"فالتر بنيامين".. وأثر التكنولوجيا وعلوم الإتصال على الفن رمضان بسطاويسي

"فالتر بنيامين".. وأثر التكنولوجيا وعلوم الإتصال على الفن

تبع أهمية فالتر بنيامين Walter Benjamin) 1940 - 1892) من تنبوئه بأثر التكنولوجيا على الفن ، ودور وسائل الاتصال في تغير الطابع التفردي للفن، وبالتالي فهو يعايش القضايا التي تثار الآن، ولم يقدم كتابا في اللغة العربية حتى الآن رغم أهميته، وأهمية كتاباته في فهم كثير من الظواهر الفنية والثقافية المعاصرة.

لقد التفت هذا الفيلسوف إلى جانب في الفن، لم يلتفت إليه الكثيرون وهو أن الفن ممارسة اجتماعية، وهو سلعة أيضا، يشترك في إنتاجها ناشرون لتباع في السوق كي تحقق ربحا، ولذلك فإن الوسائط التي تخلقها وسائل الاتصال الحديثة تؤثر في رؤية الفنان وفي تشكيل عمله الفني، ومهمة الفنان أن يعيد النظر في أشكاله الفنية، وفي قوى الإنتاج الفني المتاحة له، حتى يستطيع أن يطور فنه، فالشكل الفني عند بنيامين يتجاوز البنية المهيمنة السائدة في مرحلة اجتماعية معينة، وهذا يجسد قدرة الفن على تحريك الوعي الإنساني لكي يكون مبدعا، ويرى أن تحطيم الفصل بين الأجناس الأدبية يساهم في خلق علاقة اتصال جديدة بين الأديب والقارئ.

لكن قبل أن نستطرد في تحليل آراء بنيامين، يمكن تعريف القارىء به:

ولد في ألمانيا، ودرس في جامعة برلين عام " 1912 "، وفرايبورج "1913 "، وركز اهتمامه في الدرس على الأدب والفلسفة، فكان أول عمل منهجي له دراسة عن هولدرلين " 1915 " بدأ بها طريقا طويلا في الأدب الألماني الذي نبغ في نقده، وفي جماليات القرن التاسع عشر التي أفرد لها بعض دراساته، ومنها دراسته بعنوان: "مفهوم النقد في الرومانسية الألمانية" وقد نما اهتمامه بالقرن التاسع عشر بقراءاته لبودلير بعد زيارة لباريس التي أحبها ووصفها في دراسة ثرية وممتعة بعنوان: باريس عاصمة القرن التاسع عشر، وقدم دراسة عن شعر بودلير. وقد تأثر بأعمال جورج لوكاتش "1898- 1971 "، وتعرف إلى بريخت في عام 1929، وقدم خلال هذه الفترة دراسة عن رواية جوته "الميول المنتخبة"Les Af finifeoelectines ، نقد فيها استيفان جيورج ممثل الاتجاه التقليدي في النقد الأدبب، فثارت عليه الأوساط الثقافية، ولم ينج منذ ذلك التاريخ من سوء فهم الأوساط الأدبية ومعاركها، حتى رسالته التي تقدم بها لجامعة فرانكفورت للحصول على الدكتوراة، رفضت وكانت بعنوان: أصول دراما الباروك الألماني.

وانضم بعد ذلك إلى مدرسة فرانكفورت، وهي معهد للعلوم الاجتماعية لا يزال يمارس دوره المهم في نقد الثقافة المعاصرة، وتعرف في تلك الفترة على ماكس هوركهايمر "1895- 1973"، وتيودور أدورنو " 1903- 1969 "، غير أن المعهد كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة هربا من الحكم النازي، بينما فضل بنيامين الهجرة إلى باريس، وكتب دراسته الشهيرة: "الفن في عصر الاستنساخ الآلي " التي نشرت بعد خمسة عشر عاما من وفاته، فقد فارق بنيامين الحياة سنة 1940 عندما اختار أن ينهي حياته بالانتحار، حينما هدده موظف الحدود- بعد أن فشلت محاولته عبور الحدود الإسبانية- بتسليمه للنازيين، ولم يسطع نجمه بين أعلام علم الجمال والنقد وعلم الاجتماع إلا بعد وفاته، فذاعت شهرته، ونشرت جميع أعماله، وظهر عدد من الدراسات حول كتاباته. ورغم مرور أكثر من خمسين عاما على كتاباته، إلا أنها لا تزال الأعمال المهمة التي تقدم صورة للفن المستقبلي، لأنه كان خارقا في تنبؤاته، بشأن طبيعة الفن المعاصر، وارتباطه بتقنيات هذا العصر، بالإضافة إلى توصل بنيامين إلى فهم عميق لوقع التغييرات التي تعتري المجتمع البشري، وكيف تتفاعل وتؤثر في بعضها البعض لتوليد أشكال جديدة في الفن، فالسينما من الفنون التي ولدت مع أو نتيجة للتقنيات الحديثة، كذلك فن التصوير الفوتوجرافي، مما أدى إلى ظهور أساليب جديدة في إنتاج الأعمال الفنية واستقبالها زلزلت مجال الفن بأسره إلى الدرجة التي تجعله يقطع الصلة بالمراحل السابقة.

فالفن والأدب اللذان كان لهما على وجه الخصوص في القرن التاسع عشر طابع فردي، وكانا يتوجهان للفرد ذاته، تم دمجهما في القرن العشرين بالاتصال الجماهيري بما يسميه هوركهايمر وأدورنو "الصناعة الثقافية"، فلم يعد الفن مقصورا على هاوي الفن الذي يجمع الكتب النادرة، أو على مجموعة محدودة، وإنما أصبح بفضل وسائل الاتصال الحديثة متاحا للجميع، فالحفل الموسيقي "الكونسير" الذي يحضره مجموعة من البشر، يمكن أن يسمعه الملايين عبر الأقمار الصناعية في جميع أطراف الأرض، وهذا مكسب للفن، وتحول الفن- من وجهة نظر بنيامين- من حدث فردي إلى حدث جماعي، وأصبحت الإشكالية هل يمكن أن تستفيد أجهزة الإعلام في تقديمها للأعمال الفنية في أن تقوم بدور في تثقيف الحواس لاستقبال الفنون الرفيعة، القادرة على تحريك الوعي في الاتجاه الذي ينمي إمكانات الإنسان الروحية والمادية؟. ولذلك يهتم بنيامين بالإعلان وبالتصوير وبالسينما، لأن هذه الأشكال تخرج عن تقديم العمل الفني المتفرد، وتعتمد على القيمة الاتصالية بين العمل الفني والجماهيري، أكثر من اعتمادها على القيمة الجمالية، التي تجعل للعمل الفني "هالة" أو "عبقا" خاصا ينشأ عن تفرده.

والفن المعاصر الذي نواجهه في ملصقات الشوارع، وفي فن التصوير الفوتوجرافي والسينما هو فن ديمقراطي، تدخلت تقنية إنتاجه لتؤثر في قيمة العرض، ويتضح هذا بشكل واضح حين تحاول السينما نقل عمل أدبي من خلال تقنية السينما إلى المشاهد، فإنها لا تقدم النص الأدبي كما هو، حيث تنتفي المسافة بين النص من خلال وعيه المتخيل، وإنما تقدم صورة قابلة للترويج وللاتصال لدى ملايين المشاهدين الذين ربما لم يقرأوا النص الأدبي، يشاهدون الفيلم وتساهم المشاهدة الجماهيرية، نتيجة وجود هذه المسافة في إزالة الطابع الخاص للنص الأدبي، وقد استحدث بنيامين مفهوما إجرائيا استتب وشاع في الدراسات السوسيولوجية للفن، وهو مفهوم العبق "aura"، "أو ما يميز الأعمال الفنية التي يغلفها نوع من الهيبة والقداسة بفعل تفردها وثقل الدور الشعائري الذي تلعبه في المجتمع. ونتيجة للتطور التكنولوجي والاتصال، بدأت الفنون منذ عصر النهضة، بالتخفف من هذا التفرد حتى قضي عليه تماما في العصر الحديث من خلال وسائل الاستنساخ الآلي، وهذا المفهوم الذي قدمه بنيامين يساعدنا على فهم مجموعة من الظواهر المتعلقة باستقبال الأعمال الفنية وتصنيفها وتقييمها إلى جانب تطوير وسائل الإبداع الفني نفسها، والفنون في الماضي كانت مرتبطة بالاستقبال الفردي مما يتسم بنزعة تأملية، بينما ساهمت وسائل التكنولوجيا في تغيير هذا الاستقبال الفردي ليتحول لاستقبال جماهيري مرتبط بعلاقات المدنية التي يعيش فيها الإنسان المعاصر.

أثر التكنولوجيا على الفن

أدت تطورات تقنيات الاستنساخ الآلي إلى تغيير إنتاج الأعمال الفنية تغييرا جذريا، فاللوحة والتمثال أصبح من الممكن عمل صور شديدة التطابق مع الأصل لا حصر لها، ولكن مهما تضاهت النسخة المنقولة من العمل الفني مع الأصل، فإنها تفتقد عنصرين هما الزمان والمكان، ذلك أن خامات العمل الفني وطبيعته لا تظهر في النسخ المطبوعة التي تشير إلى زمانه ومكانه، وبالتالي تبين ظروف إنتاجه، وموقعه في التاريخ. والزمان والمكان هما محوران أساسيان للتفكير الاستطيقي عند بنيامين، لأن هذين البعدين يحكمان الوضع التاريخي لأي منتج من المنتجات البشرية، فهذا الوجود المتفرد للعمل الفني يظهر من خلال الأصل الذي يعكس التغيرات التي صادفته من وقع الظروف الطبيعية عليها من خلال الزمن، وهذا ما ظهر في الأعمال المصورة التي تنتمي لعصر النهضة مثلا، ولا يمكن التعرف على التغيرات الأولى إلا بالرجوع إلى النسخة الأصلية، سواء بالتحليل الكيميائي أو بالأشعة، ولا يمكن- بالطبع- القيام بهذه التحليلات على النسخ المصورة من الأصل، وقد أدى استنساغ الأعمال الفنية بكميات ضخمة إلى اختفاء مفهوم الأصالة في العمل الفني، لأنه ليس له وجود في أسلوب الاستنساخ الآلي. ولكن أسلوب الاستنساخ قدم إمكانات أكبر للفن، عوضا عن الأصالة، فمثلا يستطيع الاستنساخ أن يبرز جوانب في العمل قد تغفلها العين المجردة، ويمكن عن طريق التكبير والحركة البطيئة للكاميرا أن تتوصل إلى حقائق تجهلها الرؤية الطبيعية، وعن طريق هذه التقنية أمكن اقتراب العمل الفني من المتلقي، فأصبح عن طريق الاسطوانة نستطيع الاستماع إلى عمل موسيقي تم عزفه في مدينة تبعد عنا آلاف الأميال، ورؤية الأعمال المعمارية- مثل الكاتدرائيات الضخمة- من خلال فيلم سينمائي.

وتعددية النسخ التي يسمح بها الاستنساخ الآلي تؤدي إلى خروج العمل الفني من محيطه الخاص إلى مجال عام يسمح للمتلقي باستقباله في أي مكان، وقد أدى هذا إلى زلزلة عاتية للموروث الثقافي، فهذه الطريقة في إنتاج الأعمال الفنية، لا سيما السينما، تؤدي إلى تصفية العنصر التقليدي في الموروث الثقافي، فحين تعيد السينما إنتاج التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي، فإنها تبعثه وفق لمنظور الخاص للعصر الحاضر، الذي تسيطر عليه قيم أخرى، غير تلك التي كانت سائدة في هذا التاريخ، فالسينما حين تعيد تقديم رحلة كريستوفر كولمبس لجزر الهند الغربية، فإنها تقدمه من منظور المكتشف، بينما هو من منظور الثقافة الوطنية لسكان الجزر غاز لهم، وساعد الاستنساخ في تنمية النزعة الاستهلاكية لدى الجماهير في السيطرة على امتلاك الأعزل الفنية، التي أصبحت متاحة للجميع، ولهذا تحول إنتاج الأعمال الفنية إلى عملية تجارية، فتستقطب الفنون القابلة للاستنساخ، وتراجعت الفنون غير القابلة للاستنساخ، وأصبحت قيمة العرض- أي إمكان نسخ العمل الفني- تأخذ مركز الصدارة على حساب القيمة الجمالية، وأصبح الفن يستخدم كأداة للدعاية ولترويج أيديولوجيات تبرر الحروب وتؤدي لشيوع منتجات استهلاكية محددة، وأصبح الفن يستخدم من قبل أدوات السيطرة في المجتمع حتى أصبح الإعلام - ذاته- بفضل التكنولوجيا سلطة تعيد صياغة وعي ووجدان الإنسان العادي في حياته اليومية. وقد أدى هذا في واقعنا العربي إلى تقدم فنون التسلية في التلفزيون والسينما على حساب الفنون الأخرى كالأدب والرواية والشعر، ولعل هذه الفنون الأخيرة تحظى بحرية أكثر نتيجة لعلم المسئولين بمحدودية تأثيرها بالقياس للسينما والتلفزيون، التي تعاني وجود رقابة متعددة، وتخلى الفن بذلك عن وظيفته الشعائرية لصالح الوظيفة السياسية، وبالتالي، أصبح الفن أداة للسيطرة والهيمنة بدلا من أن يكون أداة للتحرر.

قيم جديدة في فن المستقبل

أصبح يتم التأكيد على القيمة الاستعراضية للفن، إلى جانب قيمة قابلية العمل الفني للعرض عبر وسائل الاتصال، وهذه القيم لم تكن موجودة في العصر السابق، فالكاميرا التي كانت تتخذ من الوجه والجسم الإنساني موضوعا، أصبحت تهتم بالأشياء، والمدن، واستعراض قدرات الكاميرا في تقديم عالم باهر من الألوان والتشكيل، ونتيجة لهذه القيم الجديدة في الفنون المعاصرة، فإن الفن قد تحرر من أساسه الشعائري، وفقد مظهر الاستقلال النسبي، الذي كان يتميز به، حيث كان يتيح للفن السمو فوق منظور العصر الذي تحكمه علاقات جزئية، يستشرف آفاقا أخرى خفية من خلال التخيل، ولهذا يمكن القول إن تقنية الاستنساخ والاتصال قد غيرت من وظيفة الفن الجوهرية، ويمكن إدراك هذا بسهولة عند المقارنة بين الأداء الفني الذي يقدمه ممثل المسرح، وممثل السينما، فالأول يقوم بكل المجهود من خلال اللقاء الحي، بينما الثاني تقدمه الكاميرا من خلال لغة بصرية تقوم على المونتاج، واستخدام عدسات التصوير من زوايا معينة، فممثل المسرح أقرب للقيم الشعائرية للفن التي تقوم على المعايشة، بينما يلتقي ممثل السينما بالجمهور من خلال الكاميرا، فيظهر تفرد ممثل المسرح بحضوره الفني، بينما حضور الممثل يقوم على تقنيات السينما، وقد تنبهت شركات الإنتاج السينمائي لهذا، فتقوم بعمل "هالة" اجتماعية للممثل السينمائي من خلال أجهزة الدعاية، لكى يصدق المشاهد ما يراه على الشاشة، وتحول الممثل إلى أسطورة معاصرة، وهذا ناتج من أن هناك إحساسا عميقا بالغربة يعتري الممثل أمام الكاميرا، وهو نفس الإحساس الذي يشعر به المرء أمام صورته في المرآة، فالممثل أمام الكاميرا يواجه جمهور المستهلكين الذين يمثلون السوق، ويقدم لهم عمله وكيانه ووجدانه، وهو يتصل بهم عبر قنوات محددة للاتصال، ولكنه منفصل عنه، كما تنفصل مصانع الإنتاج عن أماكن المستهلكين، فالسينما تحاول تعويض ضمور "هالة" فنان المسرح في السينما من خلال بناء مصطنع لشخصية الممثل خارج الاستوديو، لتخلق نجومية تحتفظ بسحر الشخصية الآسرة. ونتيجة لهذه التغيرات في التقنية، والتي أثرت على إنتاج العمل الفني، أصبح "الحاسوب " في بعض الفنون يستخدم على نطاق واسع في الإعداد الدرامي، وفي تصميم كثير من الأعمال الفنية، وأدى هذا إلى فقد التمايز الذي يفصل بين المؤلف والجمهور، وأصبح الإنسان العادي- الذي أصبح بمقدوره الحصول على هذه الأدوات التكنولوجية- يتطلع لكي يؤدي دورا في السينما، أو يظهر في الصحف أو يمارس دور الكاتب في الصحيفة، مما أدى إلى ظهور تقييم جديد للكفاءة الفنية لدى المبدع، فهو ليس الذي يحافظ على استقلاله، ويتجاوز المحاكاة إلى الإبداع الخلاق، وانما هو من كان قادرا على أداء دوره المهني فحسب. ويبقى أن نشير إلى أن تقديم فكر بنيامين يعني إثارة هذه القضايا في واقعنا العربي، الذي لم يلتفت بشكل كاف لطبيعة العلاقة بين الفن والتكنولوجيا وأدوات الاتصال، هذه الأخيرة التي تتيح بدورها كماً من المعلومات لم يكن متاحا من قبل، وبالتالي فإن هناك صورة مختلفة للمتلقي في عصرنا الراهن عن المتلقي التقليدي.

فلم تتم دراسة تأثير هذه التقنيات الفنية في توصيل الأعمال الإبداعية على تحديد مساحة التخيل لدى الطفل، التي كانت واسعة في الفنون السمعية مثل الشعر والقصة، وتضاءلت مع فنون التجسيد البصري، وهل يؤدي هذا إلى بنية تخيلية مختلفة عن تلك التي كانت موجودة.. ولماذا لم يهتم الفكر العربي المعاصر بفلسفة التكنولوجيا والاتصال والمعلومات؟ وعلاقاتها بالأنظمة الثقافية السائدة هنا وهناك.. أسئلة كثيرة تطرح نفسها عند تقديم أفكار بنيامين التي احتفظت بقدرتها المتجددة على التخاطب مع عصرنا الراهن.. ولماذا لا تستفيد من إيجابيات التكنولوجيا في الفن، دون الوقوف عند سلبياتها، فهل يمكن التوقف عند إحصاء الأفعال والصفات في الشعر والرواية دون تحليل لجماليات الشعر والرواية؟.

 

رمضان بسطاويسي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




فالتر بينيامين