الخطيب

  الخطيب
        

          نهض عريف الحفلة ليلقي كلمة الافتتاح ويقدّم المحاضرين كما هو مقرر في الدعوة الرسمية. العريف، اسم معروف ولن أذكر اسمه، رجاء لا تطلبوا مني ذلك. صوته مسموع في أمكنة ومناسبات كثيرة، يتكرر دومًا في الحفلات والندوات الأدبية والشعرية والأعراس والأطراح، صوته مدروس، هو درسه على نفسه وهو أول مَن اعتاد على صوته.. على حنجرته، مرآته اعتادت أن تراه يقوم بتمارين وحركات.. لكل جملة حركة، وخطوط تجعّدات وجهه تتغير حسب الموضوع، حركاته تشبه حركات قائد أوركسترا، ولكن دون نغم موسيقى، والعازفون هم يداه ورأسه وكل ما في وجهه.. فمه، عيناه، أنفه، رقبته وخاصرته ورجلاه، أما شعره الكثيف فله دور أساسي، يتمايل ويموج مع كل جملة وحركة رأس ورقبة، وكثيرًا ما يغطي شعره كامل وجهه ويبقى فمه مفتوحًا على مصراعيه، يخرج منه الآ... والإي والهاء والهيء والياء والييئ، إلى آخر المعزوفة، معزوفة الافتتاح التي يطيل وقت إلقائها، فجأة يسكت لحظة أو لحظتين، ثم يعود خافضًا صوته ولا يلبث أن يعود الصوت كاملاً وتعود معه الأوركسترا، ويدور ويحور ويمور ويشير ويسير ويطير وتطير معه الأحرف والجمل فيمتلأ بها جو الصالة، ثم يسكت، ينتهي.. ينهي خطابه راميًا نظرات على الجمع حيث تُسمع بعض التنهّدات. وبعد لحظات، ينفتح فمه ثانية، الآن دور القصيدة.. الناس نصفهم نيام، والباقي منهم يتمنى نهاية الكلام والخروج من حفل ليس له ختام. وراحت القصيدة تزعق بقوافيها، والأوركسترا بكل أعضائها تتحرك عاملة من الكلمة حركة، لكن المدعوين لاحراك عندهم، الصوت أنهكهم فأسكرهم فأنامهم، فجأة وقف أحدهم، نظر إلى الخطيب وقفز عليه وتبعه ثان وثالث، فضجت الصالة، فأصبحت للأوركسترا جوقة غنائية، كورس، فخلعوا الخطيب من منبره وخلعوا عنه ثيابه وأجبروه أن يتابع ويعيد ما قاله في أول الحفل، أي منذ ساعتين، عندما كانت الشمس شارقة مشرقة وما كان من الخطيب إلا أن يطيع الحاضرين، وضجّت الصالة بالضحك والمحاضر بثياب جلده، شارك الجميع باللعب والضحك وبالخطابات والأناشيد وتكسير الصحون والزجاجات المتطايرة في أجواء الصالة التي كانت نائمة فأفاقت بكل نشاط وبهجة.

          في اليوم التالي امتلأت الصحف بأخبار الحفل، وانتقلت العدوى إلى خطابات السياسيين، وزراء ونوّابًا وزعماء ورؤساء عائلات وقبائل ورجال زواريب، كل الشعب، الأشراف منهم والزعران.

          وتمضي أيام وليال وينتخب المحاضر زعيمًا اشتراكيًا وقوميًا ويمينيًا ويساريًا.. كل هذا، وهذا ما جعله مختارًا للرئاسة.. لرئاسة الشعب.
------------------------------
* فنان تشكيلي وكاتب من لبنان.

 

أمين الباشا*