الفنّ التشكيلي والمدينة: أضواء على تجارب تونسيّة

الفنّ التشكيلي والمدينة: أضواء على تجارب تونسيّة
        

          الرسم والمدينة أو الفنّ التشكيلي وفضاء المدينة، موضوع إشكالي وذو حميميّة خاصّة، إذ يرتبط البحث فيه بالحنين إلى ماضي المدينة وتاريخها وخصائصها المميّزة، ذلك أنّ التيمات المحورية للأعمال الفنيّة التي ظهرت في العالم العربي فجر العصر الحديث اتّخذت من تحوّلات المكان وأسراره موضوعا لها.

          بل بدت كأنّها نوع من الوعي المديني الباحث عن معنى جديد للمدينة ولنبض حياتها عبر استعادة حداثويّة لماضيها ولتاريخها، فتجسيد المدينة في اللوحة يغدو نمطا من الاحتفاء بالعناصر الجوهريّة للهويّة والحضارة، وانشغالاً بعمق النظرة للكائن الإنساني عبر حنين حالم (Nostalgie)، لتستشرف الذّات المبدعة إمكانات التقدم والحداثة من خلال الرّهان على تقنيات الرّسم الحديث وأسلوب التعبير وجماليات الإيحاء.

          ومن ثمّ بدت لنا علاقة الفنّ الحديث في البلاد العربيّة بالمدينة، موضوعا في حاجة إلى النّظر، والقراءة التي تبدو لنا بدورها صعبة التحقّق، غير واضحة المعالم، يعسر تحديد منطلقاتها، بالقدر الذّي يصعب معه ضبط تقنيات إنجاز الّلوحات المجسّمة لتلك العلاقة وأطر انبنائها.

          لقد نبعت أغلب تجارب الفنانين والرّسامين العرب الأوائل من عمق المدينة التّي مثّلت مكانا للتجربة الفنيّة وموضوعا لها في آن... فعبر رسم أحياء المدينة وأزقّتها وأسواقها ودورها وقصورها ومعالمها الممتدّة في التّاريخ، ومن خلال محاكاة إيقاع الحياة ولون العوائد والطقوس والنهل من تراثها، يولد الفنّ وتتشكّل التّجارب، وتغدو ألوان المدينة وزينتها وزخرفة أبوابها وهندسة أسوارها وحدات فنيّة (موتيفات Motifs)، يستلهم منها الرّسام أو النّحات، باعتبارها مرجعيّة رمزيّة ومنطلقا انطولوجيا. ومن استعارتها يشكّل عوالمه الفنيّة في انفتاح على الماضي وتطلّع إلى المستقبل، ومن خلال ذلك تتجسم نظرة جديدة إلى التراث والحضارة من ناحية، وإلى التقدّم والحداثة والتمدّن من ناحية أخرى، لا سيّما وأنّ فنّ الرّسم كان تاريخيّا ابن المدينة بامتياز.

          تكاد كلّ تجربة فنيّة لأهمّ الفنانين العرب الرّواد ترتبط في جذورها بشكل ما بالمدينة. وحتّى التيّارات ذات المنزع التّجريدي ظلّت تحاكي وتعيد إنتاج معانيها وأسرارها من خلال النّهل من المدينة ورموزها. ولهذا غدت تيمة المدينة في أعمال الفنانين العرب المعاصرين محورية، وإشكاليّة، وتجلّياتها متعدّدة المرايا والوجوه.

          وفي هذا السّياق كانت تجارب فنّاني مدرسة تونس، وأغلب من جاء بعدهم وتأثّر بهم، مرتبطة أشدّ الارتباط بالمدينة إلى حدّ التماهي والتجانس، فصارت لها كالمرايا المتعدّدة التي تعكس صورتها في أشكال متباينة، ومتنوّعة، قد تكون متناغمة بمعنى ما مع رؤى أولئك الفنانين أو رؤية المدينة لذاتها، ولما هو جوهري وأصيل   أو حميمي وجميل فيها.

          في هذه الورقات إشارات وإشراقات، إفادات وإضاءات، حول نماذج من تجارب فنانين تشكيليين ورسامين تونسيين، ارتبطت أعمالهم وإبداعاتهم بالمدينة، محاولة منّا لتركيز مدار الاهتمام على بيان معالم تلك الصلة بين المدينة وإبداعات الفنون التشكيليّة في بعديها التاريخي والفني، ومن ثمّ دورها في تشكيل عوالم الفنّان وخصائص تجربته.

كلمات عن البدايات

          كانت تونس من ضمن بلدان عربيّة إسلاميّة قليلة قد عرفت الفنون التشكيليّة في أواخر العصر الحديث على إثر الحملات الاستعمارية، وصدمة الحداثة التي تلقّاها العالم العربي إبّان حملة نابليون بونابرت فجر القرن التاسع عشر (1798-1802 م)، وانتصاب الحماية على أغلب البلاد العربيّة. وقد حاول الكيان الاستعماري بعث حركة الرّسم والتّصوير في البلاد العربيّة باعتبارها ثقافة جديدة يمكن أن تؤهّل لترسيخ قيم فنّية وفكريّة معاصرة ووافدة من الغرب، من شأنها أن تستبدل أو تجتثّ رواسب ثقافة الشّرق المسلم التي كانت تحرّم التّصوير وتمنعه إلاّ استثناء، كما شجّع المستعمر أو آثر نوعا من التّصوير الشّعبي الفلكلوري الذّي ينهل ممّا تراكم في المخيال الجمعي العربي الإسلامي حول مكانـه الشّخصيات الدّينيّـة المرموقـة (الأنبياء والصّحابة والأولياء) أو بعض الأبطال الكبار الذّين دوّنت بشأنهم الذّاكرة الجماعيّة ملاحم وقصصا بطوليّة تروى مشافهة، ويستمرّ تناقلها بين الأجيال، من ذلك قصّة سيف بن ذي يزن وعنترة بن شدّاد والجازية الهلالية، وأبي يزيد الهلالي، والأمير عبدالقادر الجزائري قائد أوّل ثورة شعبيّة ضدّ الاستعمار الفرنسي في منتصف القرن التاسع عشر. كما مثّل ذلك موضوعًا للرّسم على الزّجاج والمعلّقات الورقية التّي تكرّرت طباعتها إلى عهد قريب، لتعلّق في البيوت باعتزاز وإعجاب كبيرين، خاصّة إذا كانت تحمل صورًا تجسّم جوانب من قصص الأنبياء أو مشهد هبوط آدم وحوّاء إلى الأرض أو الكعبة الشريفة. وقد انعقد في نفس الفترة أوّل معرض فنّي أوربي بتونس، كان ذلك سنة 1894م، وأطلق على هذا المعرض اسم «الصّالون التونسي»، وأشرف عليه الوزير المقيم العام الفرنسي شارل رونييه، وأسهم في تنظيمه معهد قرطاج الذي أنشأته السّلطة الاستعماريّة ومنه انبثقت جمعية قرطاج التّي تولّدت لديها فكرة تنظيم «معرض الفنون الجميلة» بتونس. وضمّ هذا الصّالون كذلك أعمال الفنّانين النّاشطين بفرنسا والجزائر وتونس، ومن أبرزهم جان شالون الذي شمل المعرض عددًا مهمًا من لوحاته ذات الأسلوب الأكاديمي والمنحى الرّومانسي. وقد احتكمت أعمال الصّالون الأوّل إلى المقاييس الفنيّة والمعايير الجماليّة المميّزة للآثار الفنيّة المعروضة بصالونات باريس وسائر العواصم الأوربيّة في الفترة الاستعماريّة (انظر كتاب: علي اللّواتي وناريمان بن رمضان «الرّسم الأوربي بتونس في عهد الحماية»، مركز الفن الحيّ لمدينة تونس، 1989).

          وليس من الممكن أن نفصل  مسار بزوغ حركة الفنّ التشكيلي في تونس عن  رياح تيّار الفنّ الرّومانسي، إذ اتّخذ الرسّامون الأوربيون من سحر الشّرق وإيقاع الحياة اليوميّة في المدن العتيقة والبوادي العربيّة تيمات محوريّة لأعمالهم الفنيّة ورأوا فيها مصدر استلهام لقيم الجمال الطّبيعي، ويظهر ذلك مثلا - في آثار لوجين ديلاكروا وإتيان رينييه الذّي استقرّ بالجزائر، وايميل بنشار صاحب لوحة «بدوية من تونس» والبير أوبليه صاحب لوحتي «نساء وزياتين» و«امرأة من جربة»، ولوحة هنري داباي «ضاحية سيدي بوسعيد»، وغير ذلك من اللّوحات التي ترسم مشاهد الحياة اليوميّة في أدقّ تفاصيلها، وتصوّر باسلوب فنّي معبّر أمكنة ومعالم من المدينة العربيّة الإسلاميّة ذات قيمة تاريخيّة ورمزيّة.

          وبالتّساوق مع استئناف تنظيم تظاهرة الصّالون التّونسي سنويا، برزت في تلك الفترة بواكير معالم أعمال فنيّة تشكيليّة تونسيّة تطلّعت إلى نحت ملامح شخصيّة ثقافيّة فنيّة ذات خصوصيّة وطنيّة، نابعة من المخزون الحضاري العربي الإسلامي، وإن اعتمد أصحابها تقنيات الرّسم الحديث والأسلوب الأكاديمي المعاصر في تشكيل الأثر الفنّي، وبناء اللّوحة. هذا رغم ما لقيه الفنانون الأوائل من صعوبات في بناء معالم شخصيّة فنيّة وطنيّة أو في ترسيخ تقليد الاهتمام بالأعمال الإبداعيّة العربيّة التونسيّة تلقيّا وتذوّقا ضمن مكوّنات المشهد الثقافي الإبداعي الذّي تسيطر عليه آنذاك المقاييس الفنيّة والجماليّة الغربيّة الحديثة. وقد اصطدم هذا المسعى بالقول بكونيّة «الأثر الفنّي». وهو ما عبّرت عنه جريدة «العصر الجديد» التونسية في عددها الصّادر في ديسمبر 1922 ، حيث كتب أحد محرّريها قائلا: «إنّ الفنّ لا وطن له... غير أنّنا رأينا دعاة التفوّق الفرنسي بهذه الدّيار (أولئك) الذّين أخذوا بناصية كلّ شيء، لم يرق لهم أن يتركوا المجال فسيحا لظهور مواهب التونسيين، ولو في الأدبيات، فأخذوا يقاومونها ويحرصون على الضغط عليها حتى لا يقوم الدّليل على جودة مدارك أبنائنا وسرعة قابليتهم للتطوّر والارتقاء». وفي هذا إشارة مستبطنة إلى تلك النّزعات الاستشراقية التي تريد فقط أن تحتفظ حول الشّرق بصور حالمة وخياليّة فيها احتفاء بالجمال وحياة البذخ في ظلّ مجتمع ينخره تباين طبقي: مترفين سعداء وأرستقراطيين من ناحية وفقراء ومعدومين ومتسولين من ناحية أخرى. وقد وظّفت في إنجاز مثل هذه الأعمال مضامين القصص والأخبار التاريخيّة والأدبية (المقامات ونصوص ألف ليلة وليلة وآثار الجاحظ والتوحيدي). وقد امتدّ صدى هذه النزعة في اللّوحات المعروضة بالصّالون التونسي في دوراته الأولى خاصّة. فوقع التّركيز على مظاهر الحياة اليوميّة في أبعادها الفلكلورية والعفوية ورصد إيقاع الحياة اليوميّة مع وصف الصّناعات الحرفيّة التقليديّة المنتشرة في الأسواق العتيقة ورسم مشاهد معبّرة ورامزة للعاملين فيها. كما ظهرت نزعة محاكاة الطّرز المعمارية والزّخارف الفنيّة المميّزة للمدينة العربيّة الإسلاميّة استلهاما من مناويل الفنّ الإسلامي الأصيل، وإن لم يكن ذلك مطابقا للنّماذج الأصلية بالضّرورة.

          غير أنّه لا يمكن للباحث في تاريخ الفنّ الحديث بتونس، إن رام الموضوعيّة، أن يغفل الأدوار المهمة التي قام بها رموز مثل ألكسندر فيشي Alexander Fichet الذّي تولّى رئاسة الصّالون التونسي منذ سنة 1913 إلى سنة 1966 تاريخ وفاته، فقد رحّب بمشاركة الفنانين التونسيين في الصّالون وحفّزهم على الإبداع، ممّا جعل من هذا الفضاء المهد والمدرسة الأولى التي في إطارها ولدت الأعمال الفنيّة الأولى للرّسامين التونسيين، ليمثّل لاحقا المحور المركزي للحياة الفنيّة بمدينة تونس في ظلّ الحماية، وساعد عددًا مهمًا من الفنّانين التّونسيين على بيع أعمالهم «في عهد لم يكن لابن البلد كبير حظّ في إبراز مواهبه والتّعريف بعمله» (علي اللواتي، الفن التشكيلي في تونس، ص 29). وفي السّياق نفسه يتنزّل ما قام به الفنان بيير بوشارل Pierre Boucherle الذي اضطلع بدور مهم في تأسيس مدرسة تونس لفنّ الرّسم سنة 1947، ومن أبرز مهامها «ربط الصّلة بين الرّسامين المتميّزين في مدينة تونس بغضّ النّظر عن الاعتبارات الفنيّة والدّينية والعرقيّة». وقد انخرط في أنشطة هذه  المدرسة في أوّل عهدها رسّامون تونسيون اشتهروا شهرة واسعة وذاع صيتهم، مثل يحيى التركي وعمّار فرحات، ليكون بعد ذلك الزبير التّركي وعلي بن الآغا وجلال بن عبدالله وعبدالعزيز القرجي من أبرز عناصرها، وكان بيير بوشارل عنصرا نشطا دائم الحركة، متنقلا باستمرار بين باريس وتونس، وهو صاحب اللّوحة الشهيرة «كورين راقصة اللّيدو بباريس».

الرّواد الطّلائعيون

          يؤرخ نقّاد الفن عادة لبدء حركة الفنون التشكيليّة  بتونس في العصر الحديث بأعمال الرّواد، ومن أبرزهم عبدالوهاب الجيلاني (1890-1961) الذي اهتمّ بالترجمة له بينيزيت Bénezet في «قاموس الفنانين»، ووضع النّاقد علي اللواتي صاحب كتاب «الفن التشكيلي في تونس» اسمه على رأس جيل الرّواد، واشتهر عبدالوهاب الجيلاني باسم عبدول واهتمّ برسم المناظر الطبيعية الجميلة في لوحات مائية ترصد حركة الزّمن وتمثّلات الإنسان وأخيلته إزاء الواقع،  مثال ذلك ما توحي به لوحة «غروب». ومن أبرز الرّسامين الرّواد بتونس في تلك الفترة الهادي الخياشي (1882-1948).

          غير أن الحسّ الوطني الحضاري المرتبط بالمدينة والهويّة كما تشكّل لدى الرّواد الأوائل من الفنانين التونسيين لم يسجّل حضوره القويّ في فنّ الرّسم إلاّ أثناء الثلث الأول من القرن العشرين. ولم يبرز بصورة واضحة وجليّة في بعده الجمالي والفنّي، إلاّ من خلال أعمال روّاد ثلاثة هم يحيى التركي (1901-1969) وعلي بن سالم (1910-2001) وعمّار فرحات (1911-1990).

          لقد أراد هؤلاء الثّلاثة - رغم بعض الفوارق الكائنة بينهم في تقنيات بناء اللّوحة أو في أسلوب التّعبير - تجسيد معالم تلك الهويّة المفترضة للفنّ التّونسي التّي لا تعدو أن تكون إلاّ استلهامًا من صور المدينة العربيّة الإسلاميّة ومتخيّلها الثقافي واقتباسا من جماليّة فنّ المنمنمات و محاكاة تقنيات الرّسم على الزجاج، وهو ما نلمسه في إبداعات الفنّان علي بن سالم الذي كان حريصا في أغلب أعماله على إحياء جماليات الصّناعات الحرفيّة الفنيّة المتقنة في الحضارة العربيّة، مثل فنون السّجّاد والنّقش على الخزف والتّعدين والرّسم على الزجاج وتزويق الألوان التي حاول إعطاءها مزيدًا من الشفافية والتّناغم، انطلاقًا من اعتماد الخطوط الواضحة والعمق والمنظور والألوان الزّاهية، وبرع في تصوير البورتريه من خلال اعتماد العناصر التشكيليّة نفسها، وقد حافظ علي بن سالم على الحسّ الزّخرفي (الأرابيسك L'arabesque) من جهة كونه السّمة الأساسيّة والمميّز للفن الإسلامي، منتهجا في ذلك أسلوب الفنان الجزائري محمد راسم (1896-1975) رائد رسم المنمنمة في العصر الحديث وهو الذّي أدخل إلى فضاء المنمنمة البعد الثالث وفقا لقواعد المنظور الأوربيّة التّي عرفها فنّ التّصوير منذ عصر النهضة (وامتاز) بعبقرية فذّة في التناسق الدّقيق للألوان وغزارة الأدوات التعبيريّة، وتنوّع الأسلوب التّقني» (زينب بيطار، غواية الصورة، المركز الثقافي العربي، ص189). لقد استطاع الفنان علي بن سالم تشكيل رؤى متخيّله ولوحات رامزة تحتفي بالألوان النّظرة المتناسقة، تنهل من ذاكرة المدينة العربيّة الإسلاميّة ، ومن رجع صدى طفولة استمعت إلى حكايات  «ألف ليلة وليلة» وشباب تشّبّع بقراءة عيون الأدب العربي، ليحاور هذا الفنّان من خلال إبداعاته الحضارة الغربيّة، لا سيّما وأنّه قضّى حيّزا زمنيّا كبيرا من حياته بالسّويد، وقد أطلق عليه «فنّان الذاكرة والحلم»، وغدت لوحاته توحي بالفرح وجمالية الحياة ومباهجها الّتي لا تنفصل إطلاقا عن بهجة الألوان وتآلفها السّاحر.

          وضمن نفس المسار اتّجه الفنان يحيى التّركي إلى رسم الواقع ومحاولة تجسيم إيقاع الحياة اليومية للمدينة العتيقة وأزقّتها التقليدية وأنشطة أهلها الذين ظهروا في لوحاته متأصّلين في لباسهم التّقليدي وعوائدهم متمسّكين بهويّتهم، فبدت لوحاته تحكي شيئا عن تاريخ المدينة، وترصد ما بقي صامدا من ثقافتها الشّعبية والعالمة (النّخبويّة) على السّواء، ومن هويّة شخوصها، التّي لا تعدو أن تكون «ذرائع تشكيليّة» - على حدّ عبارة علي الّلواتي - اعتمدت لبناء اللّوحة، وتتدخّل ذات الفنّان يحيى التركي عبر الألوان والمساحات والتحكّم في الضوء لتمنح مزيدا من الأصالة والحيويّة للمدينة وألوانها المميّزة ولحركة أهاليها وانسجامهم مع موروثهم الحضاري والاجتماعي، كما  تجسّد في المدينة العتيقة أو الضّواحي المتاخمة لها مثل سيدي بو سعيد والمرسى وحلق الوادي، تلك الضّواحي الّتي ظلّت تحتفظ بأهمّ ما يميّز المدينة العتيقة.

          أمّا ثالث الثلاثة فهو الفنّان عمّار فرحات الذّي ارتقى بموجب ولعه اللاّمحدود بالفنّ من فرد من عامّة الشعب إلى فنان متميّز تفرّد بأسلوب خاص في نقل واقع المدينة عبر نظرة ناقدة ومندهشة حالمة في آن، فاشتهرت لوحاته التي صارت تزيّن أعتى القصور والمعالم الثقافية والفضاءات السياحيّة.

          اشتغل عمّار فرحات في أوّل حياته بائع فواكه، فعاملا بمصنع للتبغ، فخبّازا، ومارس رياضة العدو الرّيفي والملاكمة، وهو ما وفّر له فرصا متعدّدة للاحتكاك بالفئات الكادحة، وعامّة النّاس، وللتبصّر بدقائق حياتهم، ومدى مكابدتهم لتحصيل معاشهم. بدأت رحلته مع الفنّ حين أقسم سنة 1935 م أن يكون رسّاما حقيقيّا لا غير... يمكنه التّعبير عن تلك الأشياء الغامضة التّي في صدره، بحسب عبارته. وبعد محاولات أولى مع رسم بورتريهات المشاهير من سياسيين مثل كمال أتاتورك والزعيم بورقيبة وفنانين مصريين كعبدالحيّ حلمي وسلامة حجازي والسيّد درويش، شارك في الصّالون التونسي للرّسم سنة 1937. ونُظّم له أوّل معرض برواق صحيفة «لوبوتي ماتان» في السنة الموالية، لينفتح بعد ذلك من خلال لغة فنية وأسلوب معبّر ودقيق على استعادة الواقع، باحثا عن منحه نوعا من الدّلالة الممزوجة ببلاغة في التصوير، فرسم نبض حيّه الشعبي باب سعدون وربض باب سويقة والحلفاوين بتونس العاصمة وتميّز في رسم مشاهد من حياة الفلاحين بالرّيف التونسي وهو الذّي ولّد بضاحية أكبر مدينة فلاحيّة بشمال البلاد التونسيّة، ونعني مدينة باجة، قبل استقرار عائلته بالعاصمة.

          لقد أنجز عمّار فرحات إبداعاته بعفوية دالّة وأسلوب تشخيصي رامز، يرصد حركة الشخوص في المدينة ونبض حياتهم اليومية التي منها تستقي المدينة حيويتها، واستمرار وجودها وفق روح وطابع مميّزين، قوامهما إعادة تشكيل الألوان ومساحات النور، وإحساس دائم بالفرح وتلق عفوي لجمالية المدينة . فرسم الأسواق وحفلات الزفاف بحسب التقاليد المميّزة لمجتمعه، مثال ذلك لوحة «العروس»، و«عرس الزنوج» و«راقصون من قرقنة»، و«وصول الموسيقيين». ورسم الباعة: «بائع الياسمين» و«بائع الخوخ»، ورسم دواخل المدينة مثل لوحة «حمّام الرّجال». وظلّ حنينه  إلى بيئته الأولى: الرّيـف وحيـاة الفلاّحيـن، نابضا ففي أول مـساره رسم لوحـة «عاملات الحصاد» سنة 1941، وفي أخريات حياته رسم لوحة «بدويّة» سنة 1983. وبقي شديد الالتصاق بالبورتريه. وقد عدل بعد تشكّل معالم شخصيته الفنّية عن تشخيص المشاهير، مقدما على رسم شخصيات من عمق الحياة ببلاغة دالّة، يظهر ذلك في لوحة: «شابّان» (1967) التي قال بشأنها: «شاهدتهما فتألمّت لوضعيتهما... إنّي أتعاطف معهما»، ورسم لوحة: «فتاتان» (1968). والمادّة المعتمدة في أغلب أعمال الفنان عمّار فرحات زيت على قماش. وقد عرف بأسلوب متفرّد في التصرّف في الألوان، وخاصة الأبيض والأسود اللّذين يشتق منهما ألوانا متعدّدة ومتناغمة. وقد ظلّ رغم ميله إلى تقنيات الرسم الحديث متأصّلا في بيئته وفيّا لمرجعيته، وهو «الفنّان العصامي الذّي كوّن نفسه بنفسه في الشوارع التونسيّة» على حدّ عبارة الزميل فاتح بن عامر (مجلة الحياة الثقافية، تونس، فيفري 2012). وهكذا أصبحت مجمل الآثار الفنيّة التّي أبدعها عمّار فرحات تمثّل واحدة من أهمّ تجارب فنّ المدينة في الرسم التونسي المعاصر.

الزبيّر التركي أبرز أعلام مدرسة تونس

          لعلّك إذا زرت مدينة تونس العاصمة، ومررت من شارعها الرّئيس لمحت تمثال العلاّمة عبدالرحمن بن خلدون (ت 808هـ/1406م)، يمسك بيده في شموخ كتاب «المقدّمة»، وسألت عن واضع هذا التّمثال، أتتك الإجابة أنّه الفنّان الزّبير التركي (1924-2009) أحد أبرز رموز مدرسة تونس، ورائد رسم الجداريّات وإبداع  فنون النّحت التّصويري والرّسم الخطّي المعبّر. اشتهر بعمق الأصالة والارتباط بالمدينة، وامتاز بفطنته في رسم تفاصيل نبض الحياة اليومية، وتجسيم أنماط المعيش اليومي في بداهتها وعفويتها، وفي غرائبيتها وأسطوريتها. وهو الفنّان المتحدر من وسط حضري عريق (بلدي بالّلهجة التونسيّة). ولم يرفض هذا الفنّان فكرة إدخال جوانب من فنون التّجريد والرّمز واللّعب بالألوان وفق أساليب الرّسم الحديث دون التزام بخطّ نظـري أو مرجعيّة جماليّة معيّنة، كان هناك حنين مستمرّ لديه إلى كلّ ما هو أصيل، إلى المدينة العربيّة الإسلاميّة العتيقة: القيروان ودمشق وفاس وأصفهان والقاهرة وتونس لا سيّما أنّ هذه المدن تلتقي في بنية مرفولوجيّة موحّدة الخصائص... باحثا عن عادات وتقاليد حفصية أندلسيّة أو عثمانيّة تركيّة أو قيروانيّة مغاربيّة عتيقة، ليدرج عبق تلك العادات ضمن مشاهد رسوماته للحياة اليوميّة كما تتجلّى في السّوق والمدرسة، والجامع، والحمّام، والمقهى، وأثناء مناسبات الأفراح والمناسبات العائليّة أو المواسم الدّينيّة. وهو ما كوّن لديه معينا لا ينضب، فواصل أسلوب عمّار فرحات مع شيء من التّغيير في تركيب الألوان، وملامح الشّخصيات، أو البورتريهات، فشخصيات عمّار فرحات أغلبها من البيئة الشّعبية الواقعة على هامش حياة المدينة العتيقة، أمّا شخصيات الزّبير التّركي فينتمي أغلبها إلى أرستقراطية باذخة متأنّقة في ملبسها ومأكلها ونمط جلوسها، تسمع أرقى الفنون (المالوف الأندلسي: من موشحات وأزجال وقصائد) وتحترف صناعات مرموقة: طرز الثياب الفاخرة، الصّاغة، النّقش على الأواني، الحلاقة، عزف الموسيقى الأندلسية وأداء الأنغام المتقنة المستجيبة أساسا لأذواق أرستقراطية المدينة العتيقة.

          ولعلّه كان لطبيعة البيئة التّي نشأ ضمنها هذا الفنّان الرّائد الأثر البارز في تشكّل معالم تجربته، إذ ولد الزّبير التّركي سنة 1924 بالمدينة العتيقة (تونس)، وتلقّى تعلّمه الإعدادي بجامع الزّيتونة المعمور، وتابع دراسته بعد ذلك بمدرسة الفنون الجميلة، ثمّ اختار سنة 1952 الهجرة إلى السّويد للدّراسة بأكاديميّة الفنون الجميلة بستوكهولم، وهناك عمّق تجربته وعمل على تمعينها أكثر، وكان يستعيد ذكريات الطّفولة ويتملّى في تلك الصّور التّي انطبعت في ذهنه حول المدينة أيّام الصّبا، فبدأ عندها في تشكيل عوالم فنّه، وبناء لوحاته النّاطقة بوجدانه، والمفصحة عن رؤاه الذاتيّة والمتفرّدة للأشياء، والنّاس، والتّقاليد، والطّقوس، وحركيّة الأسواق، وسائر أنشطة الحياة اليوميّة. وقد تجلّى ذلك أكثر عند إقباله على إنجاز تلك اللّوحات والرّسومات الخطيّة المستقاة من عمق المدينة، وكانت «الألوان التّي اعتمدها في لوحاته المائيّة صريحة وحادّة مثل الأصفر الأمغري والأحمر القرمزي والأخضر، (إنّها ألوان) مغرقة في الإضاءة، وهي مستمدّة من ألوان الحرير والمخمل...» (خليل قويعة، جريدة الصباح، تونس 27/10/2009).

          ورغم انفتاحه فجر السّبعينيات على خصائص الفنّ المعاصر ظلّ الزّبير التّركي متشبّثا بأسلوبه في الرّسم الخطّي، يصوّر تفاصيل الحياة اليوميّة وحركة النّاس داخل المدينة العتيقة، تصويرا بليغا ناطقا بالمعنى، مطابقا لروح حياة تلك المدينة. وأحيانا لا يرى ضرورة في تلوين اللّوحة لكون التحكّم في الخطّ وتطويعه ينتج طاقات تعبيريّة ودلاليّة رامزة، قد تفوق رمزيّة اللّون، وهو ما دفع بالأديب محمود المسعدي (ت 2004) إلى القول: «إنّ لوحات الزّبير التّركي بالرّسم الخطّي على الورق الأبيض لها من القوّة التّعبيريّة بحيث تُغني عن اللّجوء إلى الألوان، لما تتوفّر عليه هذه الخطوط من صفاء».

          وإذا تأمّلت في تلك اللّوحات التّصويريّة الخطّية، ومنها ما وُشّح به كتاب «الأغاني التونسيّة» للصّادق الرّزقي (ت1939م) ألفيتها تسرد حكايات، وتقصّ وقائع من نبض احتفالات أهل المدينة وطقوس  حياتهم الحياة اليوميّة. وعلى حدّ عبارة الفنان علي اللّواتي يحلو للزّبير التّركي التشبّه في تصاويره بالفداوي (الحكواتي)، ويجد في ذلك اقترابا من الحسّ الشعبي، وصلة ممكنة بتقاليد التّصوير الإسلامي (لا سيّما) حين يلتقي التّعبير التّخطيطي بالحكاية. ونتيجة لهذا المنحى الاحتفالي في رسم المدينة ووقع الحياة بها آثر الفنّان الزّبير التّركي الانقلاب ضدّ المفهوم السّائد للفنّ الحديث والمتمثّل في اعتبار الإنجاز المادّي للخطوط والألوان كغاية في حدّ ذاته دون اعتبار المضمون الحكائي (علي اللّواتي، الفنّ التّشكيلي، ص 73).

          وهكذا ظلّ الزّبير التّركي يرسم إيقاع الحياة، ويصوّر المدينة من خلال أدقّ خصائصها، وينقد عبر تلك الدّقة الواضحة في التّعبير بالتّصوير الخطّي مظاهر ورؤى وتصوّرات ذهنيّة وعوائد تلاشى أكثرها وزال. فرأى أن يحتفظ بما أمكن الاحتفاظ به عبر اللّوحة، ولذلك عُـدّ رائدا لواقعيّة من نمط خاصّ، إذ طالما أكّد أنّ كثيرا ممّا رسم من البورتريهات واللّوحات المشهديّة يمثل استعادة حيّة لجوانب من حياة أفراد محيطه: أقاربه وأعمامه وأخواله وأبناء حيّه وشيوخ الرّبض الذّي يقطن فيه. وضمن هذا النمط  رسم لوحات: «العرس»، «امرأة البخور»، «صانع الشّاشية»، «الطّاقم الموسيقي»، «منظر من سيدي بوسعيد»، «في المقهى»، «صيف في المدينة»، «سلاميّـة»، ونتيجة لهذا المنحى اعتبره النّقاد باعث المدينة العتيقة من ركام النسيان والسبات، إذ نفخ فيها من روحه وعبقريته حياة جديدة تحرّرها من الصّور النمطيّة.

          ومن مآثره إضافة إلى نحته لتمثال ابن خلدون الذّي قيل إنّه يشبهه - أو لعلّ الشّبه في الأصل كائن بينه وبين بورتريه ابن خلدون بحسب الرّسم المتخيّل الذّي وضعه جبران خليل جبران لابن خلدون إنجازه لتلك الجداريّة الكبيرة بمبنى دار الإذاعة والتّلفزيون التّونسي، كما تجلّت الرّوح الإبداعيّة للفنّان الزّبير التّركي في فنّ المسرح من خلال تصميمه لملابس شخوص مسرحيّة «مراد الثالث» ومناظرها، فكان له على حدّ عبارة الشاذلي القليبي «إسهام في فنّ جمال الإخراج وبريق الشخصيات»، وكذلك الشّأن بالنّسبة إلى مسرحيّات أخرى، منها «صاحب الحمار» و«ثورة الزّنج». وقد أسهم الزبيّر التركي في مشروع بناء ثقافة الدّولة الوطنيّة الحديثة، إذ عمل مستشارا لعدد من وزراء الثّقافة التّونسيين، وربطته علاقات تعاون ثقافي مع الأديب محمود المسعدي والكاتب الحبيب بولعراس صاحب نصّ مسرحيّة «مراد الثّالث»، كذلك الشّأن بالنّسبة إلى المسرحي المغربي الطيّب الصّديقي والكاتب المسرحي التّونسي عز الدّين المدني. وقد انتخب الزّبير التّركي رئيسا لاتحاد الفنانين التشكيليين للمغرب العربي سنة 1975، بعد أن دفع به حماسه للمدرسة التّي انتمى إليها إلى أن يؤسّس الاتّحاد الوطني للفنون التشكيليّة، ويكون أوّل رئيس له.

          هكذا كان الزّبير التّركي فنّانا حالما باحثا عن الجمال في المدينة العتيقة وفي نبض حياتها اليوميّة، يستقي ممّا رسخ في الوجدان والذّاكرة الجماعيّة، وعبر هذا وذاك، كان يعيد صياغة المكان أو لنقل جماليّة الأمكنة وحميميتها، تلك الجماليّة المعتّقة الرّاسخة في الوجدان الّتي  بدأت تلتهمها راهنا عمارة المدينة العصريّة ذات الطّابع التّكنولوجي الصّناعي.

رياح الحداثة ونزعات التّجريد

          لئن كان الهمّ الأساسي لمدرسة تونس هوالبحث عن الهويّة المفترضة للفنّ، وترسيخ تقاليد الرّسم والتّصوير وتأصيله في البيئة الثقافيّة، فإنّ ذلك لم يظل هدفا محوريّا بعد استقلال البلاد، وهبوب تيّارات الفن المعاصر ونظرياته على الحياة الفنيّة والثقافيّة بالبلاد التونسية، فبدأت للظّهور ضمن أقطار عربية مشرقية ومغربية فكرة تجاوز المضمون التّشخيصي للّوحة والإعراض عن المضمون التّصويري وتركيب الألوان، اعتبارا لكون ذلك من إرث تيّارات «الفنّ الاستشراقي» ونوستالجيا الفنّانين والرّحالة الغربيين. وهو ما وجب تجاوزه باتّجاه التّجريد والرّهان على طاقة الحرف وإمكانات الشّكل والبعد الواحد، للارتقاء بجماليات فنّ الرّسم وتضمينها رؤى فكريّة وأنطولوجيّة رمزيّة أعمق بعدا وأوسع أفقا، بحثا عن لغة تشكيليّة جديدة، تتجاوز  المحاكاة والتّشخيص أو إنتاج صور عن سحر الشّرق وجماليّة العجيب وطرافة المعيش اليومي. غير أنّ هذا التّجريد لم ينفصل بدوره عن المرجعيّة الحضاريّة العربيّة وتراث الفنّ الإسلامي في مجال الحرف والزّخرفة ومعمار المدينة. كما بيّن ذلك الأب الرّوحي والمنظّر الأوّل لهذا التيّار الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد. وقد ظهرت في فجر الستينيات في تونس وفي المغرب ملامح هذا التّيار، وبدأت لبنات التجارب الأولى في التشكّل من خلال أعمال فريد بلكاهية ومحمد  المليحي بالمغرب وظهر كذلك في مصر والسودان فنانون تندرج أعمالهم ضمن هذا التيّار.

          لقد كان الفنّان نجيب بلخوجة (1933-2009) أحد أبرز روّاد التّأسيس للمنحى التجريدي في الفنّ التشكيلي بتونس، فقد أقدم على بعث «مجموعة الستّة» سنة 1963، وكان من أبرز عناصرها لطفي الأرناؤوط والصّادق قمش ونجا المهداوي ذاك الذّي سيعرف معه الحرف العربي أجمل تعبيراته الرّامزة، إذ «ارتقى به إلى مصاف تجريديّة عالية عرف بموجبها الحرف تغييرات متعدّدة، (وهو الذّي عمل على) إعادة تأليفه بعد تفتيته» (الخطيبي، الفن العربي المعاصر، ترجمة فريد الزّاهي، ص 59)، وفي السياق نفسه، وبحثا عن آفاق أوسع وتعبيريّة أدقّ ظهرت مجموعة «توجّهات جديدة» «Tendances Nouvelles»، وكان من ضمن عناصرها نجيب بلخوجة، وضمّت كذلك الفنانين محمود السّهيلي وحاتم المكّي والناصر بن الشيخ، ويمكن القول: إنّ «نجيب بلخوجة ينفرد من بين جماعة البعد الواحد بوضوح اختياره، فلقد برز بتركيز بحثه على السّطح اللّوني، وتفكّك الوحدات المعماريّة العربيّة الإسلاميّة، وعناصر الكتابة الكوفية، لإعادة صياغتها في تناغم جديد، لا ينقل الشّكل المرئي للمدينة و(إنّما) روح المدينة العربيّة الإسلاميّة» (نعمان قمش، ملامح من الفن التشكيلي العربي المعاصر، مجلّة الحياة الثقافيّة، العدد 143، تونس 2003). لقد استطاع نجيب بلخوجة أن يدمج الحرف العربي من خلال نموذج الكتابة الكوفية، خاصّة عند رسمه للمدينة الإسلاميّة باعتبارها تيمة (غرضا) ومرجعا، وأفقا للحياة والوجود، تتعدّد معانيه وتتداخل رموزه من خلال تداخل بنايات المدينة وهندسة معمارها في أعمال هذا الفنان، فترى القباب والقصور والأروقة والدروب كأنّها متاهات لا متناهية أو كتاب جدير بالقراءة والفهم، لكونه يدمجها ضمن خطاطة هندسية، تغدو بموجبها أشكالا متخيّله لمعان في الذّهن ورؤى في الفكر. ولعلّك إذا نظرت بعين الفنّان التّشكيلي إلى أعمال بلخوجة ألفيتها استعادة للأمكنة وتشكيلا جديدا لأبعادها، إذ الأبعاد بحسب عبارة الفنّان شاكر حسن آل سعيد هيّ الأساس، إنّها التّعبير السّرمدي عن الجسد بلغة تجريديّة ورموز مجرّة، وليس التّجريد هنا خروجاً عن الحسّ بل خروج عن الطبيعة بمعناها الكمّي، لتحقّق المساواة بين الخلفيّة الفكريّة للفنّان والشيء الأثر الفنّي/شكل الإبداع.

          هكذا كان بلخوجة رسّام المدينة وفنّانيها تماما كاليوت وبودليو وأمل دنقل وغيرهم من شعراء المدينة، فهو يفتح - في ذاته عبر تعامله مع صور المدينة - أفقا على الممكن والتّاريخ والمطلق وعلى الآخر والحداثة، باحثا من خلال ذلك عن معنى جديد للذّات والوجود وللغة الفنّ التّشكيلي، دون أن يكون هناك أيّ تصادم أو قطيعة مع مقوّمات الكيان الحضاري للمدينة وللفرد العربي المسلم. كذلك كان الفنّان خالد بن سليمان أبرز من جسّم تجربة الحروفية والتّجريد، مستخدما الخزف، ليتّخذ منه مساحة لاستعادة الزّخارف وفنون الرّقش والنّقش القديم، وقد أعطى للوشم دلالة جديدة ضمن تشكيلات فنيّة ورامزة على غير مثال سابق.

          تلك إشارات وكلمات، أردناها نصّا مختزلا، ودالاّ في آن، على أهمّ ما امتازت به حياة الفنون التشكيلية بتونس في صلتها بالمدينة موضوعا وافقا واستعارة. وقد ركّزنا الاهتمام على الفترة الاستعمارية وفجر عهد الاستقلال، أي قبل أن تتعدّد تيّارات الفن وألوان التّعبير التّشكيلي والبحث عن الغريب والعجيب، ولم نتطرّق إلى كلّ التّجارب التونسيّة في مجال الفنّ التّشكيلي. فهنالك أسماء أخرى ذات أهميّة مثل الرّاحل الحبيب بوعبانة، وعادل مقديش وحاتم المكّي، ورائد فنّ النّحت الهادي السّلمي الذّي طفقت شهرته في صناعة التماثيل البلاد العربيّة والأوربيّة، وهو الذي راهن على النّحت وسيلة للتّعبير منذ حداثة سنّه. وفي المشهد الفنّي بتونس الآن هناك أسماء تتفرّد بأساليبها الإبداعيّة مثل محمد الأمين ساسي وعلي اللّواتي وفتحي بن زاكور وعلي الزّنايدي والحبيب بيدة  وإبراهيم العزّابي وسامي بن عامر، وأسماء أخرى.
-------------------------
* أكاديمي من تونس.

 

محمد الكحلاوي*