منتدى العربي شاكر مصطفى

منتدى العربي

هل هناك حقاً أدب مهجري؟

أعرف، بلى أعرف، أن العنوان وحده قد يثير عليّ الويلات، كأعشاش الزنابير. وأن مئات الأقلام سوف تنزل الساحة تلسعني، وتسفه، وتغضب. وأعرف أن الكثيرين من أهل الأدب يعز عليهم أن يتنكروا معي لقطاع أدبي أضحى في حكم البديهيات بالنسبة إليهم والمسلمات. وقد يقول قائل: ما لهذا الغارق في التاريخ، يتجاوزه إلى دنيا الأدب وينكر وجود أدب أجمعت الآراء على وجوده؟.

مع كل ذلك فإني أقول: ليس هناك أدب مهجري. وكل ما كتب حوله فإنما هو تزييف موافقة وبعضه زلفي وبعض عن ارتزاق وبعض عن جهل بالحقيقة. وبعض منه افتتان بالشعر نفسه. وهو دون شك، في كثير منه، فائق آسر، ومن جميل الشعر. لقد قضيت خمس سنوات في المهجر أفتش هذا الأدب، وأفتش عنه حرفاً حلواً وقافية راقصة ودلال معان. في نشيد الإنشاد الذي لسليمان، يقول النشيد: "في الليل، على فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته. بالله عليكن يا بنات أورشليم هل وجدتن من تحبه نفسي؟ " أما أنا فكنت على العكس، في النهار وتحت وقد الشمس وعلى جميع الدروب أطلب ما تحبه نفسي من شعر وأدب المهجر. طلبته فما وجدته، ولعلي وجدت الفراغ العقيم والخيبة!.

حين ذهبت إلى أمريكا اللاتينية كنت أحلم بأجواء أدبية تختبئ فيها الشموس. أو تنسج على مثالها الدانتيلا. أو تعنف وتعنف حتى تكون زهرة نار أو هزة كون. لم أكن أحلم بالرعد فقد مللت القوافي المرعدة.. في الفراغ. كنت أبحث عن الشعر. يشيلني. يحطني. يدمر اليأس في عروقي. وينسج لي من إيقاعه جنات عدن. أحلم؟ بلى! بموسيقى ما سمعتها من قبل ومعان اشتبكت بها بدائية أمريكا اللاتينية بعراقة القافية العربية. ما كان عندي فكرة مسبقة عن ذلك الذي سأجد أو كنت أتمنى أن أجد. ولكني كنت ممتلئاً حتى الإفعام بالشعر المهجري الذي حفظت ورويت. دوامة من الأفكار والأشعار كانت تأخذني وأخرى ترميني، ويختلط في جبيني ما سبق أن نقلته في دفاتري وحفظته من قول الشاعر القروي في عيد الفطر:

أكرم هذا العيد تكريم شاعر

يهيم بآيات النبي المعظم!

ولكنني أصبو إلى عيد أمة

محررة الأعناق من رق أعجمي

إلى علم من نسج عيسى وأحمد

وفاطمة في ظله أخت مريم!

هبوني عيداً يجعل العرب أمة

وسيروا بجثماني على دين برهم!

ويختلط به ما قال أبو ماضي:

أيهذا الشاكي وما بك داء

كن جميلا تر الوجود جميلاً

أحكم الناس في الحياة أناس

عللوها فأحسنوا التعليلا

فتمتع بالصبح مادمت فيه

لا تخف أن يزول حتى يزولا

وإذا ما أظل رأسك هم

قصر البحث فيه كي لا يطولا!

والذي نفسه بغير جمال

لا يرى في الوجود شيئا جميلاً

وتتداخل معها قصائد صيدح وندرة حداد عبر أم الحجار السود (حمص) وإلياس فرحات وشفيق وأخيه فوزي المعلوف وعشرات غيرهم.. في هذا المهرجان الأخرس كنت أعيش وأنتظر أن أجد على الشاطئ الآخر مساكب أخرى، لزهر ما حلمت به الزهور، وأدب يحرك الضمير النجم، ودنيا أخرى من الأدب تموج. كنت أنتظر أن تنفتح علي كنوز علي بابا السحرية بمجرد النزول عليها فالزمرد سكب، والألماس يخطف الأبصار، واللؤلؤ يرنق كعيون الأطفال.

ماذا أقول؟ كنت كالآخرين أسبح بحمد الشعر المهجري فليس في الإمكان أبدع مما كان، حتى حطت بي الطائرة في أمريكا اللاتينية. كانت الأيام الأولى أشبه بأيام الظامئ الباحث عن الماء. وبدأت المجامر التي أوقدتها تنطفئ سراعا وتحولت ذبالات ورمادا. الحلم الذهبي انقطع فجأة. أخذت أتقرى باللمس بقاياه. أين ذهب؟ وبدأت العمالقة تتقزم، تصبح من هذا البشر الذي أعرف.

طبيعة وموارد وحشية

أمريكا اللاتينية أولا.. صدمتني. طبيعتها البدائية نهود ما مسها بشر. ووديان يرتعب الجن فيها. غاباتها تنداح أشجاراً للأرض منها الدوائر كالأفاعي النائمة، وللسماء الذؤابات والذرى المهتزة، جبالها مردة تتلفع بالثلج في كبرياء، لا النسور الجارحة تساميها ولا السحاب الذي يزنرها يبلغ أعاليها. والأنهار؟ يا بؤس للعالم القديم الذي اهترأت سواقيه والمجاري. وتوغل أنت في البر فالدنيا أدغال زمردية وسوداء وصفراء وبين بين ونباتات مفترسة. وبحار من الشجر يرتجف الرعب فيها ويعشش الليل وينام. ووهاد ومهاد كأنما تسكنها قبائل غير منظوره. ووحول وبحيرات. وشلالات، كانسكاب السهام الفضية، وأخرى كفوار الجحيم. ومناجم يدخلها العمال فلا يرجعون، يموتون وفي بعض أيديهم الزمرد وفي بعضها النحاس والفحم. وهنود حمر تبص عيونهم خلال أوراق الشجر كعفاريت الليل. وأبعاد بعد أبعاد من البن والحبوب. ومزارع لا يعرف أصحابها عدد ما فيها من البقر والماشية. وشواطئ كأنما تأنق الخالق في رسمها وامتدادها. فروح وريحان وجنة نعيم!.

بدائية هذه الطبيعة تصدمك، وتروعك، وتثيرك. بعضها رائع تعيش معها في جنات ما علم بها إنسان، وبعض رهيب تحس منه كان الأبعاد تردد دقات قلبك. وبعض تتعب العيون وراء خضرته اللانهائية وينتهي النظر في الآفاق ولا ينتهي اللازورد، وبعض محيطات من الشجر كأن الله لم يخلق سواها على الأرض!.

كل هذه الطبيعة الموارة الوحشية كانت ترمي نفسها أمام أعين هؤلاء المهجريين على جميع الدروب. تغالبهم.تحاورهم، تتحداهم. وقد تمزقهم ولا تسأل. والسؤال الكبير الأول الذي ارتسم في جبيني:

ترى من ذا الذي من شعراء المهجر وأدبائه وصف بعض هذه الطبيعة؟ غلغل في صدرها كالعصفور. تلامس التلامس الحميمي معها؟ من كتب عن زلق المراكب الخشبية في الوديان فإذا هي عجين من دماء وبشر وشوك؟ من ذكر قطاع الطرق وعصاباتها تغير على السابلة، وللتوركو النصيب الأوفى من النهب والعذاب؟ من وصف لهاثه الحار على صخورها المدببة؟ استغاثاته على جارف سيولها؟ دبيب الهول في أعصابه وهو بين الغابات يترقب الضبع والفهد والذئاب من أعلى الأشجار أو أفعى البوا الزاحفة في صمت عند رأسه؟ من حكى عن المراكب النهرية يركبها المهاجرون زاحفة على الماء يوازيها غدقا على الحافتين، ويتكئ متعب من المتعبين على بعض أعمدتها، ويغفو فإذا هو في الماء طعام للسمك؟.

ما عرفت أحدا حكى بعض هذا أو نظمه في قصة أو رواية أو أنشده في ديوان، مر كل ذلك على صفحة خرساء، فأين المهجر في أدب المهجر؟ هل الأدب الذي وصلنا يعكس ولو ملامح باهتة من صورة هذه البيئة الجديدة التي عاش فيها وغاب في ترابها المغترب كالسكين؟ هل كان فيه تنوع الغابات البكر وعفنها الأبدي؟ هل دغدغته ثلوج الأندس الخالدة على القمم السماوية؟ هل حكى صراع الإنسان للوحش والطير والأفعى؟ وللشلالات تهدر هدير الجحيم وللبراري المقفرة مملوءة الأبعاد بالشوك؟ وهل روى قصة السنابل كالبحار ذات الموج، والوديان يتدفق فيها الزهر البري ألوان قوس قزح، والنجوم كالربيع الأسود خرساء لا مؤنس غيرها في الليل البهيم إلا الذئاب؟.

أسفا.. ما من شيء من ذلك كان، مرت تلك الطبيعة البدائية بوحشيتها البكر على قبائل مطفأة الجفون، فكأنما لا مرت ولا مروا. ويأتي بعد هذا السؤال الثاني- وهو ابن الأول- عن تلك الملحمة الرهيبة التي عاشها المغتربون في المهاجر، أقول ملحمة ولو وجدت كلمة أعنف وأضخم لاستعملت، فقد كنت هناك سنين عددا، وباعتباري كنت دبلوماسيا فقد كنت كاهن الاعتراف للكثيرين، وأطوي الصدر عما لا ينتهي من الماسي والأسرار فلن أتحدث إلا عن جانب ضئيل عادي منها.

منذ نيف ومائة سنة بدأت جماعات من المغتربين تتسلل على ظهور البواخر إلى "أمالكا"، كانت في خيالها أرض الذهب والنجاح السهل، وانتشر الخبر كالوباء في القرى الجبلية البخيلة ما بين فلسطين ولبنان وسوريا، المهاجرون الأولون حملوا بعض المسابح والأطواق والأيقونات الزائفة يبيعونها هناك باسم أنها آتية من الأراضي المقدسة، وركض أحد المهابيل في القرى الجبيلة اللبنانية يصيح:

- آباؤكم! أولادكم! على البحور! على البحور.

وكانت الصيحات تتردد كأنها دعوة إلى لملمة الذهب، صارت حلم الشباب والمغامرين بعضهم باع قطعة الأرض الموروثة عن جده، والآخر أساور أمه، وثالث رهن بيته وشجرات التين التي حوله، ورابع استغني عن الكرم والمعصرة،وتدفقت الدريهمات إلى صناديق وكلاء البواخر.. إلى أين؟ إلى "أمالكا ". لم يكن أحد من هؤلاء المغامرين على الموج يعرف أين هي "أمالكا"هذه!! كل الذي يعلمونه أنها بعيدة جدا وراء البحور، بعضهم أنزله وكلاء البواخر في مرسيليا أو على سواحل جزر الأنتيل، وبعض في أراضي السرتون القاحلة بالبرازيل، وبعض في الأرجنتين، أو على شواطئ نيكاراغوا أو فنزويلا أو كولومبيا، كل وحظه! ولقد يتجمع جماعة منهم حول واحد يحمل بقايا رسالة كان تلقاها من قريب له في بعض المواضع فينزلون الشاطئ معه، ويسافرون في بر الله قاصدين ذلك المجهول الذي قد يفاجأ بهم وقد يرحب في الغالب، وقد يهرب!! فالقاعدة في المهجر "رب.. أسألك نفسي"!.

مع نزول المهاجرين إلى الباخرة التي تعوي على شواطئ الشام تبدأ في الواقع الملحمة، كما تبدأ السيمفونية بالمواء، ويبدأ الزحام والمماحكة وتصيد الأكل، فإذا نزلوا على البر الآخر اشتد الضيق حتى قد يبلغ درجة البكاء الأخرس، ولكن من العيب أن يبكي الرجل إلا في ظلمة الليل، أنهار من الدموع ذرفت لا تدري بها إلا المخدة الحجرية!! ويضيع المهاجرون في البراري اللا نهائية، والمدن العمياء وراء الرغيف، والرغيف معلق بالسحاب!.

موجات الهجرة الأولى كانت تتصيدها ما بين أواخر القرن الماضي ومطالع هذا القرن شركات المطاط الأمريكية، تقمهم على البواخر النهرية جماعات، وتوغل بهم في نهر الأمازون الهائل أياما وأسابيع، الماء من حولهم وحولٌ حتى ينسد الأفق، وتتراءى الغابات أحيانا هنا وهناك، ولا شيء غير السماء الممطرة وخفق الدواليب المحركة للمركب النهري، أنصاف عراة يسافرون في ذلك المصهر الاستوائي، تفترس الملاريا حمرة خدودهم والجوع المزمن يطحنهم طحنا، والويل لمن يثور، إن مصيره في معد "البيروا" تلك الأسماك الصغيرة جدا التي تعرق الجثة في دقائق. وتزرعهم المراكب على الشواطئ مع بعض الزاد، بين أحدهم والآخر كيلومترات عدة، مهمتهم الإيغال في الغابة الظلماء مع الوحش والهوام والحشرات يبادلون بالخرز والقماش مع الهنود سائل المطاط، حتى إذا عادت السفينة تلتقطهم وجدت بعضا قد أكله النمل المفترس، وبعضا فتكت به الوحوش، وبعضا اغتالته سهام الهنود!.. وتمضي السفينة لا تأبه.. فمن هم؟ إنهم مجاهيل، أسماؤهم الأصلية عيسى النجار أو حسين اللحام أو على الريماوي نسيت، بدلها لهم منذ وصلوا أصحابهم فهم ليسوا سوى: خيسوس كاربنتيرو، وخاسينتو كارنيرو، وإلياس ريما، فمن يمكن أن يسأل عنهم في تلك المجاهل حتى من أقربائهم؟. المحظوظون الذين يصلون المدن الكبيرة، يتشبثون بأرصفتها وهناك ينفقون آخر فلس من أثمان مسابحهم وأيقوناتهم المجلوبة في الخمر أو القمار الرخيص، أو يأكلهم الذباب في انتظار من يدعوهم لعمل.. ولا عمل إن صح إلا تصيد الفراش كل خمس بقرش، أو العمل في المحاجر بأنفاق الجبال العميقة.. ويبدأ المغترب جولة المذلة على الأبواب، من باب لباب، يطرد هنا، ويصفق في وجهه المصراع هناك، ويطارده الصبية في الأزقة:

- توركو! توركو!.

وإلا طاردته الشرطة، أوراقك؟ جوازك؟ سكنك؟ رخصتك؟ قبل أن ينالوا منه المعلوم!.

ذات يوم جاءني صاحب أعرفه من حلب في سوريا، كان أرمنيا نصرانيا، وقد وصل سان باولو قبل شهرين فقط، ولكنه جاءني يبكي:

- كيف السبيل إلى العودة؟.

وعرفت منه أنه جاء معه بكمية من الدولارات هي حصيلة عمره، صرفها فارتفع سعر الدولار بعد ذلك أضعافا مضاعفة فلم يعد معه ما يكفي ثمنا لبطاقات العودة. وقلت: ولماذا تعود؟.

قال: عندي بنتان في الثالثة عشرة والرابعة عشرة وقد اخترت لهما مدرسة الراهبات، وهما الآن تبكيان في البيت وتصران على العودة إلى كنف جدتهما بحلب، والسبب أن كل البنات يعيرنهما بأنهما ليس لديهما عشاق!!.

من يبكي الغربة الذابحة؟

ما تناول شاعر مهجري أو كاتب موضوعا من موضوعات هذه الغربة الذابحة فبكى وأبكى، ما تحدث أحد عن الدروب كالثعابين تنزلق في عتمة الغاب، لا شيء عن الكوابيس الرهيبة التي كانت تزور المغترب كل ليلة، وإذا ترق تغيب بعض الليالي، لا خبر عن العذاب الذي كان يستريح في عروقهم كحيات الغضب، لا كلمة عن أولئك الذين كانوا يدفنون تعاستهم في الخمارات الرخيصة عند كأس مرة! وينبش أحدهم من جيبه رسالة اهترأت منذ ثماني عشرة سنة ويقرؤها للمرة الألف، إنها الرسالة الأخيرة من الأهل قبل أن يضيع عنهم ويضيعوا عنه، ويروي بعضهم قصة بيعه للكرم والبيت، وبعد ستة أشهر لم يبق معه شروي نقير فكتب لرفاقه مع مكتوب أمه زجلا يقول:

قول للشباب الـ عالسفر لا يولفوا

وكل واحد بضميره بحلفو

تسعين مرة بقول باليوم القصير

كريستوف كولومبوس يلعن أم الـ خلفو

فيأتيه الجواب بعد فترة من بعض أصدقائه:

حنا ابن طنوس، بالله بحلفك

على السفر والبعد شو اللي كلفك؟

كريستوف كولمبوس شو اللي عم تشتمه

عقلك براسك يلعن أم الـ خلفك

كل هذا الذي ذكرت ليس الملحمة الحقيقية، ولكنه بعض الصور الظاهرية منها، وبعض أطرافها الجانبية، إنها ألصق بلحم المهاجر وأكثر إيغالا في أعصابه الثائرة مما نتصور، وفي قلبها من المآسي والفواجع ما يتحجر معه القمر وضوء الفجر، وتبهت القبور ويموت الموت!.

واحد فقط من الجيل الثالث للمغتربين كتب الملحمة ولكن بالبرتغالية! فجاءت صغيرة الحجم، عاجزة القوافي عن استيعاب الآلام الجحيمية، فلم يكن إلا سوق حتى لدى المغتربين، فلا هم قرأوها ولا وصل الوطن منها قافية! غرقت بين جيل لا يريد أن يذكرها، وبين وطن في تصله منها نسخة! أما في الأدب والشعر المهجري القادم من وراء البحار فلا خبر! أين آثار هذه الملحمة التي خرقت عظامهم خرقا؟ أين ناب الجوع في أمعائهم كالسكاكين، ونهش القمل، والغوص في الوحول تعلك بقايا الأحذية، ورعب كل لحظة من كلمة توركو؟ أين نزيف الذل، عانوه ثم عانوه وعانوه، كمثل مرارة الحنظل أو أشد نكرا؟ وأين ذكر أولئك الذين لفظهم المهجر هياكل معروقة مسكونة بالسعال والسل؟ وأين خبر تلك الجماجم التي ألقيت على الطرقات وأكلتها الطيور والوحش، وفرغت أوقاب عيونها فهي منبت للطحلب الأخضر؟ لا شيء من ذلك في الأدب المهجري، لم أجد شاعرا مهجريا انساح الأمازون في شعره محيط وحل، ولا من استنزل اللعنة على ناطحات السحاب باعتبارها مدقات لطحن الإنسان، ولا من وصف هوانه مع قطعان البشر بالآلاف في مصانع جنرال موتورز أو مناجم النحاس في شيلي، أو آبار البترول في فنزويلا!.

ثلاث لغات.. ثلاثة آداب

ويأتي بعد هذا السؤال الثالث: ذهب المغتربون إلى أمريكا، ضربوا في أوسع أرض الله، اضطروا مرغمين أن يتحدثوا بالإسبانية والإنجليزية والبرتغالية، وإلا فكيف يتعاملون مع الناس أخذا وعطاء؟ وأولى وصايا السابقين منهم إلى اللاحقين ألا يتحدثوا بالعربية، أنا لا أتحدث عن الجمهرة الواسعة التي كان معظمها على الأمية وعلى تعليق الأحرف فحسب، ولكن عن الشعراء والأدباء، أعني عن تلك الطبقة التي فرضت نفسها شعراء وأدباء للمهجر، وصدرت إلينا إنتاجها دواوين شتى وأدبا ومجلات وصلت المئات، هؤلاء نزلوا في بيئات تموج بالشعر ألوانا وبالأدب غدقا وبالقصص لا ينتهي، ويرفدها من وراء ذلك أدب إنجليزي خصيب، وأدب إسباني وآخر برتغالي، ثلاث لغات عريقة تصب إنتاجها في هذه البيئات الجديدة، وتغنيها، كتاب وروائيون وشعراء من خمسة قرون كانوا هم الخلفية الإبداعية لهذه الآداب، وحسبك بشكسبير وبيرون واليوت وبرنارد شو، وبسرفانتس وعترته التابعين حتى خيفيتس وساليناس وانطونيو واشادو ولوركا، إذا لم نذكر لوبه دي فيغا البرتغالي ورعيل البرتغال الكبير.

ترى أين كان أدباء وشعراء المهجر العرب من هذا الفيض الهائل من الآداب الثلاثة؟ أكاد أجزم أن أحدا منهم لم يقرأ حرفا من هؤلاء جميعا، ولا مر على مكتبة تبيع ما كتبوا، اكتفى بالدواوين العربية التي تأبطها من الوطن أو حفظ بعضها في جيبه وراح يهدر بالشعر والأدب، وليس في هذا بأس أبدا، ولكن أهذا الشعر والأدب هو ابن المهجر؟ من وجهة نظر الجغرافيا بلى! قد كتب في أمريكا، وأما من حيث المضمون والأجواء الشعرية ولفتة الخيال وهيمنة الأسرار فهل هو أمريكي؟ هل أخذ وأعطى مع تلك الآداب الأخرى فتأثر بها أو قبس عنها، وأتى منها ببعض الكنوز؟ ببعض الآثار التي تكشف تفاعله معها؟ ترى لو بقي هذا الأدب المهجري في السويد أو روسيا أو ألمانيا يهدر بالقافية العربية عشرين وثلاثين سنة فهل كنا نسمي هذه القافية شعرا مهجريا؟ والذين يكتبون الآن قصائدهم في لندن وباريس ومدريد بالعربية ويصدرونها إلينا منذ ثلاثين سنة لماذا لا نقيم لهم المهرجان ونحتفل بشعرهم المهجري، أليسوا والذين في أمريكا سواء؟. شرط الغربة أن يظهر أثرها في الأدب المغترب، أن يشعر القارئ لها بطعم غريب خاص، ولم أجد في الشعر المهجري إلا طعم بلادي، فاكهتها، طيونها، نعناعها، عنبها والقطوف، لا الثمر الثلجي مر بها ولا الاستوائي، ولا زغردة عصفور الليل ولا النسر الأشهب ولا رقصة السامبا على زبد الأمازون، فهل هو شعر مهجري، أم هي بضاعتنا ردت إلينا ويرحم الله الصاحب بن عباد؟!. ويأتي أخيرا السؤال الرابع: هل أثر هذا الأدب المهجري في الأوساط الأدبية التي نشأ فيها؟ هل ترك طابعا أو أثرا أو رمزا أدبيا هناك؟ قد يكون الجواب بديهيا فمن لم يختلط لغويا بالآداب الأخرى التي عاش في قلبها لا يمكنه أن يترك لمسة منه فيها، قد لا يبقى منه هناك ولا طابع الأقدام في رمال الشاطئ، الإصرار على الانقطاع اللغوي حرم أدباء المهجر وشعراءه لا من التأثير فقط في الآداب الأخرى ولكن من أن يعرفوا أيضا في مهاجرهم من قبل الجاليات الأخرى، هم هناك نكرات من التوركو والماسكاته وباعة الكشة، لا أكثر، جاءني إلياس فرحات مرة يبكي قائلا: تصور حتى ابني لا يعرف أني شاعر! الأديب المهجري اختار مع المهجر غربته الكاملة عنه، فهو غريب كمن يرطن بالصينية بين الطرشان! أولاده قد يعرفون أنه ينشد في المحافل:

رجعت والأشواق تكوي الضلوع فلم

يخفف من حنيني الرجوع

أحس في البعد وفي القرب جوع

أين إذن أهلي وأين الربوع؟

واحسرتي تهنا وتاه الدليل!

فيتضاحكون للعجوز الذي يبكي، لا يدركون أن كل مأساته كامنة في هذه الكلمات التي يجهلون.

ويزين أدباؤنا في المشارق خاصة أدب المهجر، ويكتبون فيه ويحللون، وأتساءل ما الفرق بين قصيدة قالها أبوماضي في الإسكندرية وأخرى قالها في نيويورك؟ وشفيق المعلوف هل كانت قصيدته في عزلة المشتاق تختلف لو أنه قالها في زحلة أو جونيه؟ والمجلد الضخم الذي يضم تراث الشاعر القروي هل هو إلا من وحي بلدته اللبنانية "البربارة" ولو أنه كتب معظمه في سان باولو؟ وهل كل هذا الذي جاءنا من شعر وأدب المهجر أكثر من خمر عتيقة في آنية جديدة.. ولعلها عتيقة مثلها؟.

ولكي لا يسيء فهمي الأدباء والشعراء في المهجر وخارجه أسرع إلى القول بصراحة ووضوح إني لا أعتبر الأدب المهجري شمسا زنجية أو أدبا مزيفا أبدا، ولعلي بالعكس أطرب لإيقاعاته الرائعة وأعجب أكثر حين أراه ينبت في صخر المهجر العقيم بهذا الألق الحلو، ولكني أردت ان أوضح أنه شعرنا وأدبنا نحن هاجر مع المغتربين ليعود مرة ثانية إلينا بأثوابه وأطواقه وتكسر حليه، منبته في المهجر ما أكسبه شيئا، وإن خسر، بلى خسر التجربة الكبرى في اللقاء مع البيئات الجديدة، وفي وصف التجربة التي عاش، وفي التفاعل مع الآداب الأخرى.

ويصوغون للأدب المهجري المزايا والنعوت، ويقولون إنه يتميز بالحنين إلى الأوطان، وأسأل: هل نسي الناس أن أول بيت في الشعر العربي في أول معلقة لأول الشعراء، و"حامل لوائهم إلى النار" امرئ القيس يقول في هذا الحنين:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

ألم يكن ربع شعر الشعراء منا حنينا إلى الأوطان، من شعر الأقدمين إلى أحمد شوقي؟.

ويقولون إنه سلس اللغة، بسيطها، ترى ألم تتبسط لغتنا وتسلس بعد أن غادرها الرافعي والمنفلوطي وتولاها طه حسين وأحمد أمين، إنها إنما تبسطت في المهجر لأن معظمهم هناك لم يكن يملك الثروة العربية التي نملك، ولا البيان القرآني الذي يدرج بيننا كل لحظة، ترجمة التوراة إلى العربية والتي تمت في أواخر القرن الماضي كانت مجال قراءاتهم مع ما يرشح لهم من كتب المشرق.

أين كانوا يعيشون؟

ويقولون إنهم كانوا يتجاوبون مع أفراح الوطن العربي ومآسيه وبطولاته الثورية وهزاته وأحزانه، أليس هذا دليلا آخر على أنهم كانوا يعيشون معنا لا في مهاجرهم، ويحسون آلامنا ألف مرة أكثر مما يحسون آلام تلك المهاجر؟ قلوبهم وعيونهم كانت أبدا معنا، وما كان المهجر سوى المنفى الاضطراري لطلب الرزق، وما كان ترحابنا بهم في جملته سوى ترحاب بصوت مساند، يردد على البعد شكاوانا وآلامنا ونضالنا وفجائعنا أيام الزحف الاستعماري، ثم الاستقلالات ومآسي فلسطين!.. أما مشاكل المهجر نفسه وقضاياه وعواصفه فما مرت لمهجري ببال أو قافية، كأنما هي تجري في كوكب آخر!!.

.. ثم ذبل الأدب المهجري، وذبلت أعلامه والمزاهر، كان نسغه منا وحروفه منا ورائحة قديسيه منا، ولم يخرج أبدا عن المديح الذي نعرف وعن الفخر والهجاء والغزل والرثاء الذي أثقل تاريخنا الأدبي منذ العصور الأولى، والآن قد مات، مات هذا الأدب المهجري كما لا بد أن يموت رغم بصيص بعض الجمرات تحت الرماد، انطفأ القنديل لأنه كان مستعار الزيت، كان بلا جذور وكان غريبا في منبته، فلا تبيض عيوننا من الحزن عليه، ولا تتحجر الشفاه! إنه أدب عربي مشرقي نبت جغرافيا بسبب هجرة أصحابه بعيدا عنا عبر البحار ثم عاد على الأشرعة إلينا، فلنطو هذا السرادق العالي المنصوب، فقد آن أن نكف عن الصلاة في محراب زائف، وأن نصمت عن ترداد القداس الأسود.. للفراغ!.

هل تراني أقنعت أم أن عش الزنابير سيثور؟.

 

شاكر مصطفى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات