سلام ما بعده سلام.. ولادة الشرق الأوسط 1914 - 1922 دافيد فرومكين

سلام ما بعده سلام.. ولادة الشرق الأوسط 1914 - 1922

ترجمة: أسعد كامل إلياس
عرض: الدكتور محمد حسين غلوم

إن "العراق وما نسميه الآن الأردن هما اختراعان بريطانيان ".هكذا يصف لنا دافيد فرومكين بإطناب في مؤلف ضخم " 650 صفحة من القطع الكبير" المخاض العسير لولادة الشرق الأوسط الحديث مركزا على الفترة الواقعة بين 1914 و 1922، وهما تاريخا نشوب الحرب العالمية الأولى وانتهاء مؤتمرات الصلح، التي أعقبت تلك الحرب، والتي رسمت فيها الصورة النهائية لهذه المنطقة.

يذهب المؤلف إلى أن البريطانيين قلما خطرت على بالهم الإمبراطورية العثمانية وهم يدخلون الحرب إلى جانب فرنسا وروسيا ضد ألمانيا وإمبراطورية النمسا- هنغاريا في 1914. وحتى لو خطرت في بالهم فقد كان الافتراض العام أن ألمانيا قد تحاول إغراءها بالتحالف. لم يخطر في بال القادة البريطانيين أن الأمر هو عكس ما تراءى لهم: أي أن تركيا هي الساعية إلى التحالف وأن ألمانيا هي المتمنعة. وتكن هذه النظرة دون خلفيات. لقد كانت الدولة العثمانية تشهد آخر فصول تفسخها. إذ خضعت إيراداتها في عام 1875 إلى إشراف أوربي لسد عجز قدر بألف مليون دولار، فضلا عن وجود نظام "للامتيازات " كانت تمنح بموجبه معاملة خاصة للأجانب. أما أراضيها فكانت في تقلص مستمر. ففي 1908 فقدت البوسنة والهرسك لصالح إمبراطورية النمسا - هنغاريا، وتوسعت إيطاليا على حسابها بضمها لليبيا 1911 - 1912 واحتلالها لجزيرة رودوس وجزر أخرى قرب الساحل العثماني. وسلب منها ما تبقى من الجزء الأوربي في 1912-1913. وكانت البلاد خربة من الناحية الاقتصادية.

تلك كانت تربة خصبة لانتشار روح التذمر ولنشوء جمعيات معارضة استلهمت أفكارها من جماعات القرن التاسع عشر الثورية في أوربا خصوصا " الكاربوناري " الإيطالية. ووجدت هذه الجماعات أنصارا لها بالذات بين الجامعيين وطلبة الكلية العسكرية. ولأن السلطان عبدالحميد "1876- 1909 " كان مستبدا، فقد نشطت هذه الجمعيات في منطقة سالونيك- اليونانية حاليا- بعيدا عن رقابة أعين السلطان. وقد أصبحت أبرز تلك المجموعات جمعية الاتحاد والترقي أو حزب تركيا الفتاة بقيادة محمد طلعت "الذي أصبح فيما بعد وزيرا للداخلية". وكان أعضاء هذه الجماعة يقسمون على المصحف والمسدس. وحينما تمكن هذا الحزب من السلطة في عام 1908 أخذ يبحث عن الوسيلة لانتشال الإمبراطورية من تخلفها الاقتصادي، ويؤمن لها الحماية من الضواري الأوربية الكاسرة التي كانت تنهش جسدها المريض.

ويبين الكاتب كيف أن الإدارة البريطانية قد عاشت في وهم أن حزب تركيا الفتاة كان واقعا تحت إشراف الماسونيين اليهود. وكان ينظر آنئذ لليهود على أساس أنهم حلفاء للألمان. فقد بعثت السفارة البريطانية في إسطنبولاسطنبول في عام 1910 تقريرا أكدت فيه هذا الرأي استنادا إلى أن طلعت وزملاءه في الحزب كانوا يتخذون محفلا ماسونيا أقامه المحامي اليهودي أمانويل كاراسو في سالونيك - وهي مدينة يكثر فيها اليهود- مقرا لاجتماعاتهم تخفيا من شرطة السلطان السرية. ولم يغير رأيهم نتائج انتخابات البرلمان العثماني في 1908، الذي لم يكن من بين أعضائه الـ 280 سوى أربعة يهود، أما المدعو كاراسو فكان عضوا نكرة في حزب تركيا الفتاة!!.

أعادت برلين تقييمها لقيمة تركيا كدولة حليفة غداة الحرب، لكنها كانت تريد مقابلا لحمايتها خاصة أن تركيا لم تكن راغبة في التورط في الحرب. ما دفعها إلى تقديم الحماية هو العرض المفاجئ الذي تقدم به وزيرا الحربية والداخلية "أنور وطلعت باشا " للسفير الألماني في أغسطس 1914: وهو تسليم ألمانيا أضخم وأحدث بارجة حربية "السلطان عثمان الأول " التي كان من المقرر تسلمها في تلك الأيام هي واختل "رشادية" من أحواض صناعة السفن في بريطانيا. ويؤكد المؤلف أن أنور وطلعت كانا على علم بأن البارجتين كانتا في سبيلهما إلى الاستيلاء عليهما من قبل تشرشل إلا أنهما أخفيا الأمر على السفير الألماني!!.

في السادس من نفس الشهر حدث تطور مهم يعمل على جر تركيا نفسها إلى الحرب، فقد سمحت الحكومة التركية لسفينتين حربيتين ألمانيتين مطاردتين من قبل الأسطول البريطاني بدخول مضائق الدردنيل، وكانتا أصلا قادمتين لتعزيز الدفاعات التركية، وطلبت بريطانيا من تركيا كدولة محايدة، إما إخراجهما أو احتجازهما. بيد أن الحكومة التركية ادعت أنها ابتاعتهما بثمانين مليون مارك!!.

يعتقد فرومكين أن مغامرات أنور باشا قد أوردت الدولة العثمانية موارد الهلاك، فيصفه بأنه مغامر أكثر منه قائدا حربيا. أخذ أنور باشا يتطلع إلى الاستيلاء على أراض روسية، خاصة تلك الناطقة باللغة التركية، بعد أن احتمى بالبارجتين الألمانيتين وبعد أن حقق الألمان انتصارات كبيرة على الروس في نهاية أغسطس وعلى إثر إلغاء الحكومة "للامتيازات الأجنبية" في 8 سبتمبر وإغلاق مضائق الدردنيل في وجه جميع السفن الأجنبية في 26 منه، أوعز أنور باشا - بالتآمر مع جمال باشا- للبارجتين الألمانيتين بمهاجمة الروس في البحر الأسود فما كان من روسيا إلا أن أعلنت الحرب على الدولة العثمانية في الثاني من نوفمبر، وسبقتها بريطانيا بيومين من ذلك التاريخ، وكان هذا إيذانا برسم خريطة جديدة للشرق الأوسط.

بريطانيا تقتسم الإمبراطورية

بعد أن كان هم بريطانيا منذ حملة نابليون هو الاحتفاظ برجل أوربا المريض حيا، غدا همها الآن هو كيفية اقتسام الإمبراطورية بحيث يئول إليها جزؤها الأكبر، لذا شرعت بالتحرك على عدة محاور، كان أحدها إثارة رعايا الدولة العثمانية العرب على الحكم التركي.

كانت بريطانيا تعلم مدى تعاطف سكان تلك المناطق مع الدولة العثمانية باعتبارها خلافة إسلامية. والحق أنه باستثناء أعضاء جمعيتي الفتاة والعهد اللتين كانتا تطالبان بالانفصال، فإن النخبة العربية- بشكل عام - لم تفكر بالانفصال، وإن كانت ضد سياسة التتريك والمركزية التي كانت تتبعها جماعة الاتحاد والترقي. وعليه، فإن ما كان يفكر به شخص مثل اللورد كيتشنر "حاكم مصر السابق ووزير الحربية البريطاني في بداية الحرب " هو إيجاد خليفة عربي يحكم المسلمين بدلا من الخليفة العثماني الذي كان يراه وقد خضع كلية "للألمان واليهود". فضلا عن أنه في حالة عدم إيجاد بديل للخليفة العثماني فإن بريطانيا ستلاقي مصاعب مع مسلمي الهند المتعاطفين مع دار الخلافة. وكان الخيار الجذاب هو الشريف الحسين بن علي حاكم مكة، الذي أعطى تعهدا - في حال ثورته - من خلال مراسلاته مع مكماهون "المندوب السامي البريطاني " في القاهرة في 20 أكتوبر 1915، بأن يصبح حاكما للمشرق العربي. ويؤكد المؤلف أن الحسين كان مضطرا إلى عقد تلك الصفقة مع البريطانيين لأن قادة حزب تركيا الفتاة كانوا عازمين على عزله. غير أن ثورته التي أعلنها في يونيو 1916 لم تلاق شعبية كبيرة "فقد نظر إليها المسلمون عامة بعين الريبة ".

وما أن فرغت بريطانيا من مفاوضاتها مع الحسين حتى ابتدأته مع فرنسا متوصلة إلى اتفاقية عرفت بـ "سايكس- بيكو" في يناير 1916 تم بموجبها الاتفاق على تقاسم التركة العثمانية. أما اتفاقها مع الحركة الصهيونية فقد أملته اعتبارات "تكتيكية" متعلقة برغبتها في كسب اليهود إلى جانبها انطلاقا من فكرة وجود "تحالف بين اليهود والألمان " ورغبة في تقويض هذا التحالف.

ظلت الولايات المتحدة بعيدة عن الحرب. ومع حلول الربع الأخير من عام 1916 أصبح اعتماد الحلفاء عليها غير مقتصر على الإمدادات بل التمويل. ولقد دفعت سياسة ألمانيا المتهورة أمريكا دفعا إلى أحضان الحلفاء.

يذهب المؤلف إلى أن تطورين طرآ في مجرى المناورات السياسية والعسكرية كان لا بد أن يؤثرا على مستقبل القرن العشرين، أولهما أن الجيوش الغربية وجدت نفسها في حالة حرب مع روسيا- حليفة الأمس- إثر نشوب الثورة الاشتراكية فيها في أكتوبر 1917 بقيادة لينين. وكان هذا إيذانا بتغير النظرة إلى ألمانيا، حيث أخذت الأوساط البريطانية ترى في تدمير ألمانيا إخلالا بالتوازن في أوربا. ثانيهما هو ازدياد أهمية النفط. فقد كان الأسطول البريطاني قد انتقل إلى استخدام النفط وقودا بفضل جهود تشرشل.

ولم تكن بريطانيا تؤمن باستقلال العرب رغما عن وعودها وتطميناتها. وكان ما استقر عليه الساسة البريطانيون المتعاملون مع الشئون الشرقية قد عبرت عنه أشهر رحالة إلى الأراضي العربية قبل الحرب، جير ترودبل حينما قالت إن "العرب لا يستطيعون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم "!!.

الشرق يتحدى

بدأ تحدي الشرق - كما يصفه المؤلف - بثورة مصر المطالبة بالاستقلال 1919 وبالحرب التي نشبت في ذات السنة في أفغانستان وبالاضطرابات القبلية في الأردن في ربيع 1920 وبثورة العشرين في العراق. كان الاعتقاد هذه المرة في الأوساط البريطانية المتنفذة أن روسيا البلشفية هي المحرك لتلك الأحداث وأنها ضالعة في مؤامرة دولية بعيدة المدى هدفها تقويض الحكم البريطاني.

وخيم هاجس انتشار الثورات البلشفية في أوربا على مؤتمرات الصلح التي ابتدأت أواخر 918 و 1919، والتي انتهت "معاهدة سيفر 10 أغسطس 1920" بفصل الأجزاء الناطقة بالعربية عن الإمبراطورية العثمانية على أن تحتفظ بريطانيا بفلسطين وبلاد الرافدين، وتبقى شبه الجزيرة العربية مستقلة، في الوقت الذي كانت بريطانيا قد أخذت فيه فعلا مصر وساحل الخليج العربي. أما سوريا فقد أصبحت من نصيب فرنسا. إن لويد جورج "رئيس وزراء بريطانيا آنئذ"- يقول المؤلف- قد نجح بإضافة مليوني ميل مربع إلى إمبراطوريته إثر هذه المؤتمرات.

أما أمريكا التي انسحبت من التحالف في المدة 1919 - 1920 لموقف مجلس الشيوخ الرافض لاتفاقية فرساي وعصبة الأمم، فقد نادت بسياسة "الباب المفتوح " وركزت على حرية الحصول على الامتيازات النفطية في المنطقة. وقد دعت حاجة بريطانيا إلى الرأسمال الأمريكي، واعتبارات سياسية أخرى إلى السماح للشركات الأمريكية بالدخول إلى المنطقة، بل والعمل معا مع الشركات البريطانية وبالذات حينما ثبت وجود النفط بالعراق في 1920.

تقطيع أوصال الرجل المريض

أما قلب المشكلة - رجل أوربا المريض- فقد تقرر تقطيع أوصاله، إذ فرضت معاهدة سيفر شروطا قاسية على الدولة العثمانية، حيث لم تبق لها إلا أجزاء من الأناضول.

وأضحت اسطنبولاسطنبول في قبضة الحلفاء، يحكمها السلطان محمد السادس الذي اعتلى العرش في يونيو 1918، والذي لم يكن له هم إلا الاحتفاظ بكرسي حكمه.

رفض الضابط كمال أتاتورك- الذي كان خارج العاصمة- اتفاقية سيفر المذلة وأخذ بتنظيم فلول الجيش العثماني المنهار. ونجح في طرد البريطانيين من المنطقة في بداية 1916. وبدا أن الحظ يحالف أتاتورك - ليوقعوا على ميثاقه الوطني بإنشاء دولة تركية مستقلة. وفي نوفمبر 1922 قرر المجلس الوطني التركي عزل السلطان وهكذا جاءت نهاية الإمبراطورية العثمانية التي عمرت قرونا.

 

دافيد فرومكين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب - بالإنجليزية





غلاف الكتاب - بالعربية