لم تتهاوى الأنظمة الشمولية؟ هذا سؤال من الأسئلة الكبيرة التي تتعدد إجاباتها، لكنها في النهاية تعود لأسباب بسيطة، غير مرئية، وغير مباشرة، كبعض الأمراض القاتلة التي تصيب البشر ولا تظهر لها في مراحلها الأولى أي أعراض! وهي على تعدد ظواهرها تعود في النهاية إلى «غياب الحريات». فالقمع يسد عروق وشرايين النظام، ويمنع وصول التغذية إلى أعضاء الجسم الحيوية، والهواء إلى رئة النظام، فتتوقف وظائفه أو تتعرقل أو تتباطأ، وينتهي في القريب أو البعيد.

          سمعت حكاية طريفة جرت في الكويت قبل سنوات، فقد اشترى أحدهم سيارة جديدة أخذها من الوكالة لم يمسسها من قبله أي مشترٍ. ولكن ما هي إلا أيام حتى لاحظ مالكها وجود مشكلة غامضة في المحرّك، إذ كانت السيارة تتباطأ دون سبب واضح، وتبدو وكأنها تعاني من شح في الوقود. فأخذها صاحبها إلى الوكالة لفحصها واحتار في أمرها فنيّوها، لعدم وجود سبب واضح للمشكلة، ثم اقترح عليهم «ميكانيكي كراج» بجوار الوكالة، أن يفحصوا خزان الوقود من الداخل مرات عدة لمعرفة سبب عدم تدفقه بالقدر الكافي، مما لم  يجعل السيارة تصل إلى السرعة المطلوبة. وبالفعل، ومع الفحص الدقيق، اكتشفوا وجود طائر ميت داخل الخزان، مفتت الريش، ربما كان قد دخل هذا المكان في أثناء تجميع السيارة في المصنع، قبل استيرادها. وبالفعل، يقول راوي القصة، تم تنظيف الخزان، وانتهت مشكلة الوكالة، ومالك السيارة!

          في نوفمبر الماضي، أذاعت محطة CNN الأمريكية، أن عصفوراً قد عطّل أحد أكبر المشاريع العلمية في التاريخ، بعدما أسقط قطعة خبز في أكبر محطم للذرات في العالم، والذي يمتد على مسافة 71 ميلاً عند الحدود السويسرية الفرنسية، ما تسبب بتوقفه عن العمل. واعتُبرت المشكلة أحدث العقبات التي تواجه المشروع الذي كلف عشرة مليارات دولار، ويعرف باسم «صادم الهدرون الكبير»، وهو أكبر مسرِّع للجزيئات على سطح الأرض، الذي كان من المقرر استخدامه لمعرفة أسرار الذرة وتاريخ نشوء الكون.

          وكان الجهاز قد بدأ عمله في سبتمبر 2008، لكن مشاكل تقنية اعترضت استمرار التجارب فيه، ما تطلب إغلاقه لفترة من الزمن. وطرأت مشكلة جديدة - كما جاء في الصحافة يوم 9 / 11 / 2009 - تمثلت في وجود قطعة خبز داخل أنابيب التّسريع الخاصة بالجهاز، والممتدة على مسافة أميال خارج المختبر.

          وقال علماء إن المسرِّع كان في تلك اللحظة متوقفاً عن العمل، مضيفين أن سقوط القطعة خلال التشغيل كان سيدفع الجهاز تلقائياً إلى وقف العمل، لكن الأضرار الناجمة عن ذلك قد تكون كبيرة. ونقل «تقرير ريجستر» البريطاني العلمي عن البروفيسور «مايك لامنت»، العامل في المنظمة الأوربية للأبحاث النووية قوله: «يبدو أن قطعة باجيث (نوع من الخبز الفرنسي المستطيل) سقطت في المسرِّع، ويحتمل أن مصدرها أحد العصافير».

          وذكر الخبر الصحفي نفسه، أن بسبب النوعية الفريدة التي يتمتع بها الجهاز، وكذلك تعقيده التكنولوجي الخارق، فإن ذلك يعني أن عطلاً كهربائياً بسيطاً جداً يمكن أن يؤخر التجارب لفترات طويلة.

          ويعمل الجهاز في درجة حرارة قريبة من الصفر، وبالتالي فإن إصلاح أي جزء منه يتطلب إعادة تدفئة المنطقة التي لحقتها الأضرار، إلى نفس درجة الحرارة التي يمكن للبشر أن يعملوا في أجوائها. وهذه العملية تستغرق، وفق المخطط له، شهراً كاملاً، وإثر ذلك ينبغي إعادة تبريدها، وهو ما سيستغرق بدوره شهراً إضافياً.

          ومعروف أن مجموعة كبيرة من علماء الفيزياء وغيرهم، يعملون حالياً في هذا المشروع، لتنفيذ تجربة طموحة، بإطلاق حزمة بروتونات في أنابيب، في محاولة منهم لكشف أسرار الكون. وهكذا استطاع طائر مسكين جائع، أن يتسبب في خسارة ربما بالملايين، لمجرد عدم إمساكه ببعض فتات الخبز جيداً! فعرقل بذلك اهتداء البشر، لفترة غير معلومة، إلى أسرار الكون.

مستصغر الشرار

          اعتمدت مجتمعات كثيرة في مناطق العالم العربي على مياه الآبار بسبب قلة الأمطار وتوالي القحط والمجاعات في بعض السنوات وغير ذلك. ولهذا كانت للبئر أهمية حياتية فائقة في بعض الأحيان، فكان من بين المهن المعروفة تنظيف الآبار وتعميقها، وإخراج ما يرمى بها من حجارة أو تتكدس بها من أتربة وغير ذلك. وكانت البئر من أهم مستلزمات البيت الكويتي القديم لاستخدام مياهها لغسل الأواني والاستحمام. وكانت معظم مياه الآبار داخل المدينة، - كما يقول محمد جمال في كتابه عن الحرف والمهن الكويتية - ذات ملوحة عالية جداً، فيما عدا بعض المناطق المحدودة التي كانت مياهها قليلة الملوحة، وكانت تستخدم للزراعة، ومن الأمثلة الشعبية العربية «المجنون يرمي في البئر صخرة ما يطلعها خمسين عاقل»! ونحن نرى أن الكثير من الأمراض التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات تتسبب بها كائنات صغيرة لاترى إلا بالمجاهر. ونرى كذلك أن معظم النار من مستصغر الشرر. وأن الفتن الطائفية والأزمات - وأحياناً الحروب - تبدأ من حوادث فردية أو تهديدات كلامية.

          ونرى في التراث العربي قصصاً وأساطير ليست بالقليلة، تعزو كوارث مثل انهيار «سد مأرب» في اليمن إلى.. الجرذان! ويقول المؤرخ أحمد أمين في «فجر الإسلام»، أن هذا السد كان بين ثلاثة جبال تحصر ماء السيل والعيون، وليس للماء مخرج إلا من جهة واحدة، فسدّ الأوائل تلك الجهة بالحجارة الصلبة والرصاص. ثم يحدثوننا أن سبب خرابه «جرذان حُمر»، كانت تحفر السد بأنيابها، فتقتلع الحجر الذي لا يستطيع حمله مئة رجل، ثم تدفعه بمخاليب رجليها حتى تسد الوادي من الناحية التي يجتمع فيها الماء، ويفتح من ناحية السد! وقد عجزوا - يضيف المؤرخ - «عن أن يفهموا أن ليس هناك ارتباط صحيح بين هذه الجرذان الخرافية وخراب السد، وأن السبب الصحيح إهمال تعهد السد، حتى لم يعد يقوى على تحمّل السيل».

          أو كقصة القصر الذي بناه «الخورنق النعمان بن امرئ القيس»، تحت إشراف مهندس من الروم يقال له «سنَّمار». فلما أتم بناءه قال له سنَّمار: «إني أعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله». فقال النعمان: «أيعرفها أحد غيرك»؟ قال لا! فأمر به فقُذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطع، فضرب به المثل «جوزي جزاء سنمار». ويعلق المؤرخ أمين على هذه الرواية قائلاً: وقد صدَّقوا بهذه الخرافة مع استحالة تركيز القصر كله على آجرة واحدة». ثم يضيف: ونستخلص من هذا كله أنهم - أي العرب القدماء، «لم يكونوا يحسنون تعليل الحوادث، ولا يربطون المسببات بأسبابها ربطاً محكماً. ولم يكن هذا شأن العرب وحدهم، بل شاركهم فيه غيرهم من الأمم في طور مثل طورهم كاليونان، وأصبحت هذه الأشياء وغيرها موضوعاً لما يسمى «علم الميثولوجيا.. أو الأساطير». وحكي أن البادية قحطت في أيام هشام بن عبدالملك، كما يقول الأبشيهي في «المستطرف»، فقدمت عليه العرب، فهابوا أن يكلموه، وكان فيهم «درواس بن حبيب»، وهو ابن ست عشرة سنة، له ذؤابة وعليه شملتان، فوقعت عليه عين هشام، فقال لحاجبه مستصغرا شأن الغلام، «ما شاء أحد أن يدخل علي إلا دخل حتى الصبيان»!  فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطرقا. فلما أذن له الخليفة الأموي بالحديث قال: «يا أمير المؤمنين، أصابتنا سنون ثلاث، سنة أذابت الشحم وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين». فقال هشام: «ما ترك الغلام لنا في واحدة من الثلاث عذراً! فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم».

مفاجآت العلم

          ويحتفظ تاريخ العلم والاختراع بالكثير من القصص والمفاجآت الطريفة التي رافقت تطور مختلف العلوم وظهور الاختراعات وفي تاريخ حياة «أديسون» وحده، وهو العَلَم في مجال الاستفادة الواسعة من الكهرباء، الكثير من هذه القصص، وهناك حكايات تتناقلها كتب تاريخ العلوم عن مخترعين ومكتشفين آخرين، كالذين انكبّوا على تطوير الإرسال التلفزيوني، وفي مقدمتهم جون لوجي بيرد Baird (1888 - 1946) المخترع البريطاني، الذي اشتغل بتطويرالتلفزيون منذ أوائل العشرينيات من القرن الماضي، وبالرغم من أننا لا نستخدم اليوم أيا من تصاميمه في صناعة جهاز التلفزيون، فإن مواهبه، كما تؤكد المراجع، تمثلت في إثارة الاهتمام العام بهذا الجهاز.

          وقد بدأ بالبث لمجموعة صغيرة من المشاهدين في مطلع الثلاثينيات، ومع ذلك ففي عام 1936، اختبرت هيئة الإذاعة البريطانية نظم الأقراص الدوارة. وقد تابع بيرد أبحاثه حول التلفزيون الملون، ولعب دورا مهما في تطوير التلفزيون في بريطانيا.

          ومن القصص التي يرويها «محمد عاطف البرقوقي» في كتابه «قصص العلماء والمخترعين» عن «جن بيرد»، أنه بعد أن نجح في نقل صورة دمية، أراد أن يجرب الأمر على الإنسان، فكان أول إنسان قابله هو كاتب صغير اسمه «وليم تانتون»، وقَبِل، بعد مفاوضات سريعة، أن يقوم بالدور الذي طلبه منه «بيرد».

          وقد أجلسه «بيرد» أمام المرسل، وذهب إلى الغرفة المجاورة، حيث جهاز الاستقبال. ولشد ما دهش «بيرد» عندما لم يجد أي صورة على الستار، ولا أي شيء. فذهب المخترع إلى غرفة المرسل فرأى عجبا.

          رأى الشاب مذعورا من الأنوار الشديدة، ومبتعدا عن جهاز الإرسال، فأعطاه بيرد شلنين ونصف الشلن، وأغراه بالاقتراب من الجهاز ففعل بتأثير الإغراء بالرشوة، وعاد «بيرد» ثانية إلى جهاز الاستقبال، فوجد صورة الشاب ظاهرة بكل وضوحَ لقد قال «بيرد» عن هذا الحادث فيما بعد، إنه ليتعجب الآن كيف أن أول شخص نقلت صورته بالتلفزيون لم يقبل ذلك إلا بعد أن أرشاه!

          وقد سجل «بيرد» اختراعه للتلفزيون في 27 يناير 1926. ومن المفارقات اللطيفة بل المفاجآت التي يرصدها الدارسون لتراثنا الأدبي والفقهي، اهتمامات ابن حزم الأندلسي (994 - 1064). وقد بدأحياته الأدبية شاعراً، ثم تحول إلى النثر فكتب في الحب والتاريخ والدين المقارن والفقه. وخلّف في كل ميدان - كما يقول الباحث حسين أمين - ما لايزال يعتبر من أروع التراث العربي، خاصة «طوق الحمامة» و«كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل»، وكتاب «المحلّى» في الفقه. وقد أثر شعره تأثيرا عميقاً في أناشيد شعراء إسبانيا التروبادور البروفنساليين وأغاني الجرمان الغرامية Minnesingers. وقد أورد الكثير من قصائده في كتابه النثري «طوق الحمامة»، الذي هو أحب كتب التراث العربي إلى الغربيين، لا يكاد يفوقه شعبية عندهم غير «ألف ليلة وليلة». غير أن ابن حزم، من جانب آخر، كما يضيف الكاتب والدبلوماسي المصري حسين أمين هو نفسه ذلك الفقيه، الذي إلى جانب كتاب «طوق الحمامة» في العشق، الذي عرف بأشد المذاهب الفقهية الإسلامية تعصبا وهو «المذهب الظاهر»، والذي كرّس معظم نشاطه الأدبي للهجوم هجوماً مريراً على مناوئيه من الفقهاء، ولايزال كتابه الشهير «المحلّى» يتمتع بشعبية ملحوظة في زماننا هذا، خاصة بين أفراد الجماعات الإسلامية المتطرفة. (المائة الأعظم في تاريخ الإسلام، ص165 - 166).

          ويقول عنه الباحث الإسلامي «عبدالمتعال الصعيدي»، إنه - أي الفقيه الأديب ابن حزم - «نشأ شافعي المذهب، وكان جمهور أهل الأندلس على مذهب مالك، فنشأ مخالفا لهم في ذلك، وقد أغراه هذا على التوسع في علوم الحديث وفقهه، فكان سببا في تركه تقليد الشافعي، واشتغاله باستنباط الأحكام من الكتاب والسنّة، حتى استقر به الأمر إلى اختيار مذهب أهل الظاهر، فزاد بهذا شذوذاً على مذهب أهل الأندلس، لأن جمهور المسلمين في هذا القرن قد أخذوا بتقليد المذاهب الأربعة المعروفة، وكانوا لا يرون حرجاً في الانتقال من بعضها إلى بعض، لتقاربها في المآخذ وأصول الأحكام، بخلاف مذهب أهل الظاهر، لأنه ينكر الأخذ بالقياس، وهو من الأصول الأربعة التي اتفقت عليها المذاهب السابقة.

          لم تؤثر كتاباته عن الحب والعشق في طباعه كثيراً، إذ كان كثير الوقوع في الفقهاء المتقدمين، لا يكاد يسلم أحد من لسانه، كما يقول «الصعيدي». ويُنقل عن أبي العباس بن العريف قوله: «كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج ابن يوسف الثقفي شقيقين، فنفرت عنه القلوب، واستهدف لفقهاء وقته، فتمالئوا على بغضه، وردّوا قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنّعوا عليه، وحذّروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه، فأقصته الملوك وشردته عن بلاده، وامتدت أيدي العامة إلى كتبه حرقا وتمزيقا ولم يزل ابن حزم مشردا ينتقل من مكان إلى مكان إلى أن توفى عام 1063». (انظر: المجددون في الإسلام، عبدالمتعال الصعيدي، 1962، ص190 - 192).

          ولقد بدأنا الحديث بالكلام عن علل سقوط الأنظمة الاستبدادية، ونعود إلى مواصلته فنقول إن الفيلسوف ورجل السياسة الإنجليزي جونلوك (1632 - 1703)، الذي عرف بدفاعه الصلب عن الحرية السياسية والتسامح الديني، وتأثرت بأفكاره الثورة الأمريكية وكل من روسو وفولتير، يشرح الفروق بين اغتصاب السلطة وحكم الطغيان. فاغتصاب السلطة، كما نقرأ في كتاب د. محمود محمد ربيع، الفكر السياسي الغربي، «هو التغيير غير القانوني لشخص الحاكم، أي أنه يتناول الأشخاص فقط وليس أشكال الحكم أو القواعد التي يسير عليها. بينما الطغيان في ممارسة السلطة هو تجاوز الحدود المسموح بها دستوريا وقانونيا من أجل تحقيق طموحات ومصالح ونزوات الحاكم الشاذة». وكم هو صعب في معظم الأنظمة الدكتاتورية و«الاستبداديات»، التمييز بين اغتصاب السلطة وحكم الطغيان!.
--------------------------------
* كاتب من الكويت