصرية" من خلال علاقة المخرج يحيى بالسائق الاسكتلندي أندرو أثناء زيارته لمدينة لندن لإجراء عملية القلب، لقد أصبح هذا السائق خادما لبعض العائلات المصرية الإقطاعية الهاربة من الثورة المصرية. وللمرة الثانية يرد شاهين الجميل لهذا السائق من خلال علاقة يخرجها من نطاق المثلية إلى حالة من الشعور الخفى بالجميل!!.

ولقد جاء تأثير شاهين حاسما على تلاميذه الذين تعاملوا مع "سيرتهم الذاتية" مثل يسري نصر الله في "سرقات صيفية" 1988، وخالد الحجر "أحلام صغيرة" 1992، فبؤرة تفكيرهما أحلك الأحداث التي مرت بمصر المعاصرة. والهدف من عرض سيرتهم الذاتية ليس المتفرج المصري أو العربي إنما المتفرج الأوربي الشغوف بكل ماهو سلبي ومهين في حياتنا!!.

بين أحلام المدينة وليالي ابن آوى

ولم تتخلف السينما السورية عن ركب أفلام "السيرة الذاتية" لمخرجيها وبعد التجربة المهمة التي قدمها محمد ملص عن سيرته الذاتية في فيلم "أحلام مدينة" 1984، قدم عبداللطيف عبدالحميد فيلمه "ليالي ابن آوى" 1988، والفيلمان حققا للسينما السورية العديد من الجوائز. وفي حدود هذا الحيز من الدراسة سنحاول الإلمام بتجربة "ملص " باعتبارها البداية في هذا المجال. يعبر محمد ملص عن إحدى مراحل سيرته الذاتية في فيلمه "أحلام مدينة" من خلال قصة نشأة الطفل ديب- اسمه الحقيقي محمد- عاش تعيسا معذبا مرهقا خلال فترة الخمسينيات في ظل شراسة جده الذي طرد ابنته الأرملة وأولادها. وبيئة قاسية يهيمن عليها التفسخ والعنف والخمر والمخدرات والشعارات السياسية القاصرة. يرى ديب في هذه الطفولة البائسة شقيقه وهو يودع في ملجأ للأيتام، ويرى جارة يقتل أخاه، ويرى أمه يمارس عليها كل أنواع القهر والقمع.. وجماهير تعيش حياتها السياسية في ظل آمال محبطة.

يحاول ديب أن يتمرد على واقعه كصبي مكوجى يعرق ويكد من أجل الحياة، وينجح في الالتحاق بالمدرسة ليواجه بآراء يرددها أساتذته دون أن يعي أبعادها. فالبعض يهاجم الشخصيات السياسية القديمة ويتهمها بالجبن في مواصلة الصراع مع الديكتاتورية الشيشكلية. والبعض ينادي بالديمقراطية وبأن الانتخابات هي المعيار الحقيقي لإرادة الناس. ثم يجد ديب نفسه يعيش مرحلة التنافس بين مرشحي الحزب الوطني بقيادة شكري القوتلي ومرشحي البعث بقيادة صلاح البيطار. وينتهي فيلم "أحلام مدينة" مع إعلان الوحدة بين سوريا ومصر والطفل ديب مازال يراقب ومازال يعاني بينما دمشق في حلة من الأضواء والزينات والأعلام والصور. بعض الشباب يعلق صور عبدالناصر إلى جانب صور شكري القوتلي بينما الليل عاصف والرياح القوية تهز الأضواء!!.

ومع ذلك فإن هذه الصورة الرهيبة التي ينجح ملص في تقديمها بسلاسة وبلغة سينمائية موحية سنجدها تتحول إلى صورة مشبعة بالإنسانية والهدوء والنقاء والرفاهة المتناهية في أربعة مشاهد فقط في الفيلم. وهي المشاهد التي يتعامل فيها الطفل ديب مع السيدة ماري روز وابنتها انطوانيت.

لقد جسد ملص الأم ماري روز وابنتها باعتبارهما الخيط المضيء في واقع ديب الحالك السواد. فهل فرضت سيرته الذاتية عليه ذلك؟ أم أن هناك دوافع أخرى وراء ذلك؟.

أيا كانت الدوافع والأسباب سواء لملص أو لغيره ممن تعاملوا مع "سيرتهم الذاتية" فالواقع يؤكد أن هذه النوعية من الأفلام كانت في مجملها من الأفلام التي تحسب لصالح مخرجيها من الناحية التقنية. رغم أن جبينها يحسب علينا كعرب من الناحية الاجتماعية والسياسية..!!.

 

أحمد رأفت بهجت

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لقطة من فيلم ديسمبر للأخضر حامينا





لقطة من فيلم نابليون بونابرت ليوسف شاهين





الأخضر حامينا وبطلة فيلم الصورة الأخيرة





يوسف شاهين





مهدي شريف مخرج شاي في حريم أرشميدس





الطفل بطل الحلفاوين