الأمريكيون.. كيف ينظرون إلى الدين؟

الأمريكيون.. كيف ينظرون إلى الدين؟

يمثل الدين إحدى أهم الدعامات في بناء ونشأة واستمرار وتقدم الحضارة الإنسانية، وذلك في ظل ما يقوم به من دور رئيسي في صياغة حياة الإنسان وسلوكياته ومعاملاته وأخلاقياته، وتترسّخ هذه الأهمية المحورية في ظل حقيقة أن المجتمع الإنساني تتحقق وحدته من خلال اقتناء أعضائه بعض القيم المطلقة والغايات العامة التي تؤثر في السلوك، ويساعد تكاملها على استمرار المجتمع كنسق متكامل، حيث التأكيد على التضامن الاجتماعي، ونشر الأمن وضبط السلوك وتوجيهه بما يدعم استقرار النظم القائمة في المجتمع.

وعلى الرغم من هذه الأهمية التي يتسم بها دور الدين، فإن طبيعة العلاقة بين الدين والتغير الاجتماعي والسياسي، تختلف من مجتمع إلى آخر، بل وأحياناً من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى داخل المجتمع نفسه، وذلك تبعاً للموقع الاجتماعي للدين، وخصوصية هذا المجتمع وأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة.

وفي الحياة الأمريكية شكّل الدين واحدة من أهم القضايا في المجتمع الأمريكي عبر مختلف مراحل تطوّره، ورغم أن الدستور الأمريكي وتعديلاته تؤكد على العلمانية والفصل بين الدين والدولة، فإن الدين ظل يمثل عنصراً أساسياً من عناصر خصوصية الحياة الأمريكية، والتي تخضع لنظام من القيم تتفاعل داخله العديد من الأديان، ولكن بدرجات مختلفة وتفصل بينها مسافات اجتماعية واتجاهات فكرية ومذهبية تؤكد على هذه التعددية.

وأهمية دور الدين في الحياة الأمريكية ليست وليدة اليوم، ولكنها ترجع إلى البدايات الأولى لتكوين المجتمع، فأصل المجتمع الأمريكي يعود إلى تلك المستعمرات التي أسسها (البيوريتان) الفارون من الاضطهاد الديني في أوربا الغربية حتى يعبدوا الله على طريقتهم الخاصة في الدنيا الجديدة التي كانوا يحلمون بها، وفيها حاولوا تحقيق المثل العليا والتأكيد على مبادئ التسامح والحرية التي حُرموا منها. ولكن هذه الرغبة لم تمنع هؤلاء المهاجرين من ممارسة درجات من الاضطهاد الديني والسياسي ضد المذاهب والطوائف الأخرى، وهو ما ترتب عليه الحيلولة دون تحقيق الاندماج بين مختلف الأقليات، كما قاد إلى التعدد في القيم والثقافات والسلوكيات، وإلى تبنّي العلمانية في الدستور حيث ارتأى واضعوه في هذه العلمانية ضرورة يمليها هذا التعدد لمنع اضطهاد الأغلبية الدينية للأقليات التي تختلف اعتبارات عدة من بينها:

(1) تزايد قوة المؤسسات الدينية في المجتمع الأمريكي أمام ما تتمتع به من إمكانات ضخمة ودرجة عالية من التعليم، بحيث أصبح بإمكانها توفير التسهيلات المادية وتسخير الوسائل المناسبة لتحقيق أهدافها.

(2) الأساس الهشّ للنصرانية الحديثة وغموض مفاهيمها، فأصبح الفرد خاوياً تتقاذفه الأفكار والتيارات أمام غياب نظام متكامل لجوانب الحياة المختلفة، الأمر الذي ترتّب عليه تحوّل أمريكا إلى مسرح للعديد من الدعوات الدينية والفلسفية، وأصبحت تضم أكبر عدد من المذاهب الدينية في العالم، والتي يزداد عددها كل عام - إن لم يكن كل يوم - بما يستجد من مذاهب أرضية تفتّقت عنها أذهان البشر والتي يمثل معظمها نوعاً من الهراء الذي لا معنى له.

(3) أنه على الرغم من تعدد الإحصاءات التي تؤكد أن الشعب الأمريكي من أكثر الشعوب تديّناً - حيث يعلن 60 مليون شخص أنهم مسيحيون معمدون، و60 مليوناً يعتبرون أنفسهم مؤيدين للأخلاق الدينية، و50 مليوناً يتمنون أن يربى أولادهم في مجتمع أخلاقي، كما أن 84% من الأمريكيين يعتقدون أن الوصايا العشر الدينية لاتزال صالحة وضرورية حتى اليوم - فإن الأمريكيين لا يعلمون إلا القليل جداً عن العقيدة الكنسية، كما أنهم موزّعون بين المئات من الملل والنحل المتصارعة والتي أحياناً ما يلجأ بعضها إلى السلاح لتصفية عناصر المعارضين له.

(4) ما تشهده الحياة الأمريكية في السنوات الأخيرة وهي على مشارف القرن الجديد من حركة إحياء ديني واسعة النطاق تنتشر بين الشباب وخاصة مَن وصلوا إلى مراحل عالية من التعليم، وشهدت حياتهم نوعاً من الانتقال الحضاري، وتقوم هذه الحركة على الدعوة إلى فرض قواعد أخلاقية صارمة تضبط نطاق الحياة الخاصة وترفض كل ما من شأنه تدمير الهوية الفردية والعائلية، وكذلك الدعوة إلى الفصل بين التقنيات المتقدمة والقواعد الثقافية المسيطرة التي انبثقت عنها هذه التقنيات، وهو ما يفسّر براعة التيارات التي تضمها هذه الحركة في استخدام هذه التقنيات بكفاءة وفعالية، ومن أبرز المظاهر التي اتخذتها هذه الحركة في العقدين الأخيرين، تعدد الحركات الأصولية المسيحية والتي من أبرزها (الغالبية الأخلاقية) التي أسسها القس (جيري فولول)، و (اتحاد الحرية)، (التحالف الأمريكي للقيم الموروثة)، (اتحاد المحافظين الأمريكيين)، (عريضة الحقوق المتساوية)، (من أجل الأسرة)، (الصوت المسيحي)، (الدواوين)، (الكنيسة التوحيدية)، (معبدالشعب)، (شهود يهوه)، (بعثة الضوء الإلهي)، (هاري كريشنا)، (أممية الطريق)، (أبناء الرب)، (جون بيرش)، (كوكلوكس كلان)، وكذلك نجاح منظمة (أمة الإسلام الأمريكية) التي يقودها (لويس فرقان) في تنظيم أضخم مسيرة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في 16 أكتوبر 1995 والذي عُرف بيوم الخلاص والتطهير، وشارك فيها أكثر من مليون آفرو - أمريكي تحرّكوا إلى العاصمة واشنطن من مختلف الولايات الأمريكية، وخاصة الجنوبية، حيث التركيز الشديد للسود فيها، وفي خطبة في هذه المسيرة، قال (فرقان): (أيها الأخوة: إن النهضة الروحية ضرورة على كل منكم حين يعود إلى بيته يذهب إلى كنيسه، إلى هيكل، إلى جامع، حيث يتعلم الارتقاء الروحي، ليس هناك أناس في الكنائس أو في المساجد، الناس في الشوارع، علينا أن نعود إلى بيوت الله، علينا أن نحيي الدين في أمريكا، علينا أن نحيي بيوت الله، إنها ليست ملكاً للمبشّرين فيها، علينا أن نقتدي بموسى، بعيسى، بمحمد، وأن نتحوّل إلى خدام للناس ملبّين حاجاتهم..).

(5) زيادة تأثير الدين في الحياة السياسية في المجتمع الأمريكي، هذا التأثير الذي ينبع من جانبين، الأول سيطرة القيم البروتستانتية، والثاني تركيب المجتمع من العديد من الأقليات الدينية والعرقية، ويأخذ هذا التأثير العديد من المظاهر من بينها: التأثير فى ملامح الاتجاهات الرئاسية في وعي الناخب الأمريكي، وانتماء معظم الرؤساء الأمريكيين إلى الحزب الجمهوري الذي يدعمه البروتستانت، ومن ناحية ثانية، أن تعدد الأقليات الدينية كان سبباً في انتشار الصراع السياسي في المجتمع الأمريكي، حيث تحاول كل جماعة فرض القيم والأخلاقيات على ملامح الاتجاهات الأساسية والأنماط السلوكية في المجتمع، واستخدام سلطة الدولة في تحقيق ذلك، ومن ناحية ثالثة، تحوّل الكنائس إلى المشاركة بكفاءة وفعالية في عملية صنع القرار السياسي وخاصة فيما يتعلق بمصالح رعاياها أو بتصوراتها للمثل والمبادئ التي ينبغي أن تسود المجتمع، ومن ناحية رابعة، زيادة درجة الارتباط بين السلوك السياسي الفردي والدوافع والمطالب الدينية، فهناك العديد من الأفراد الذين يرفضون بعض مظاهر المشاركة الفردية إذا تعارضت مع المعتقدات أو الالتزامات الدينية التي يؤمنون بها.

وفي ظل هذه الاعتبارات، وأمام هذه المظاهر والسمات التي تحكم دور الدين في الحياة الأمريكية يمكـن القـول إن الـدين يوجّه عادات الجماعة وينظم الدولة عن طريق العديد من المؤسسات الاجتماعية، وإذا كان الدين في المجتمع الأمريكي لا يشترك اشتراكاً فعلياً في حكم الجماعة، فإنه يعد في طليعة المؤسسات السياسية التي تنظم هذه الجماعة، فالغالبية تعتقد أن الدين ضرورة لصيانة هذه المؤسسات وضمان استمرارها، وأنه إذا لم يعـاون الديـن على خلق المـيل إلى الحـرية والمساواة في نفوس الأفراد، فإنه ييسّر استخدامهما حيث يبقى الدين دائماً ذلك السر الغـامـض والقـوة غـير المرئيـة التي تستقر في أعماق الأفـراد، وتـرفـع من معدّلات ثقتـهم في أنفسهم.

 

عصام محمد عبدالشافي

 
 




نموذج لأحد المراكز الاسلامية في المدن الأمريكية





أحد المساجد التي تم إنشاؤها على مساحة كبيرة